د. زينب الحسن أبو علي
تقــد يـــــم :
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير من أدبه ربه وبعثه لإتمام صالح الأخلاق محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار ومن تبعهم من الأبرار.
وبعد فإن موضوع التربية من المواضيع الهامة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في عصرنا الحالي، حيث تناولها الدارسون بالبحث والمناقشة في كل جزئية من جزئياتها حتى يقضوا على أسباب الخلل الذي يظهر في المجتمعات من تضييع للقيم وتغييب للأخلاق...
وقد جهدوا في دراسة الطبيعة الإنسانية، وقاموا بتحليل شامل للظواهر الاجتماعية واستعانوا بنظريات فلسفية قديمة قدم البشر فوق الأرض، وأضافوا توجهات تربوية يرون أنها مستجدة تخدم العصر، وهم بين هذا وذاك يعترفون بأن أفضل تنظيراتهم لا تحقق الكمال المنشود، فتركوا الباب مفتوحا لمن أراد أن يدلي بدلوه لعله يأتي بجديد لم يجرب في هذا المجال.
وتعرض التربية لهذا التجريب المطرد ليس بالضرورة في صالح المنظومة التربوية في المؤسسات التعليمية، إذ يفاجأ المرء بنظريات إصلاحية في التربية تفرض عليه دون أن يفهم أبعادها ومصادرها وغاياتها، بل وحتى وسائل تنفيذها، ما يخلق نوعا من الضبابية عند بعض من يشتغل في مجال التربية، ولهذا كان لزاما علينا الوقوف على مفهوم التربية أولا في الفكر الإسلامي، وما هي الدعائم التي يقوم عليها النظام التربوي في الإسلام؟ ثم إلقاء نظرة فاحصة على التربية في الفكر الحديث ومعرفة أصوله الفلسفية والتربوية للوقوف على الفروق بين التصورين، ومعرفة أيهما الأصلح للمجتمع والأنفع له.
فما معنى التربية أولا ؟ وما هي الأسس التي تقوم عليها ؟ وما جدوى احترام القيم في المجتمع؟ وما هي الفروق بين حاجات المجتمع والتنظيرات المطبقة عليه ؟ وهل تجدي نفعا هذه التنظيرات التربوية في مجتمعاتنا ؟
إنه بدون تحديد تصور واضح للتربية والأسس العقائدية والنفسية والاجتماعية التي تقوم عليها، لا يمكن لأي من المنظرين أو المنفذين أن يكون على بينة مما يصنع، ومن ثم تضيع المجهودات وتهدر الطاقات.
أولا : معنى التربية في الفكر الإسلامي :
جرت العادة عند البحث عن معاني الاصطلاحات في اللغة العربية الرجوع إلى الأصل الاشتقاقي للكلمة، وهذه مفخرة تضاف إلى اللغة العربية ليس هذا مجال الحديث عنها، فبالرجوع إلى الأصل الاشتقاقي لكلمة التربية وهو رب وربي، نجد الراغب الأصفهاني يقول في معجمه(1) : ’’الرب في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، يقال ربه ورباه ورببه، وقيل: لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن، فالرب مصدر مستعار للفاعل، ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات نحو قوله {بلدة طيبة ورب غفور} سبأ : 15.
وبالرجوع إلى الأصول اللغوية نجد أن لكلمة التربية معنى الزيادة والنماء، وهو مشتق من ربا يربو ربا ورباية، وهذا المعنى يعاضد ما ذكر قبلا من الإنشاء حالا فحالا والإصلاح تدريجيا.
وقد استند بعض المتخصصين(2) انطلاقا من هذه الأصول اللغوية إلى أن التربية تتكون من مجموعة من العناصر أهمها مايلي:
1- المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها.
2- تنمية مواهبه واستعداداته كلها وهي كثيرة ومتنوعة.
3- إيصال كل مربي إلى درجة كماله الخاصة التي هيأه الله لها.
4- توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب للعمل في الأرض والقيام بحق الخلافة فيها عن الله.
5- التدرج في هذه العملية وهو ما يشير إليه الراغب الأصفهاني بقوله: ’’ حالا فحالا’’.
فالتربية بمعناها الشمولي في الفكر الإسلامي تهتم بالفرد منذ سنين عمره الأولى بادئة بالحفاظ على مقومات الفطرة السليمة والبراءة الأصلية التي خلقه الله عليها، وتنمية مواهبه واستعداداته الفطرية بصقلها وإضافة مهارات مكتسبة من الخبرات المختلفة التي تزخر بها الحياة وتوجيه ذلك كله بشكل تدريجي لصياغة كيان الإنسان بشكل إيجابي في كل نواحي الحياة، جسديا وعاطفيا واجتماعيا وفكريا وفنيا وأخلاقيا وروحيا وثقافيا، بالاستعانة بجميع الوسائل والطرق والأساليب المشروعة لتهذيب السلوك وصقل المواهب بغية إيصال الفرد إلى حالة الكمال الإنساني التي تمكنه من القيام بالتكاليف الشرعية وتحمل مسؤولية عمارة الأرض وحمايتها من الفساد لتحقيق خلافته عن الله فيها، والغاية من ذلك كله الحصول على رضى الله تعالى.
ولأن التربية تهتم بجميع ميادين الحياة تفعيلا وتوجيها وتنمية فقد وصفها أحدهم بأنها علم وفن وصناعة فقال: ’’وإذا كانت التربية هي إيصال المربي إلى درجة الكمال التي هيأه الله لها عن طريق مراعاة فطرته وتنمية مواهبه وقدراته وطاقاته بطرق متدرجة وتوجيهها للعمل في إعمار الحياة على عهد الله وشروطه، فإن ذلك كله يتم وفق وسائل وغايات العلم والفن والصناعة، فالتربية علم إخبار عن الحقائق الكلية والمعايير والقيم الإلهية التي يتلقاها الإنسان فيؤمن بها إيمان تسليم ويتكيف معها... وعلم إنشاء من حيث إنها محاولة للكشف عن الحقيقة ومعرفة للقوانين والسنن التي خلق الله الكون عليها... والتربية فن... فالفن تعبير موح هادف عن تجارب إنسانية منبثقة عن التصور الإيماني للكون والإنسان والحياة... تهدف إلى الوصول بالمربى إلى درجة الإتقان أو الإحسان في الأداء، فقيمة كل إنسان ما يحسنه... والتربية صناعة... تهدف إلى إقدار المتعلم على عمل معين بحيث يتناوله بالتغيير والتعديل والتطوير والمعالجة ليصير على شكل معين’’(3) .
نخلص إذن إلى أن معنى التربية في الفكر الإسلامي هو استثمار للفطرة السليمة التي خلق عليها الإنسان مع اتباع الأخلاق والقيم الإسلامية التي تنمي الفطرة السليمة في النفس البشرية إضافة إلى اكتساب خبرات ومهارات خارجية تنمي شخصية الفرد وتوجه مداركه وتصقل مواهبه فيما يعود بالنفع عليه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه وربما يتعداه إلى غيره من المجتمعات الإنسانية.
مفهوم التربية في الفكر الحديث :
إن محور البحث في الفلسفة التربوية منذ عهود التنظيرات الفلسفية هو الإنسان، هذا الكائن الحي القابل للنمو، والمرن القابل للتغيير والتعديل، والعاقل القابل للتعلم مدى الحياة، والفاعل المؤثر في المجتمع والمتأثر بمحيطه وبيئته التي يعيش فيها.
ولقد بدأ الحديث في طبيعة الإنسان منذ عهود سحيقة حيث قام على نظريات فلسفية مختلفة بسبب اختلاف فهم أصحابها لطبيعة الإنسان فمن قائل: إن الإنسان هو الذي يؤثر في الطبيعة ويغير مظاهرها، ومن قائل إن الطبيعة هي الفاعلة في الإنسان المغيرة لأحواله، ومن قائل إن عقل الإنسان أسمى من مهاراته الجسدية، ومن داحض لهذه النظرية بما يراه مقنعا... ونتج عن هذه النظريات الفلسفية مدارس مختصة في علوم التربية تطورت آراؤها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من وضع معايير لمفهوم التربية وأهدافها.
لقد تعرض مفهوم التربية لتعريفات كثيرة ومتباينة عبر عصور البحث في موضوعها، ذهب أهل الاختصاص فيها مذاهب جمة لوضع حد جامع مانع لتعريفها، فتفرعت التعاريف وتنوعت طرائق قددا، فنجد منهم من يقوم أولا باستعراض لتعريفات السابقين ثم يبدأ بتحليلها ومناقشتها وإضافة ما يراه مناسبا لها حسب فهمه لموضوع التربية، ومنهم من يبدع بخلق تعريف خاص به يراه لائقا ومناسبا لما هو بصدد الحديث عنه ولو أنني قصدت تقصي ما قيل في تعريف التربية لبذلت في ذلك جهدا جهيدا وزمنا ثمينا ثم خرجت من ذلك بتقصير مخل لم يستجمع أطراف القضية، والسبب في ذلك كما قلت تعدد التعريفات التي ألصقت بمفهوم التربية وشرحت بمفاهيم ومصطلحات توازيها غموضا مثل: (4) عملية التعلم- عملية التوجيه – تنمية مهارات- عملية نمو عقلي وبدني وانفعالي واجتماعي- ضبط تام للسلوك- عملية تكيف بين الفرد وبيئته- تطوير السلوك- اكتساب خبرة أو خبرات – تطوير قدرات – خلق كفاءات – اكتساب قيم – نسق اجتماعي- نظام سلوكي- استثمار اقتصادي- إعداد العقل السليم – عملية حفظ التراث ونقله ... الخ ما يضعنا في متاهة لا متناهية من المصطلحات الثقيلة التي أراها هي نفسها بحاجة إلى شرح وتعريف بيد أني أسلم- إذا ما اتفقنا على ماهية هذه المفاهيم المذكورة- بأنها تساهم كلها وبشكل فعال في إنجاح التربية بأهدافها العامة والخاصة.
فالتربية لها ارتباط وثيق بالتعلم، لكن لا تنحصر بالتعلم المدرسي بل هو ممتد إلى ميادين تربوية أخرى كالأسرة والإعلام والأصدقاء وغير ذلك مما يدخل في تكوين المجتمع، كما أنها تتم عبر نمو الفرد، تحيط بالفرد وتلزمه بنظام سلوكي معين يضبط ردود أفعاله ويصوغها في كفاءات فعالة ونافعة ينتظمها النسق الاجتماعي المراد حفظ قيمه وتراثه ونقله إلى غد يتطلع إليه دائما لكونه أفضل وواعد.
وهذا قريب مما ذهب إليه المفكر المعاصر فيليب فينكس في: فلسفة التربية حين وصفها بأنها عملية نموذجية متكاملة ومتوازنة تهتم بالنمو الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي(5) . وإزاء هذا الرأي ظهر من يرى أن للتربية أصولها الاقتصادية، وتعتبر مجالا للاستثمار وهي عنصر أساسي في التنمية الاقتصادية كما يعتبر أن : ’’ التربية تجاوزت وظيفتها الجديدة في تنمية العقل وصقل الذوق وتنشئة الناشئين على قيم خلقية مجردة إلى وظيفة أكثر اتساعا تنظر إلى التعليم على أنه جزء من ثقافة المجتمع يرتبط ارتباطا كثيرا بالاقتصاد...’’ (6) .
وكان الاقتصادي المعروف ألفريد مارشال من أوائل من أبرز القيمة الاقتصادية للتربية حيث أكد على أن أبلغ أنواع رأس المال هو رأس المال الذي يستثمر في البشر وقال: ’’إن التربية استثمار قومي’’(7)
لكن اعتبار التربية استثمارا اقتصاديا فقط تعسف على مفهوم التربية، حقا إن التربية هي مشروع أمة تتضافر فيها مجهودات المنظرين مع جميع الأطر التنفيذية النشيطة في المجتمع كل حسب اختصاصه لتحقيق أهداف مخصوصة يصبو إليها المجتمع.
أسس التربية في الإسلام :
خلق الله تعالى الإنسان على الفطرة السليمة وكرمه بالعقل، وأنزل له منهجا ربانيا يستنير به في قيامه بحق الخلافة في الأرض ولم يتركه لنفسه، بل تعهده بعناية مستمرة فأرسل إليه رسلا مبشرين ومنذرين لئلا تزيغ به الأهواء أو تضله النزوات.
وقد ختم الله تعالى أنبياءه ورسله بمحمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي قال عز من قائل في حقه : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6]. وبين سبب رفعة شأنه فقال عنه : { وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4] وقال أيضا: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
وقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده(8) عن سعد بن هشام بن عامر قال: أتيت عائشة فقلت : يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ((كان خلقه القرآن)) فعلمنا أن الله تعالى تعهده بالتأديب والتربية على الأخلاق الفاضلة العظيمة التي ذكرها القرآن الكريم، إعدادا له على تحمل مسؤولية تربية أمة بكاملها وفق منهج جديد وشامل لكل مناحي الحياة مستمد من القرآن والسنة، هذا المنهج التربوي يقوم على أسس عظيمة لا غنى عنها لتطبيق التربية كما تصورها منظومة الفكر الإسلامي:
أولا: التربية على أساس رباني: يقوم النظام التربوي في الإسلام على مصدرين هما القرآن والسنة فهو ’’يعتمد على الوحي ويزود الإنسان بمجموعة من الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة التي توجه عمله وإسهامه، بل وتعينه على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله(9) ويتصف هذا الأساس بصفات الكمال والشمولية والاستمرارية، فهو نظام كامل باعتبار أن مصدره إلهي وليس بشريا كما أنه شامل لجميع مناحي الحياة، لا يدع جانبا إلا وسن له أحكاما وتشريعات تنظمه وتضبط توجهاته كما أنه مستمر باستمرار الحياة، دائم مادامت، وصالح لكل زمان ومكان، لا يخلق مع توالي السنين ولا يبلى مع تغير الأزمان، وفي هذا الشأن قال العالم الانجليزي يورك(10) : والقرآن الكريم بالإضافة إلى كونه من أجمل الروائع الأدبية في العالم كله دستور كامل من القوانين الأخلاقية والمدنية والعسكرية والاجتماعية وهو دستور يضبط سلوك المسلمين الذين يجب أن تكون جميع أفعالهم بمقتضى تعاليم القرآن الكريم، أما كون المسلمين يعتبرون أن قوانين القرآن الكريم، ثابتة ومعصومة عن الخطأ فيتضح من الحقيقة القائلة بأنه بالرغم من انقضاء ثلاثة عشر قرنا على نزول القرآن الكريم، فإنه لم يتعرض لأي تغيير أو تبديل، وبأن كل كلمة من كلماته وكل حركة من حركاته قد بقيت كما خرجت من بين شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيبقى هكذا دون أي تبديل أو تحريف، فالقرآن الكريم خالص من التدخل الإنساني وهذه حقيقة لا يمكن أن تقال لا كليا ولا جزئيا عن سائر الكتب المقدسة للأديان الأخرى’’.
لقد اهتم الإسلام في تنظيمه للمجتمع بإرساء قواعد قويمة من العدل والحق والمساواة والمودة والإخاء وجعل القيم الإنسانية التي يحملها الإنسان ويتعامل بها داخل مجتمعه عبادة الله وطاعة له وقياما بالواجب يحصل به الفلاح في الدنيا والسعادة في الآخرة، وحين ربط الإسلام بين عمل الفرد الدنيوي وثوابه في الآخرة جعل له حافزا قويا للتمسك بهذه القيم والأخلاق التي أصبحت لا غنى له عنها في حياته وسمت بروحه عن المادية البحتة التي ينشد صاحبها معرفة النتائج حالا دونما تطلع لما سيكون بعد الموت.
عديدة هي الآيات التي تقرن بين الإيمان والعمل الصالح وتجعل نتيجتهما الفوز بالجنة فمثلا قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلواة واتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة : 277. وقوله سبحانه { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم} لقمان: 8-9. ومثل هذه الأبيات كثيرة جدا في القرآن الكريم.
إن تصور هذه الآيات بالمنطق الرياضي يظهر بالشكل الآتي:
إيمان + عمل صالح = خلود في جنة النعيم. وهذا يعني أن الإيمان وحده لا يكفي للخلود في الجنة إن لم يكن دافعا وحافزا للعمل الصالح، وهذا العمل الصالح لا يكفي أن يكون عبادة محضة من صلاة وزكاة وصيام وحج فحسب بل يتجاوز ذلك إلى أخلاق ومعاملات وإنجازات وإسهامات في إعمار الأرض وإصلاحها تعود بالنفع على الفرد والمجتمع على حد سواء وهذه مسؤولية خطيرة وصعبة لا يحققها الإنسان على وجهها المأمول إلا إذا تربى على القيم التي يأمر بها الإسلام التي تعنى بجميع جوانب الحياة من ماديات وروحيات بدءا بتوطيد علاقته بربه وتثبيت عقيدة التوحيد في قلبه قال الله تعالى : { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل} الأنعام: 102 وقال عز من قائل: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلواة لذكري} طه: 14 وقال عز من قائل: {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما} طه : 98.
ثانيا: أساس الفطرة السليمة : خلق الله تعالى البشر على الفطرة السليمة والجبلة النقية التي هي أساس كل خير ونفع قال الله عز وجل : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} الروم: 30 وقال عز من قائل: { ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} يس:22.
إن معرفة النفس البشرية وكيفية تركيبها لهو ما يعين على إنجاح تربية الفرد تربية سليمة وملتزمة بالمعايير والمحاذير التي جاء بها القرآن والسنة، ومعرفة استقامة طبيعة الإنسان منذ خلقه يدفع إلى تنمية نوازع الخير بداخله بدءا من الإيمان الخالص ووصولا إلى السلوك القويم، وهذا ما يجعل الإنسان فاعلا في فطرته ومؤثرا عليها وحرا في تثبيت نوازع الخير فيها أو إبدالها بنوازع الشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (11) فذكر عليه السلام ما يكون من تغيير الآباء والمجتمعات لعقيدة المولود إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية ولم يذكر الإسلام لأنه دين الفطرة التي لا تؤمن إلا برب واحد وإله واحد قال عز وجل: { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسن كفورا} الإسراء: 67.
لهذا عرف بعضهم الفطرة في التصور الاسلامي بأنها:’’خلق الله الإنسان على الإسلام، أي شاهدا بعبوديته لله ومقرا بربوبيته ومزودا بالاستعدادات والطاقات الظاهرة والكامنة التي تمكنه من إصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل وفقا لمعايير منهج الله’’(12) ولذلك فهي تقوم على مجموعة من القواعد أهمها مايلي : (13)
1) أن الإنسان مفطور على الإيمان بربوبية الله ووحدانيته.
2) أن الفطرة الإنسانية ذات تكوين مزدوج.
3) أن الإنسان مخلوق باستعدادات متساوية للخير والشر.
4) أن الإنسان مزود بقدرة واعية كامنة فيه قادرة على الاختيار الحر للخير والشر سواء.
5) أن الإنسان حر، لذلك فتبعة أعماله ومسؤولياته تقع عليه وحده.
6) أن النفس الإنسانية هي جماع شخصية الإنسان.
فالفطرة إذن أساس التربية الناجحة، إذ لما كانت التربية عموما تسعى لغرس القيم الفاضلة في نفس الإنسان وتوجيه سلوكه في نسق مقبول اجتماعيا ودينيا أتت الفطرة لترسخ هذه القيم وتؤسس لها داعمة لتصورها ومشجعة له بدءا من الصغر وقبل أن تتغير معالم الفطرة بما يتعلمه الإنسان من نوازع الشر قال بعض الباحثين في مجال التربية(14) ’’ من المعلوم أن الطفل ولد مزودا باستعدادات فطرية لتقبل الخير أو التوجه نحو الشر، فهو يخرج إلى هذه الدنيا صفحة نقية خلوا من كل علم قابلة لأي نقش، فكل علم أو خلق أو طبع يوجد لديه في مستقبل حياته إنما يكتسب من البيئة، فإن عود الخير اعتاده وكان من السعداء في الدنيا والآخرة ونال والده وكل من أسهم في تربيته الأجر والثواب وإن عود الشر وأهملت تربيته شقي وهلك دنيا وأخرى وكان الإثم على من وكل إليه أمر تربيته، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إنما العلم بالتعلم).
فللإنسان إذن استعدادات فطرية على فعل الخير أو الشر، وهو حر في اتباع أيهما يشاء لأنه مخلوق مميز ومكتسب للخبرات التي يزخر بها محيطه وله قدرة على توجيه نفسه، وحرية في اختياراته، ويتحمل مسؤولية قراراته وهذا يقودنا إلى الأساس الثالث الذي تقوم عليه التربية في النظام الإسلامي وهو العقل.
ثالثا : العقل أساس التربية : لا يكتفي الإنسان بما جبل عليه عند خلقه، بل إنه ينمو ويتعلم ويتغير ويختار ما يريد تغييره في نفسه لأنه يمتلك قدرة على تقبل ما يريده وله استعداد لرفض مالا يختار، ومعياره في كل ذلك هو العقل: قال الله تعالى { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} الإنسان: 3.
وقال عز من قائل: { ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين} البلد: 8-10 وقال عز من قائل: { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} الشمس: 107.
وقد تحدث ابن خلدون عن خصائص عقل الإنسان فقال: (15) ’’وأن الله تعالى ميزه بالفكر الذي جعل له يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي، أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه وهو العقل التجريبي، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا وشاهدا على ما هي عليه وهو العقل النظري وهذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية ويبدأ من التمييز’’.
و كلامه هذا يعزز ما سبق ذكره من أن الفطرة التي خلق عليها الإنسان سليمة تدفعه إلى الاختيار فسماها ابن خلدون بالعقل التمييزي و جعل ما يكسبه من خبرات في الحياة يحصل بها الآراء و يتعلم المصالح و المفاسد عقلا مكتسبا و سماه تجريبيا واعتبر تصور الإنسان للطبيعة و الحياة عقلا نظريا.
وبغض النظر عن هذه التقسيمات يبقى العقل مكمن المعارف والحقائق ومصدر التجارب و الخبرات و معيار التمييز عند الإنسان و به يرتفع عن مدارك الحيوان عندما يوظفه في إدراك المعرفة بطرق صحيحة ومن أصولها الشرعية، أما إذا ترك العقل دون توجيه فإنه يقلب الحقائق و يحيد عن الحق قال جل ثناؤه : { و قالوا لو كنا نسمع أن نعقل ما كنا في أصحاب السعير } الملك : 10 و قال عز من قال {و ما يعقلها إلا العالمون} العنكبوت : 43
و هذا ما أكده ابن خلدون بقوله(16) : ’’ فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد الذي في علمه، و عالم بالكسب و الصناعة لتحصيله المطلوب بفكره الشروط الصناعية كشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالأذكار التي أفضلها صلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و بالتنزه عن المتناولات المهمة و رأسها الصوم، و بالوجهة إلى الله بجميع قواه، و الله : ’’ علم الإنسان ما لم يعلم ’’ العلق: 5 ’’
فالعقل الذي كرم الله به الإنسان جعله مناط تكليفه ، فلا ينتظر من فاقد عقل أي شيء من التكاليف الشرعية التي فرضها الله تعالى فضلا عن أن ينتظر منه شيء من القيم الأخلاقية و هذا ما جعل العقل من أسس التربية المتينة، حيث أن ما يبنى على القناعة العقلية يصعب هدمه، فالإنسان بطبيعته مجبول على التفكير و المنطق العقلي، و يحاول أن يجعل لمداركه سببا و نتيجة لتقبلها و العمل بها، فيبني عنده قناعات عقلية تشكل تصوره الخاص عن الكون و الواقع، لهذا كان لزاما على كل من يروم تربية النشء أن يخاطب عقولهم و يوسع آفاق مداركهم فذلك قمين بأن يسم عمله بالجدية و يثمر بالقبول.
رابعا : القدوة الصالحة أساس التربية الناجحة : لما أدب الله تعالى نبيه الكريم محمد صلى الله عليه و سلم بالأخلاق الطيبة و الشمائل الكريمة جعله قدوة لمن في الأرض جميعا ليقتدوا به في معيشته و عبادته و معاملاته، قال عز من قال : ’’ لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر وذكر الله كثيرا ’’ الأحزاب 21، فجعل الاقتداء به من الواجبات الدينية، فكان عليه السلام هاديا و داعيا إلى الله و مربيا و حاكما و قاضيا بين الناس و إماما عليهم، و كل ذلك بكلامه و فعله، فنجد من سننه عليه السلام ما هو قولي و ما هو فعلي، بل و ما هو تقريري يقر به كل خلق نبيل أو عمل صالح يصدر من غيره قال عليه الصلاة و السلام: ’’ إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق(17)
و لا تنحصر القدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل تتعداه إلى صحابته الكرام و كل من تبعهم في هديهم ناصحا لنفسه و للمسلمين ، قال جل ثناؤه :{كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تومنون بالله} آل عمران: 110 و قال عز من قائل : {محمد رسول الله، و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود } الآية .. الفتح : 29.
و تتعدى القدوة إلى كل ذي مسؤولية في المجتمع، حيث أكد الإسلام على أن المؤمنين هم قدوة لبعضهم البعض، و قدوة لغيرهم كذلك حرصا على تيسير التربية، لأن طبع الإنسان يأنف من كثرة النصح بالكلام، و ينفر من اتباع من يخالف قوله فعله، و قد ذم الله تعالى فاعل ذلك قائلا عز من قائل: { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } الصف 3.
و تأتي القدوة هنا كأساس لتثبيت النصيحة القولية التي هي وسيلة من وسائل التربية و جعلها مسؤولية كل من له وظيفة في المجتمع ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ’’ كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع و مسؤول عن رعيته، و الرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته ، و المرأة راعية في بيت زوجها و مسؤولة عن رعيتها، و الخادم راع في مال سيده و مسؤول عن رعيته ’’ قال الراوي: و حسبت أن قد قال : ’’الرجل راع في مال أبيه و مسؤول عن رعيته، و كلكم راع و مسؤول عن رعيته’’.(18)
فجعل الإسلام كل واحد في المجتمع مسؤولا عن وظيفته بدء من الحاكم، ووصولا إلى الخادم . و كلهم يشتركون في رعاية مصالحهم و مصالح غيرهم، فيعمل كل داخل وظيفته بما يرضي الله تعالى، فالأم مثلا تربي أبنائها على صالح الأعمال، و من ثم فهي مطالبة بأن تكون قدوتهم في ذلك، إذ لا يجوز أن تكذب الأم أمام ابنها ثم تنهاه عن الكذب و لايعقل أن تغش في واجباتها ثم تربي ابنها على عدم الغش لأن ذلك يثمر فقدان ابنها الثقة في نزاهتها ومن ثم في قدراتها و أهليتها للتربية، فيبحث عن قيم أخرى خارج البيت غير تلك التي توفرها له أمه، و يرى فيها تناقضا صارخا و توحي له بأن هذه القيم الصالحة غير نافعة في الواقع و عكسها هو الصحيح، و هذا إن لم يتبع الأم في فعلها و يهمل قولها.
و ما يقال عن الأم يقال عن غيرها كالأب و المعلم و العالم و الرئيس في العمل و الإمام في المسجد و الحاكم ... الخ فكل رئيس ينبغي أن يكون قدوة لمرؤوسيه و جوبا و ليس اختيارا، و الا انتفت عنه بعض شروط القيادة الصحيحة، و فقد الأهلية فيما يخص التربية أو التوجيه أو القيادة.
و نجد في تراثنا ما يوافق ذلك و يعززه: فقد كتب عمرو بن عتبة بن أبي سفيان إلى مؤدب أبنائه يقول : ’’ ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح نفسك فإن أعينهم معقودة بعينيك، فالحسن عندهم ما استحسنت و القبيح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله ، و لا تكرههم عليه فيملوه، و لا تتركهم منه فيهجروه ثم روهم من الشعر أعفه، و من الحديث أشرفه، و لا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، و روهم سير الحكماء و أخلاق الأدباء، و جنبهم محادثة النساء، و تهددهم بي وأدبهم دوني، و كن لهم كالطبيب الذي لا يعجل الدواء حتى يعرف الداء، و إياك أن تتكل على غدر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك’’(19)
هكذا إذن، تبدو أهمية التربية بالقدوة، إذ تخرج التربية من إطارها التنظيري الذي كانت فيه ضربا من الأوهام و الخيالات ، إلى فضاء التنفيذ و التطبيق و الممارسة، و تلجئ صاحبها إلى مراقبة الله في نفسه أولا ثم في غيره، فيكون لنصيحته و إرشاده و تربيته وزن وقيمة، و نتائج طيبة على مستوى الفرد و المجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:’’من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها و أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، و من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء’’(20)
أسس التربية الحديثة :
تقوم النظرية التربوية الحديثة على النظريات الفلسفية القديمة في أهم مبادئها وفي تفسيرها العام للوجود والطبيعة والإنسان، و تتبنى الطرق التربوية على هذه التصورات التي أسست لها الفلسفة بجميع نظرياتها من مثالية، و وجودية، ومادية ... الخ ’’ و من هذا المنطلق فإن بول هرست و غيره من المربين الغربيين يدعون إلى إعطاء الفلسفة دورا رئيسيا في بناء النظرية التربوية، لأنها تمدهم بالقيم التي يريدون غرسها في الناشئة’’.
و لأن النظريات الفلسفية مختلفة في تصورها للألوهية و الحياة و طبيعة الإنسان و ماهية الوجود، اتسمت النظرية التربوية بهذا الاختلاف أيضا، فنجد مدارس تربوية عديدة تختلف عقائد واضعيها ، فمن اعتمد مثالية أفلاطون مثلا يعتبر العقل الإنساني بلا حدود و لا قيود، و أن الإنسان قادر على تعلم الفضائل و اكتساب سلوكها ، أو إن هذه الفضائل هي هبة إلهية إليه، أو أنها وراثية من والديه.
و قريب من هذا ما ذهب إليه هيجل مع تأخره في تاريخ الفلسفة عن أفلاطون بمئات السنين: حيث يرى ’’ أن العالم هو التعبير المتطور لعقل أو روح جاهدت لتجسيد ذاتها على نحو كامل في شكل مادي، فالإنسان كائن روحي يمارس حرية الإرادة و مسؤول عن تصرفاته(21) .
وفي القرن السابع عشر ظهرت نظرية أخرى مختلفة تماما عن مثالية أفلاطون وهيجل وهي نظرية جون لوك ’’الذي أبعد فلسفة التربية عن نظريات ما وراء الطبيعة ووجهها إلى التجارب العلمية، ورأى أن الأفكار غير فطرية في الإنسان ولكنها مكتسبة عن طريق التجارب القائمة على الإحساس والإدراك الحسي’’(22) .
ثم ظهرت نظرية فلسفية أخرى تهتم بالجانب الفطري للإنسان، معتبرة أن فطرة الإنسان خيرة ينبغي استثمارها في ما يعود بالنفع عليه، و من رواد هذه الفطرة، جان جاك روسو(23) الذي رأى أن الطبيعة خيرة و أن كل شيء يظل سليما ما دام في يد الطبيعة، ولا يلبث أن يمسه الدمار إن مسته يد الإنسان و يجب أن تعمل التربية على تهيئة الفرصة للطبيعة الإنسانية لكي تنمو متتبعة قوانين الطبيعة، أما أي فساد يظهر على الناس أو على المجتمع فليس من فعل الطبيعة بل من فعل المجتمع.
هذه الفلسفة الطبيعية في التربية أعقبتها نظرة تربوية حديثة سميت بالفلسفة البرغماتيه تزعمها شارلز ساندرز و بيرس و وليم جيمس و جون ديوي مع اختلافاتهم في طرائقهم و استنتاجاتهم، فهم يرون أن الطبيعة الإنسانية مرنة ووظيفية وأن التربية تعنى بتطور الفرد ؛ و بظهور نظرية داروين في التطور تأثرت الفلسفة البرغماتية بها من حيث إن حياة الإنسان معناها وجود سلوك و فاعلية و لكي تستمر الحياة و تستمر الفعالية يجب أن تتوافق مع البيئة و إن هذا التوافق يتطلب تغيرا في الكائن الحي و البيئة معا، أي إن هناك تفاعل مستمر بينهما، و كلما ارتقى الإنسان ازداد قدرة على تغيير البيئة و الوسط لسد الاحتياجات النفسية و البيولوجية و على ذلك فالطبيعة الإنسانية ليست فطرية و لا ثابتة بل هي متغيرة لأنها قادرة على التفاعل مع البيئة و المجتمع و هي قادرة على تغييرهما، و هذه المرونة تؤكد أن التربية قادرة على التأثير على المجتمع ، و أن الوراثة و البيئة عاملان مهمان في تكوين الشخصية و أن الطبيعة الإنسانية تتفاعل مع البيئة و مع المجتمع ككل...
و على هذه الصورة تلقى التربية صعوبة في البيئة الصلبة المتحجرة التي لا تخضع للتغيير و التطوير ففي العصور التاريخية المختلفة نجد أن البيئات التي كانت مرنة وقابلة للتغيير و التطوير أدت التربية فيها وظيفتها خير أداء و قامت فيها حضارات ناصعة و عكس ذلك صحيح. (24)
فالفلسفة البرغماتية تستثمر النمو كعامل فاعل في جعل التربية وظيفة حيوية وعملية مستمرة لاستثمار خبرات الحياة، قصد تحقيق الغايات و تنمية الذات في ضوء التوقعات الاجتماعية، و في إطار النظم و القيم و الثقافة التي تلائمها.
التربية الحديثة إذن، تستمد كثيرا من مبادئها و مفاهيمها من النظريات الفلسفية المختلفة، و تعمل على تطبيقها في الميدان التربوي، و بذلك تكون فلسفة التربية كما عرفها فنكس : ’’ هي تطبيق الطريقة و النظرة الفلسفية في ميدان الخبرة المسماة التربية ’’(25) أو كما عرفها فاجنر : ’’ إن فلسفة التربية هي تطبيق الفلسفة على مشكلات التربية، و على هذا ففلسفة التربية تطبيقات الأفكار و المبادئ و الطرق الفلسفية على تلك المشكلات التربوية التي تناسبها المشكلات الفلسفية أكثر مما تناسبها المعالجات العملية’’(26)
و ليست الفلسفة هي الأساس الوحيد الذي تقوم عليه التربية، بل هي الأهم والغالب، و إلا فإن التربية تقوم أيضا على الغايات السياسية و التوجهات الاجتماعية والأهداف العملية و المعرفية التي يختص بها كل مجتمع عن غيره، بل و تعتمد التربية على اللغة أيضا و التاريخ الخاص بالمجتمع و السمات الخاصة التي تنتظمها الأعراف والخصائص الاجتماعية، وتطبع هويته ، و حسب المقاصد القريبة و البعيدة التي يحتاجها ويتطلع إلى تحقيقها ، و لكن الفلسفة تبقى الأساس المشترك بين جميع التوجهات التربوية الحديثة التي وضعت لمسايرة الركب الحضاري الإنساني، و تبقى غيرها من الأسس متغيرات تختلف من مجتمع إلى آخر.
قال بعضهم في هذا الصدد: ’’ فوظيفة الفلسفة هي أن تشغل نفسها بالأفكار الأساسية التي تستغلها عادة بالمفاهيم التي تكون أساس اللغة أو التي تكون أساس المناقشة الفتية و المتخصصة، أما العلم فيأتي دوره بعد أن تقدم الفلسفة مفاهيمها العامة الشاملة الكلية لأنه يشتغل بالجزئيات و ليس بالكليات، فالفلسفة تبحث في تركيب العقل نفسه بينما العلم يبحث في الواقع المادي، و هنا يبرز الفرق بين الفلسفة و العلم، فالفيلسوف يبحث في كيفية المعرفة أساسا و في التصورات العامة للعقل في حين يبحث العلم في هذا الجانب من جوانب الكون مثل: الكيمياء و الفيزياء، و إن الفلسفة تبحث في أحكام المعايير في حين يبحث العلم في أحكام الوقائع. (27) .
الفلسفة إذن هي الأساس الذي تبني عليه التربية معاييرها وقيمها في نسق منظم للعلاقات بين الفرد ومجتمعه، وجامع لكل المعاني الروحية التي تقوم بدور التحفيز في النظام التربوي قصد تحقيق غايات الفضيلة والتطوير الذاتي عند الفرد والمجتمع.
ما مدى التوافق و الاختلاف بين المنظورين ؟
ثمة تساؤل ملح بعد هذه المقارنة العاجلة بين مفهومي التربية في الإسلام وأسسها، و ما يقابلها في الفكر الغربي الحديث، و هو : هل من توافق بين المنظورين الإسلامي و الغربي على مستوى الأسس التي تنبني عليها التربية ؟
إن ما جعل التأسيس للتربية صعبا هو كونه ينطلق من القيم الروحية لمخاطبة أفعال و سلوكات ملموسة، و هذا ما يدفع للاهتمام بنوعية القيم الروحية الملائمة لفكر وثقافة الفرد المناسبة لتطلعاته و آفاق طموحاته.
إن الفكر الإسلامي حين بنى قواعد ربانية للتربية ـ يهدف لأن تكون التربية بعيدة كل البعد عن العبثية و التجريب، بل إنه قصد لأن يجعلها مسؤولية تقوم على محفزات ومقاصد دينية و دنيوية و هذا الفرق جوهري بين الفكر الإسلامي و الفكر الغربي، يتضح هذا في كون الفلسفات الغربية استخدمت مفهوم الطبيعة بالمعنى الإغريقي القديم، فالطبيعيون و المثاليون و الواقعيون و الداروينيون يرون الطبيعة هي الأشياء و هي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، و الطبيعة في أصل الأشياء ... إذن فالطبيعة في الفلسفات الغربية و مدارس علم النفس القائمة عليها ليست من خلق الله بل هي خالقة الكون و سبب وجوده الأول، و بذلك يتصادم مفهوم الطبيعة في هذه المدارس مع مفهوم الطبيعة في الإسلام(28)
هذه النظرة إلى الطبيعة هي من الأسس الجوهرية التي تعمق هوة الفارق بين المنظورين، خاصة أن الحضارة الحديثة قامت على هذا التصور الفلسفي للطبيعة و الحياة و هو تغييب مقصود للجانب الغيبي الذي تؤمن به الحضارة الإسلامية، و هذا ما يخلق تضاربا في المفاهيم ، و قد عبر أحد علماء الحضارة : ألكسيس كاريل عن هذا قائلا : ’’ إن الحضارة الحديثة تجد نفسها في موقف صعب لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية ، إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية و شهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم، و على الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا و شكلنا’’.(29)
و لم يكن وحده من اعترف بفضل الفكر و الحضارة الإسلاميين، فقد سار ديدنه غيره كثير مثل بورك الذي قال: ’’ يهدف الخلق الإسلامي بأن يجعل من كل مسلم يدرك مسؤوليته الخاصة و هذا الوعي خلق شعورا بالورع و التقوى يعتبره الإسلام أسمى ضروب الفضيلة، و الإسلام يفرض على كل مسلم أن لا يفعل إلا الشيء الصحيح مهما كان كريها و عسيرا، كما يعتبر الصدق في التفكير و العمل الوسيلة اللازمة للخلاص و النجاة’’.(30)
هذا، وإن الحضارة الإسلامية أثبتت شموليتها في الإصلاح و التنظيم لجميع مناحي الحياة و جميع صنوف الناس أفرادا و جماعات، و هدفها الأساسي هو صلاح الأرض كلها و رفاهية الإنسانية و ليست مقصورة على عرف دون آخر ، أو جنس دون غيره، قال العالم الإنجليزي مار مادوك بيكتهول: ’’ إن الثقافة الإسلامية تختلف عن غيرها من الثقافات في أنها لا يمكن أن تكون إطلاقا هدف الفرد المثقف و غايته لأن هدفها ليس تهذيب الفرد أو الجماعة بل الجنس البشري بأكمله ... ألخ ’’(31)
من المنصف الاعتراف للحضارة الحديثة بتشجيعها للعقل البشري على التفكير في قضايا عصره بشكل يحقق الرفاهية للإنسان، و ييسر له سبل العيش الكريم، حيث إنها جعلت الإنسان محور الوجود و غايته، ووضعت التربية عاملا أساسا للحفاظ على القيم والأخلاق و الكفاءات التي تحفظ كرامته، لكنها وقعت في مزالق تغييب البعد الغيبي عن الواقع، و هذا شكل تناقضا تاما مع الفكر الإسلامي الذي استخدمه بشكل أساسي في تفعيل التربية و إنجاحها، فجعل الجانب الروحي خاصة الإيمان بيوم الحساب رادعا ـ بامتياز عن المس بالقيم و الأخلاق بشكل أو بآخر ، كما أنه يسر تحقيق عملية الثواب و العقاب التي تحفظ النظام في المجتمع.
----------------------------
لائحة المصادر و المراجع
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
- معجم مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، ضبطه إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت ط 1 ـ 1418ه 1997 م.
- مسند الإمام أحمد تحقيق محمد شاكر و حمزة أحمد الزين، دار الحديث القاهرة16 ـ 1416ه 1995م
- صحيح البخاري بشرحه فتح الباري دار مصر للطباعة16ب 1421 ه ـ 2001م
- صحيح مسلم دار المغني للنشر و التوزيع ـ السعودية 16 ـ 1419 ه 1998م
- البيان و التبيين للجاحظ : تحقيق : حس السندوبي : المكتبة التجارية الكبرى القاهرة ط 4 سنة 1956م.
- مقدمة ابن خلدون تحقيق الأستاذ درويش الجودي المكتبة العصرية ببيروت، ط 1427 ه ـ 2006م
- مناهج التربية أسسها و تطبيقاتها، د.عل احمد مدكور. دار الفكر العربي القاهرة16 ـ 1418 ـ 1998
- في أصول التربية : دافايز مراد دندش ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة و النشر الإسكندرية ط 1 ـ 2004م
- المدخل في التربية : دس.نازلى صالح أحمد و د. سعيد يس مكتبة الأنجلو مصرية القاهرة طبعة 1982
- نظام الأسرة في الإسلام د. محمد عقلة.ط1 1403 ه 1983م مكتبة الرشاد الحديثة عمان
--------------
الحواشي :
----------
1 - معجم مفردات القرآن، ص 208.
2 - مناهج التربية : ص 29.
3 - د. على احمد مدكور : مناهج التربية ص 30.
4 - في أصول التربية : د. فايز مراد دندش ص 16-17 وعلم التربية العالم : د. ابو طالب سعيد ود. رشراش عبد الخالق ص 138 وما بعدها ومناهج التربية د. علي احمد مدكور ص 29 وما بعدها
5 - علم التربية العام : 139-140.
6 - محمد عبد الهادي عفيفي: في أصول التربية ص 13 و14 عن طريق : في أصول التربية د. فايز دندش ص : 304.
7 - في أصول التربية : ص 304.
8 - مسند الإمام أحمد كتاب باقي مسند الأنصار باب حديث السيدة عائشة.
9 - مناهج التربية ص 14.
10 - الثقافة الإسلامية من بعض زواياها ص 69-70 عن طريق: في أصول التربية 229-227
11 - صحيح البخاري بشرحه فتح الباري: كتاب الجنائز باب ما قيل في اولاد المشركين : 3/354 ح
1385 وصحيح مسلم باب كل مولود يولد على الفطرة ح 2658.
12 - مناهج التربية ص 81.
13 - نفس المصدر ص 85.
14 - د. محمد عقلة. نظام الأسرة في الإسلام ص 30.
15 - المقدمة ص : 441-442.
16 - مقدمة ابن خلدون: ص 440.
17 - أخرجه الإمام احمد فن مسنده 5619 رقم 8932
18 - صحيح البخاري كتاب الجمعة باب الجمعة في القرى و المدن ح 893
19 - البيان و التبيين للجاحظ ((75/2.
20 - رواه مسلم في كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة.
21 - نفس المصدر ص 5.
22 - المدخل في التربية ص 12.
23 - نفسه : ص 13.
24 - نفسه : ص 21-22.
25 - علم التربية العام : ص 151.
26 - نفس المصدر والصفحة.
27 - نفس المصدر: ص 153.
28 - مناهج التربية ص 81.
29 - نفسه ص 79.
30 - نفسه ص 227.
31 - مناهج التربية ص 227-228.
*تربيتنا
تقــد يـــــم :
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير من أدبه ربه وبعثه لإتمام صالح الأخلاق محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار ومن تبعهم من الأبرار.
وبعد فإن موضوع التربية من المواضيع الهامة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في عصرنا الحالي، حيث تناولها الدارسون بالبحث والمناقشة في كل جزئية من جزئياتها حتى يقضوا على أسباب الخلل الذي يظهر في المجتمعات من تضييع للقيم وتغييب للأخلاق...
وقد جهدوا في دراسة الطبيعة الإنسانية، وقاموا بتحليل شامل للظواهر الاجتماعية واستعانوا بنظريات فلسفية قديمة قدم البشر فوق الأرض، وأضافوا توجهات تربوية يرون أنها مستجدة تخدم العصر، وهم بين هذا وذاك يعترفون بأن أفضل تنظيراتهم لا تحقق الكمال المنشود، فتركوا الباب مفتوحا لمن أراد أن يدلي بدلوه لعله يأتي بجديد لم يجرب في هذا المجال.
وتعرض التربية لهذا التجريب المطرد ليس بالضرورة في صالح المنظومة التربوية في المؤسسات التعليمية، إذ يفاجأ المرء بنظريات إصلاحية في التربية تفرض عليه دون أن يفهم أبعادها ومصادرها وغاياتها، بل وحتى وسائل تنفيذها، ما يخلق نوعا من الضبابية عند بعض من يشتغل في مجال التربية، ولهذا كان لزاما علينا الوقوف على مفهوم التربية أولا في الفكر الإسلامي، وما هي الدعائم التي يقوم عليها النظام التربوي في الإسلام؟ ثم إلقاء نظرة فاحصة على التربية في الفكر الحديث ومعرفة أصوله الفلسفية والتربوية للوقوف على الفروق بين التصورين، ومعرفة أيهما الأصلح للمجتمع والأنفع له.
فما معنى التربية أولا ؟ وما هي الأسس التي تقوم عليها ؟ وما جدوى احترام القيم في المجتمع؟ وما هي الفروق بين حاجات المجتمع والتنظيرات المطبقة عليه ؟ وهل تجدي نفعا هذه التنظيرات التربوية في مجتمعاتنا ؟
إنه بدون تحديد تصور واضح للتربية والأسس العقائدية والنفسية والاجتماعية التي تقوم عليها، لا يمكن لأي من المنظرين أو المنفذين أن يكون على بينة مما يصنع، ومن ثم تضيع المجهودات وتهدر الطاقات.
أولا : معنى التربية في الفكر الإسلامي :
جرت العادة عند البحث عن معاني الاصطلاحات في اللغة العربية الرجوع إلى الأصل الاشتقاقي للكلمة، وهذه مفخرة تضاف إلى اللغة العربية ليس هذا مجال الحديث عنها، فبالرجوع إلى الأصل الاشتقاقي لكلمة التربية وهو رب وربي، نجد الراغب الأصفهاني يقول في معجمه(1) : ’’الرب في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، يقال ربه ورباه ورببه، وقيل: لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن، فالرب مصدر مستعار للفاعل، ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات نحو قوله {بلدة طيبة ورب غفور} سبأ : 15.
وبالرجوع إلى الأصول اللغوية نجد أن لكلمة التربية معنى الزيادة والنماء، وهو مشتق من ربا يربو ربا ورباية، وهذا المعنى يعاضد ما ذكر قبلا من الإنشاء حالا فحالا والإصلاح تدريجيا.
وقد استند بعض المتخصصين(2) انطلاقا من هذه الأصول اللغوية إلى أن التربية تتكون من مجموعة من العناصر أهمها مايلي:
1- المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها.
2- تنمية مواهبه واستعداداته كلها وهي كثيرة ومتنوعة.
3- إيصال كل مربي إلى درجة كماله الخاصة التي هيأه الله لها.
4- توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب للعمل في الأرض والقيام بحق الخلافة فيها عن الله.
5- التدرج في هذه العملية وهو ما يشير إليه الراغب الأصفهاني بقوله: ’’ حالا فحالا’’.
فالتربية بمعناها الشمولي في الفكر الإسلامي تهتم بالفرد منذ سنين عمره الأولى بادئة بالحفاظ على مقومات الفطرة السليمة والبراءة الأصلية التي خلقه الله عليها، وتنمية مواهبه واستعداداته الفطرية بصقلها وإضافة مهارات مكتسبة من الخبرات المختلفة التي تزخر بها الحياة وتوجيه ذلك كله بشكل تدريجي لصياغة كيان الإنسان بشكل إيجابي في كل نواحي الحياة، جسديا وعاطفيا واجتماعيا وفكريا وفنيا وأخلاقيا وروحيا وثقافيا، بالاستعانة بجميع الوسائل والطرق والأساليب المشروعة لتهذيب السلوك وصقل المواهب بغية إيصال الفرد إلى حالة الكمال الإنساني التي تمكنه من القيام بالتكاليف الشرعية وتحمل مسؤولية عمارة الأرض وحمايتها من الفساد لتحقيق خلافته عن الله فيها، والغاية من ذلك كله الحصول على رضى الله تعالى.
ولأن التربية تهتم بجميع ميادين الحياة تفعيلا وتوجيها وتنمية فقد وصفها أحدهم بأنها علم وفن وصناعة فقال: ’’وإذا كانت التربية هي إيصال المربي إلى درجة الكمال التي هيأه الله لها عن طريق مراعاة فطرته وتنمية مواهبه وقدراته وطاقاته بطرق متدرجة وتوجيهها للعمل في إعمار الحياة على عهد الله وشروطه، فإن ذلك كله يتم وفق وسائل وغايات العلم والفن والصناعة، فالتربية علم إخبار عن الحقائق الكلية والمعايير والقيم الإلهية التي يتلقاها الإنسان فيؤمن بها إيمان تسليم ويتكيف معها... وعلم إنشاء من حيث إنها محاولة للكشف عن الحقيقة ومعرفة للقوانين والسنن التي خلق الله الكون عليها... والتربية فن... فالفن تعبير موح هادف عن تجارب إنسانية منبثقة عن التصور الإيماني للكون والإنسان والحياة... تهدف إلى الوصول بالمربى إلى درجة الإتقان أو الإحسان في الأداء، فقيمة كل إنسان ما يحسنه... والتربية صناعة... تهدف إلى إقدار المتعلم على عمل معين بحيث يتناوله بالتغيير والتعديل والتطوير والمعالجة ليصير على شكل معين’’(3) .
نخلص إذن إلى أن معنى التربية في الفكر الإسلامي هو استثمار للفطرة السليمة التي خلق عليها الإنسان مع اتباع الأخلاق والقيم الإسلامية التي تنمي الفطرة السليمة في النفس البشرية إضافة إلى اكتساب خبرات ومهارات خارجية تنمي شخصية الفرد وتوجه مداركه وتصقل مواهبه فيما يعود بالنفع عليه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه وربما يتعداه إلى غيره من المجتمعات الإنسانية.
مفهوم التربية في الفكر الحديث :
إن محور البحث في الفلسفة التربوية منذ عهود التنظيرات الفلسفية هو الإنسان، هذا الكائن الحي القابل للنمو، والمرن القابل للتغيير والتعديل، والعاقل القابل للتعلم مدى الحياة، والفاعل المؤثر في المجتمع والمتأثر بمحيطه وبيئته التي يعيش فيها.
ولقد بدأ الحديث في طبيعة الإنسان منذ عهود سحيقة حيث قام على نظريات فلسفية مختلفة بسبب اختلاف فهم أصحابها لطبيعة الإنسان فمن قائل: إن الإنسان هو الذي يؤثر في الطبيعة ويغير مظاهرها، ومن قائل إن الطبيعة هي الفاعلة في الإنسان المغيرة لأحواله، ومن قائل إن عقل الإنسان أسمى من مهاراته الجسدية، ومن داحض لهذه النظرية بما يراه مقنعا... ونتج عن هذه النظريات الفلسفية مدارس مختصة في علوم التربية تطورت آراؤها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من وضع معايير لمفهوم التربية وأهدافها.
لقد تعرض مفهوم التربية لتعريفات كثيرة ومتباينة عبر عصور البحث في موضوعها، ذهب أهل الاختصاص فيها مذاهب جمة لوضع حد جامع مانع لتعريفها، فتفرعت التعاريف وتنوعت طرائق قددا، فنجد منهم من يقوم أولا باستعراض لتعريفات السابقين ثم يبدأ بتحليلها ومناقشتها وإضافة ما يراه مناسبا لها حسب فهمه لموضوع التربية، ومنهم من يبدع بخلق تعريف خاص به يراه لائقا ومناسبا لما هو بصدد الحديث عنه ولو أنني قصدت تقصي ما قيل في تعريف التربية لبذلت في ذلك جهدا جهيدا وزمنا ثمينا ثم خرجت من ذلك بتقصير مخل لم يستجمع أطراف القضية، والسبب في ذلك كما قلت تعدد التعريفات التي ألصقت بمفهوم التربية وشرحت بمفاهيم ومصطلحات توازيها غموضا مثل: (4) عملية التعلم- عملية التوجيه – تنمية مهارات- عملية نمو عقلي وبدني وانفعالي واجتماعي- ضبط تام للسلوك- عملية تكيف بين الفرد وبيئته- تطوير السلوك- اكتساب خبرة أو خبرات – تطوير قدرات – خلق كفاءات – اكتساب قيم – نسق اجتماعي- نظام سلوكي- استثمار اقتصادي- إعداد العقل السليم – عملية حفظ التراث ونقله ... الخ ما يضعنا في متاهة لا متناهية من المصطلحات الثقيلة التي أراها هي نفسها بحاجة إلى شرح وتعريف بيد أني أسلم- إذا ما اتفقنا على ماهية هذه المفاهيم المذكورة- بأنها تساهم كلها وبشكل فعال في إنجاح التربية بأهدافها العامة والخاصة.
فالتربية لها ارتباط وثيق بالتعلم، لكن لا تنحصر بالتعلم المدرسي بل هو ممتد إلى ميادين تربوية أخرى كالأسرة والإعلام والأصدقاء وغير ذلك مما يدخل في تكوين المجتمع، كما أنها تتم عبر نمو الفرد، تحيط بالفرد وتلزمه بنظام سلوكي معين يضبط ردود أفعاله ويصوغها في كفاءات فعالة ونافعة ينتظمها النسق الاجتماعي المراد حفظ قيمه وتراثه ونقله إلى غد يتطلع إليه دائما لكونه أفضل وواعد.
وهذا قريب مما ذهب إليه المفكر المعاصر فيليب فينكس في: فلسفة التربية حين وصفها بأنها عملية نموذجية متكاملة ومتوازنة تهتم بالنمو الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي(5) . وإزاء هذا الرأي ظهر من يرى أن للتربية أصولها الاقتصادية، وتعتبر مجالا للاستثمار وهي عنصر أساسي في التنمية الاقتصادية كما يعتبر أن : ’’ التربية تجاوزت وظيفتها الجديدة في تنمية العقل وصقل الذوق وتنشئة الناشئين على قيم خلقية مجردة إلى وظيفة أكثر اتساعا تنظر إلى التعليم على أنه جزء من ثقافة المجتمع يرتبط ارتباطا كثيرا بالاقتصاد...’’ (6) .
وكان الاقتصادي المعروف ألفريد مارشال من أوائل من أبرز القيمة الاقتصادية للتربية حيث أكد على أن أبلغ أنواع رأس المال هو رأس المال الذي يستثمر في البشر وقال: ’’إن التربية استثمار قومي’’(7)
لكن اعتبار التربية استثمارا اقتصاديا فقط تعسف على مفهوم التربية، حقا إن التربية هي مشروع أمة تتضافر فيها مجهودات المنظرين مع جميع الأطر التنفيذية النشيطة في المجتمع كل حسب اختصاصه لتحقيق أهداف مخصوصة يصبو إليها المجتمع.
أسس التربية في الإسلام :
خلق الله تعالى الإنسان على الفطرة السليمة وكرمه بالعقل، وأنزل له منهجا ربانيا يستنير به في قيامه بحق الخلافة في الأرض ولم يتركه لنفسه، بل تعهده بعناية مستمرة فأرسل إليه رسلا مبشرين ومنذرين لئلا تزيغ به الأهواء أو تضله النزوات.
وقد ختم الله تعالى أنبياءه ورسله بمحمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي قال عز من قائل في حقه : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6]. وبين سبب رفعة شأنه فقال عنه : { وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4] وقال أيضا: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
وقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده(8) عن سعد بن هشام بن عامر قال: أتيت عائشة فقلت : يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ((كان خلقه القرآن)) فعلمنا أن الله تعالى تعهده بالتأديب والتربية على الأخلاق الفاضلة العظيمة التي ذكرها القرآن الكريم، إعدادا له على تحمل مسؤولية تربية أمة بكاملها وفق منهج جديد وشامل لكل مناحي الحياة مستمد من القرآن والسنة، هذا المنهج التربوي يقوم على أسس عظيمة لا غنى عنها لتطبيق التربية كما تصورها منظومة الفكر الإسلامي:
أولا: التربية على أساس رباني: يقوم النظام التربوي في الإسلام على مصدرين هما القرآن والسنة فهو ’’يعتمد على الوحي ويزود الإنسان بمجموعة من الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة التي توجه عمله وإسهامه، بل وتعينه على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله(9) ويتصف هذا الأساس بصفات الكمال والشمولية والاستمرارية، فهو نظام كامل باعتبار أن مصدره إلهي وليس بشريا كما أنه شامل لجميع مناحي الحياة، لا يدع جانبا إلا وسن له أحكاما وتشريعات تنظمه وتضبط توجهاته كما أنه مستمر باستمرار الحياة، دائم مادامت، وصالح لكل زمان ومكان، لا يخلق مع توالي السنين ولا يبلى مع تغير الأزمان، وفي هذا الشأن قال العالم الانجليزي يورك(10) : والقرآن الكريم بالإضافة إلى كونه من أجمل الروائع الأدبية في العالم كله دستور كامل من القوانين الأخلاقية والمدنية والعسكرية والاجتماعية وهو دستور يضبط سلوك المسلمين الذين يجب أن تكون جميع أفعالهم بمقتضى تعاليم القرآن الكريم، أما كون المسلمين يعتبرون أن قوانين القرآن الكريم، ثابتة ومعصومة عن الخطأ فيتضح من الحقيقة القائلة بأنه بالرغم من انقضاء ثلاثة عشر قرنا على نزول القرآن الكريم، فإنه لم يتعرض لأي تغيير أو تبديل، وبأن كل كلمة من كلماته وكل حركة من حركاته قد بقيت كما خرجت من بين شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيبقى هكذا دون أي تبديل أو تحريف، فالقرآن الكريم خالص من التدخل الإنساني وهذه حقيقة لا يمكن أن تقال لا كليا ولا جزئيا عن سائر الكتب المقدسة للأديان الأخرى’’.
لقد اهتم الإسلام في تنظيمه للمجتمع بإرساء قواعد قويمة من العدل والحق والمساواة والمودة والإخاء وجعل القيم الإنسانية التي يحملها الإنسان ويتعامل بها داخل مجتمعه عبادة الله وطاعة له وقياما بالواجب يحصل به الفلاح في الدنيا والسعادة في الآخرة، وحين ربط الإسلام بين عمل الفرد الدنيوي وثوابه في الآخرة جعل له حافزا قويا للتمسك بهذه القيم والأخلاق التي أصبحت لا غنى له عنها في حياته وسمت بروحه عن المادية البحتة التي ينشد صاحبها معرفة النتائج حالا دونما تطلع لما سيكون بعد الموت.
عديدة هي الآيات التي تقرن بين الإيمان والعمل الصالح وتجعل نتيجتهما الفوز بالجنة فمثلا قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلواة واتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة : 277. وقوله سبحانه { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم} لقمان: 8-9. ومثل هذه الأبيات كثيرة جدا في القرآن الكريم.
إن تصور هذه الآيات بالمنطق الرياضي يظهر بالشكل الآتي:
إيمان + عمل صالح = خلود في جنة النعيم. وهذا يعني أن الإيمان وحده لا يكفي للخلود في الجنة إن لم يكن دافعا وحافزا للعمل الصالح، وهذا العمل الصالح لا يكفي أن يكون عبادة محضة من صلاة وزكاة وصيام وحج فحسب بل يتجاوز ذلك إلى أخلاق ومعاملات وإنجازات وإسهامات في إعمار الأرض وإصلاحها تعود بالنفع على الفرد والمجتمع على حد سواء وهذه مسؤولية خطيرة وصعبة لا يحققها الإنسان على وجهها المأمول إلا إذا تربى على القيم التي يأمر بها الإسلام التي تعنى بجميع جوانب الحياة من ماديات وروحيات بدءا بتوطيد علاقته بربه وتثبيت عقيدة التوحيد في قلبه قال الله تعالى : { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل} الأنعام: 102 وقال عز من قائل: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلواة لذكري} طه: 14 وقال عز من قائل: {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما} طه : 98.
ثانيا: أساس الفطرة السليمة : خلق الله تعالى البشر على الفطرة السليمة والجبلة النقية التي هي أساس كل خير ونفع قال الله عز وجل : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} الروم: 30 وقال عز من قائل: { ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} يس:22.
إن معرفة النفس البشرية وكيفية تركيبها لهو ما يعين على إنجاح تربية الفرد تربية سليمة وملتزمة بالمعايير والمحاذير التي جاء بها القرآن والسنة، ومعرفة استقامة طبيعة الإنسان منذ خلقه يدفع إلى تنمية نوازع الخير بداخله بدءا من الإيمان الخالص ووصولا إلى السلوك القويم، وهذا ما يجعل الإنسان فاعلا في فطرته ومؤثرا عليها وحرا في تثبيت نوازع الخير فيها أو إبدالها بنوازع الشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (11) فذكر عليه السلام ما يكون من تغيير الآباء والمجتمعات لعقيدة المولود إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية ولم يذكر الإسلام لأنه دين الفطرة التي لا تؤمن إلا برب واحد وإله واحد قال عز وجل: { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسن كفورا} الإسراء: 67.
لهذا عرف بعضهم الفطرة في التصور الاسلامي بأنها:’’خلق الله الإنسان على الإسلام، أي شاهدا بعبوديته لله ومقرا بربوبيته ومزودا بالاستعدادات والطاقات الظاهرة والكامنة التي تمكنه من إصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل وفقا لمعايير منهج الله’’(12) ولذلك فهي تقوم على مجموعة من القواعد أهمها مايلي : (13)
1) أن الإنسان مفطور على الإيمان بربوبية الله ووحدانيته.
2) أن الفطرة الإنسانية ذات تكوين مزدوج.
3) أن الإنسان مخلوق باستعدادات متساوية للخير والشر.
4) أن الإنسان مزود بقدرة واعية كامنة فيه قادرة على الاختيار الحر للخير والشر سواء.
5) أن الإنسان حر، لذلك فتبعة أعماله ومسؤولياته تقع عليه وحده.
6) أن النفس الإنسانية هي جماع شخصية الإنسان.
فالفطرة إذن أساس التربية الناجحة، إذ لما كانت التربية عموما تسعى لغرس القيم الفاضلة في نفس الإنسان وتوجيه سلوكه في نسق مقبول اجتماعيا ودينيا أتت الفطرة لترسخ هذه القيم وتؤسس لها داعمة لتصورها ومشجعة له بدءا من الصغر وقبل أن تتغير معالم الفطرة بما يتعلمه الإنسان من نوازع الشر قال بعض الباحثين في مجال التربية(14) ’’ من المعلوم أن الطفل ولد مزودا باستعدادات فطرية لتقبل الخير أو التوجه نحو الشر، فهو يخرج إلى هذه الدنيا صفحة نقية خلوا من كل علم قابلة لأي نقش، فكل علم أو خلق أو طبع يوجد لديه في مستقبل حياته إنما يكتسب من البيئة، فإن عود الخير اعتاده وكان من السعداء في الدنيا والآخرة ونال والده وكل من أسهم في تربيته الأجر والثواب وإن عود الشر وأهملت تربيته شقي وهلك دنيا وأخرى وكان الإثم على من وكل إليه أمر تربيته، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إنما العلم بالتعلم).
فللإنسان إذن استعدادات فطرية على فعل الخير أو الشر، وهو حر في اتباع أيهما يشاء لأنه مخلوق مميز ومكتسب للخبرات التي يزخر بها محيطه وله قدرة على توجيه نفسه، وحرية في اختياراته، ويتحمل مسؤولية قراراته وهذا يقودنا إلى الأساس الثالث الذي تقوم عليه التربية في النظام الإسلامي وهو العقل.
ثالثا : العقل أساس التربية : لا يكتفي الإنسان بما جبل عليه عند خلقه، بل إنه ينمو ويتعلم ويتغير ويختار ما يريد تغييره في نفسه لأنه يمتلك قدرة على تقبل ما يريده وله استعداد لرفض مالا يختار، ومعياره في كل ذلك هو العقل: قال الله تعالى { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} الإنسان: 3.
وقال عز من قائل: { ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين} البلد: 8-10 وقال عز من قائل: { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} الشمس: 107.
وقد تحدث ابن خلدون عن خصائص عقل الإنسان فقال: (15) ’’وأن الله تعالى ميزه بالفكر الذي جعل له يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي، أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه وهو العقل التجريبي، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا وشاهدا على ما هي عليه وهو العقل النظري وهذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية ويبدأ من التمييز’’.
و كلامه هذا يعزز ما سبق ذكره من أن الفطرة التي خلق عليها الإنسان سليمة تدفعه إلى الاختيار فسماها ابن خلدون بالعقل التمييزي و جعل ما يكسبه من خبرات في الحياة يحصل بها الآراء و يتعلم المصالح و المفاسد عقلا مكتسبا و سماه تجريبيا واعتبر تصور الإنسان للطبيعة و الحياة عقلا نظريا.
وبغض النظر عن هذه التقسيمات يبقى العقل مكمن المعارف والحقائق ومصدر التجارب و الخبرات و معيار التمييز عند الإنسان و به يرتفع عن مدارك الحيوان عندما يوظفه في إدراك المعرفة بطرق صحيحة ومن أصولها الشرعية، أما إذا ترك العقل دون توجيه فإنه يقلب الحقائق و يحيد عن الحق قال جل ثناؤه : { و قالوا لو كنا نسمع أن نعقل ما كنا في أصحاب السعير } الملك : 10 و قال عز من قال {و ما يعقلها إلا العالمون} العنكبوت : 43
و هذا ما أكده ابن خلدون بقوله(16) : ’’ فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد الذي في علمه، و عالم بالكسب و الصناعة لتحصيله المطلوب بفكره الشروط الصناعية كشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالأذكار التي أفضلها صلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و بالتنزه عن المتناولات المهمة و رأسها الصوم، و بالوجهة إلى الله بجميع قواه، و الله : ’’ علم الإنسان ما لم يعلم ’’ العلق: 5 ’’
فالعقل الذي كرم الله به الإنسان جعله مناط تكليفه ، فلا ينتظر من فاقد عقل أي شيء من التكاليف الشرعية التي فرضها الله تعالى فضلا عن أن ينتظر منه شيء من القيم الأخلاقية و هذا ما جعل العقل من أسس التربية المتينة، حيث أن ما يبنى على القناعة العقلية يصعب هدمه، فالإنسان بطبيعته مجبول على التفكير و المنطق العقلي، و يحاول أن يجعل لمداركه سببا و نتيجة لتقبلها و العمل بها، فيبني عنده قناعات عقلية تشكل تصوره الخاص عن الكون و الواقع، لهذا كان لزاما على كل من يروم تربية النشء أن يخاطب عقولهم و يوسع آفاق مداركهم فذلك قمين بأن يسم عمله بالجدية و يثمر بالقبول.
رابعا : القدوة الصالحة أساس التربية الناجحة : لما أدب الله تعالى نبيه الكريم محمد صلى الله عليه و سلم بالأخلاق الطيبة و الشمائل الكريمة جعله قدوة لمن في الأرض جميعا ليقتدوا به في معيشته و عبادته و معاملاته، قال عز من قال : ’’ لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر وذكر الله كثيرا ’’ الأحزاب 21، فجعل الاقتداء به من الواجبات الدينية، فكان عليه السلام هاديا و داعيا إلى الله و مربيا و حاكما و قاضيا بين الناس و إماما عليهم، و كل ذلك بكلامه و فعله، فنجد من سننه عليه السلام ما هو قولي و ما هو فعلي، بل و ما هو تقريري يقر به كل خلق نبيل أو عمل صالح يصدر من غيره قال عليه الصلاة و السلام: ’’ إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق(17)
و لا تنحصر القدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل تتعداه إلى صحابته الكرام و كل من تبعهم في هديهم ناصحا لنفسه و للمسلمين ، قال جل ثناؤه :{كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تومنون بالله} آل عمران: 110 و قال عز من قائل : {محمد رسول الله، و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود } الآية .. الفتح : 29.
و تتعدى القدوة إلى كل ذي مسؤولية في المجتمع، حيث أكد الإسلام على أن المؤمنين هم قدوة لبعضهم البعض، و قدوة لغيرهم كذلك حرصا على تيسير التربية، لأن طبع الإنسان يأنف من كثرة النصح بالكلام، و ينفر من اتباع من يخالف قوله فعله، و قد ذم الله تعالى فاعل ذلك قائلا عز من قائل: { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } الصف 3.
و تأتي القدوة هنا كأساس لتثبيت النصيحة القولية التي هي وسيلة من وسائل التربية و جعلها مسؤولية كل من له وظيفة في المجتمع ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ’’ كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع و مسؤول عن رعيته، و الرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته ، و المرأة راعية في بيت زوجها و مسؤولة عن رعيتها، و الخادم راع في مال سيده و مسؤول عن رعيته ’’ قال الراوي: و حسبت أن قد قال : ’’الرجل راع في مال أبيه و مسؤول عن رعيته، و كلكم راع و مسؤول عن رعيته’’.(18)
فجعل الإسلام كل واحد في المجتمع مسؤولا عن وظيفته بدء من الحاكم، ووصولا إلى الخادم . و كلهم يشتركون في رعاية مصالحهم و مصالح غيرهم، فيعمل كل داخل وظيفته بما يرضي الله تعالى، فالأم مثلا تربي أبنائها على صالح الأعمال، و من ثم فهي مطالبة بأن تكون قدوتهم في ذلك، إذ لا يجوز أن تكذب الأم أمام ابنها ثم تنهاه عن الكذب و لايعقل أن تغش في واجباتها ثم تربي ابنها على عدم الغش لأن ذلك يثمر فقدان ابنها الثقة في نزاهتها ومن ثم في قدراتها و أهليتها للتربية، فيبحث عن قيم أخرى خارج البيت غير تلك التي توفرها له أمه، و يرى فيها تناقضا صارخا و توحي له بأن هذه القيم الصالحة غير نافعة في الواقع و عكسها هو الصحيح، و هذا إن لم يتبع الأم في فعلها و يهمل قولها.
و ما يقال عن الأم يقال عن غيرها كالأب و المعلم و العالم و الرئيس في العمل و الإمام في المسجد و الحاكم ... الخ فكل رئيس ينبغي أن يكون قدوة لمرؤوسيه و جوبا و ليس اختيارا، و الا انتفت عنه بعض شروط القيادة الصحيحة، و فقد الأهلية فيما يخص التربية أو التوجيه أو القيادة.
و نجد في تراثنا ما يوافق ذلك و يعززه: فقد كتب عمرو بن عتبة بن أبي سفيان إلى مؤدب أبنائه يقول : ’’ ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح نفسك فإن أعينهم معقودة بعينيك، فالحسن عندهم ما استحسنت و القبيح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله ، و لا تكرههم عليه فيملوه، و لا تتركهم منه فيهجروه ثم روهم من الشعر أعفه، و من الحديث أشرفه، و لا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، و روهم سير الحكماء و أخلاق الأدباء، و جنبهم محادثة النساء، و تهددهم بي وأدبهم دوني، و كن لهم كالطبيب الذي لا يعجل الدواء حتى يعرف الداء، و إياك أن تتكل على غدر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك’’(19)
هكذا إذن، تبدو أهمية التربية بالقدوة، إذ تخرج التربية من إطارها التنظيري الذي كانت فيه ضربا من الأوهام و الخيالات ، إلى فضاء التنفيذ و التطبيق و الممارسة، و تلجئ صاحبها إلى مراقبة الله في نفسه أولا ثم في غيره، فيكون لنصيحته و إرشاده و تربيته وزن وقيمة، و نتائج طيبة على مستوى الفرد و المجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:’’من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها و أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، و من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء’’(20)
أسس التربية الحديثة :
تقوم النظرية التربوية الحديثة على النظريات الفلسفية القديمة في أهم مبادئها وفي تفسيرها العام للوجود والطبيعة والإنسان، و تتبنى الطرق التربوية على هذه التصورات التي أسست لها الفلسفة بجميع نظرياتها من مثالية، و وجودية، ومادية ... الخ ’’ و من هذا المنطلق فإن بول هرست و غيره من المربين الغربيين يدعون إلى إعطاء الفلسفة دورا رئيسيا في بناء النظرية التربوية، لأنها تمدهم بالقيم التي يريدون غرسها في الناشئة’’.
و لأن النظريات الفلسفية مختلفة في تصورها للألوهية و الحياة و طبيعة الإنسان و ماهية الوجود، اتسمت النظرية التربوية بهذا الاختلاف أيضا، فنجد مدارس تربوية عديدة تختلف عقائد واضعيها ، فمن اعتمد مثالية أفلاطون مثلا يعتبر العقل الإنساني بلا حدود و لا قيود، و أن الإنسان قادر على تعلم الفضائل و اكتساب سلوكها ، أو إن هذه الفضائل هي هبة إلهية إليه، أو أنها وراثية من والديه.
و قريب من هذا ما ذهب إليه هيجل مع تأخره في تاريخ الفلسفة عن أفلاطون بمئات السنين: حيث يرى ’’ أن العالم هو التعبير المتطور لعقل أو روح جاهدت لتجسيد ذاتها على نحو كامل في شكل مادي، فالإنسان كائن روحي يمارس حرية الإرادة و مسؤول عن تصرفاته(21) .
وفي القرن السابع عشر ظهرت نظرية أخرى مختلفة تماما عن مثالية أفلاطون وهيجل وهي نظرية جون لوك ’’الذي أبعد فلسفة التربية عن نظريات ما وراء الطبيعة ووجهها إلى التجارب العلمية، ورأى أن الأفكار غير فطرية في الإنسان ولكنها مكتسبة عن طريق التجارب القائمة على الإحساس والإدراك الحسي’’(22) .
ثم ظهرت نظرية فلسفية أخرى تهتم بالجانب الفطري للإنسان، معتبرة أن فطرة الإنسان خيرة ينبغي استثمارها في ما يعود بالنفع عليه، و من رواد هذه الفطرة، جان جاك روسو(23) الذي رأى أن الطبيعة خيرة و أن كل شيء يظل سليما ما دام في يد الطبيعة، ولا يلبث أن يمسه الدمار إن مسته يد الإنسان و يجب أن تعمل التربية على تهيئة الفرصة للطبيعة الإنسانية لكي تنمو متتبعة قوانين الطبيعة، أما أي فساد يظهر على الناس أو على المجتمع فليس من فعل الطبيعة بل من فعل المجتمع.
هذه الفلسفة الطبيعية في التربية أعقبتها نظرة تربوية حديثة سميت بالفلسفة البرغماتيه تزعمها شارلز ساندرز و بيرس و وليم جيمس و جون ديوي مع اختلافاتهم في طرائقهم و استنتاجاتهم، فهم يرون أن الطبيعة الإنسانية مرنة ووظيفية وأن التربية تعنى بتطور الفرد ؛ و بظهور نظرية داروين في التطور تأثرت الفلسفة البرغماتية بها من حيث إن حياة الإنسان معناها وجود سلوك و فاعلية و لكي تستمر الحياة و تستمر الفعالية يجب أن تتوافق مع البيئة و إن هذا التوافق يتطلب تغيرا في الكائن الحي و البيئة معا، أي إن هناك تفاعل مستمر بينهما، و كلما ارتقى الإنسان ازداد قدرة على تغيير البيئة و الوسط لسد الاحتياجات النفسية و البيولوجية و على ذلك فالطبيعة الإنسانية ليست فطرية و لا ثابتة بل هي متغيرة لأنها قادرة على التفاعل مع البيئة و المجتمع و هي قادرة على تغييرهما، و هذه المرونة تؤكد أن التربية قادرة على التأثير على المجتمع ، و أن الوراثة و البيئة عاملان مهمان في تكوين الشخصية و أن الطبيعة الإنسانية تتفاعل مع البيئة و مع المجتمع ككل...
و على هذه الصورة تلقى التربية صعوبة في البيئة الصلبة المتحجرة التي لا تخضع للتغيير و التطوير ففي العصور التاريخية المختلفة نجد أن البيئات التي كانت مرنة وقابلة للتغيير و التطوير أدت التربية فيها وظيفتها خير أداء و قامت فيها حضارات ناصعة و عكس ذلك صحيح. (24)
فالفلسفة البرغماتية تستثمر النمو كعامل فاعل في جعل التربية وظيفة حيوية وعملية مستمرة لاستثمار خبرات الحياة، قصد تحقيق الغايات و تنمية الذات في ضوء التوقعات الاجتماعية، و في إطار النظم و القيم و الثقافة التي تلائمها.
التربية الحديثة إذن، تستمد كثيرا من مبادئها و مفاهيمها من النظريات الفلسفية المختلفة، و تعمل على تطبيقها في الميدان التربوي، و بذلك تكون فلسفة التربية كما عرفها فنكس : ’’ هي تطبيق الطريقة و النظرة الفلسفية في ميدان الخبرة المسماة التربية ’’(25) أو كما عرفها فاجنر : ’’ إن فلسفة التربية هي تطبيق الفلسفة على مشكلات التربية، و على هذا ففلسفة التربية تطبيقات الأفكار و المبادئ و الطرق الفلسفية على تلك المشكلات التربوية التي تناسبها المشكلات الفلسفية أكثر مما تناسبها المعالجات العملية’’(26)
و ليست الفلسفة هي الأساس الوحيد الذي تقوم عليه التربية، بل هي الأهم والغالب، و إلا فإن التربية تقوم أيضا على الغايات السياسية و التوجهات الاجتماعية والأهداف العملية و المعرفية التي يختص بها كل مجتمع عن غيره، بل و تعتمد التربية على اللغة أيضا و التاريخ الخاص بالمجتمع و السمات الخاصة التي تنتظمها الأعراف والخصائص الاجتماعية، وتطبع هويته ، و حسب المقاصد القريبة و البعيدة التي يحتاجها ويتطلع إلى تحقيقها ، و لكن الفلسفة تبقى الأساس المشترك بين جميع التوجهات التربوية الحديثة التي وضعت لمسايرة الركب الحضاري الإنساني، و تبقى غيرها من الأسس متغيرات تختلف من مجتمع إلى آخر.
قال بعضهم في هذا الصدد: ’’ فوظيفة الفلسفة هي أن تشغل نفسها بالأفكار الأساسية التي تستغلها عادة بالمفاهيم التي تكون أساس اللغة أو التي تكون أساس المناقشة الفتية و المتخصصة، أما العلم فيأتي دوره بعد أن تقدم الفلسفة مفاهيمها العامة الشاملة الكلية لأنه يشتغل بالجزئيات و ليس بالكليات، فالفلسفة تبحث في تركيب العقل نفسه بينما العلم يبحث في الواقع المادي، و هنا يبرز الفرق بين الفلسفة و العلم، فالفيلسوف يبحث في كيفية المعرفة أساسا و في التصورات العامة للعقل في حين يبحث العلم في هذا الجانب من جوانب الكون مثل: الكيمياء و الفيزياء، و إن الفلسفة تبحث في أحكام المعايير في حين يبحث العلم في أحكام الوقائع. (27) .
الفلسفة إذن هي الأساس الذي تبني عليه التربية معاييرها وقيمها في نسق منظم للعلاقات بين الفرد ومجتمعه، وجامع لكل المعاني الروحية التي تقوم بدور التحفيز في النظام التربوي قصد تحقيق غايات الفضيلة والتطوير الذاتي عند الفرد والمجتمع.
ما مدى التوافق و الاختلاف بين المنظورين ؟
ثمة تساؤل ملح بعد هذه المقارنة العاجلة بين مفهومي التربية في الإسلام وأسسها، و ما يقابلها في الفكر الغربي الحديث، و هو : هل من توافق بين المنظورين الإسلامي و الغربي على مستوى الأسس التي تنبني عليها التربية ؟
إن ما جعل التأسيس للتربية صعبا هو كونه ينطلق من القيم الروحية لمخاطبة أفعال و سلوكات ملموسة، و هذا ما يدفع للاهتمام بنوعية القيم الروحية الملائمة لفكر وثقافة الفرد المناسبة لتطلعاته و آفاق طموحاته.
إن الفكر الإسلامي حين بنى قواعد ربانية للتربية ـ يهدف لأن تكون التربية بعيدة كل البعد عن العبثية و التجريب، بل إنه قصد لأن يجعلها مسؤولية تقوم على محفزات ومقاصد دينية و دنيوية و هذا الفرق جوهري بين الفكر الإسلامي و الفكر الغربي، يتضح هذا في كون الفلسفات الغربية استخدمت مفهوم الطبيعة بالمعنى الإغريقي القديم، فالطبيعيون و المثاليون و الواقعيون و الداروينيون يرون الطبيعة هي الأشياء و هي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، و الطبيعة في أصل الأشياء ... إذن فالطبيعة في الفلسفات الغربية و مدارس علم النفس القائمة عليها ليست من خلق الله بل هي خالقة الكون و سبب وجوده الأول، و بذلك يتصادم مفهوم الطبيعة في هذه المدارس مع مفهوم الطبيعة في الإسلام(28)
هذه النظرة إلى الطبيعة هي من الأسس الجوهرية التي تعمق هوة الفارق بين المنظورين، خاصة أن الحضارة الحديثة قامت على هذا التصور الفلسفي للطبيعة و الحياة و هو تغييب مقصود للجانب الغيبي الذي تؤمن به الحضارة الإسلامية، و هذا ما يخلق تضاربا في المفاهيم ، و قد عبر أحد علماء الحضارة : ألكسيس كاريل عن هذا قائلا : ’’ إن الحضارة الحديثة تجد نفسها في موقف صعب لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية ، إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية و شهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم، و على الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا و شكلنا’’.(29)
و لم يكن وحده من اعترف بفضل الفكر و الحضارة الإسلاميين، فقد سار ديدنه غيره كثير مثل بورك الذي قال: ’’ يهدف الخلق الإسلامي بأن يجعل من كل مسلم يدرك مسؤوليته الخاصة و هذا الوعي خلق شعورا بالورع و التقوى يعتبره الإسلام أسمى ضروب الفضيلة، و الإسلام يفرض على كل مسلم أن لا يفعل إلا الشيء الصحيح مهما كان كريها و عسيرا، كما يعتبر الصدق في التفكير و العمل الوسيلة اللازمة للخلاص و النجاة’’.(30)
هذا، وإن الحضارة الإسلامية أثبتت شموليتها في الإصلاح و التنظيم لجميع مناحي الحياة و جميع صنوف الناس أفرادا و جماعات، و هدفها الأساسي هو صلاح الأرض كلها و رفاهية الإنسانية و ليست مقصورة على عرف دون آخر ، أو جنس دون غيره، قال العالم الإنجليزي مار مادوك بيكتهول: ’’ إن الثقافة الإسلامية تختلف عن غيرها من الثقافات في أنها لا يمكن أن تكون إطلاقا هدف الفرد المثقف و غايته لأن هدفها ليس تهذيب الفرد أو الجماعة بل الجنس البشري بأكمله ... ألخ ’’(31)
من المنصف الاعتراف للحضارة الحديثة بتشجيعها للعقل البشري على التفكير في قضايا عصره بشكل يحقق الرفاهية للإنسان، و ييسر له سبل العيش الكريم، حيث إنها جعلت الإنسان محور الوجود و غايته، ووضعت التربية عاملا أساسا للحفاظ على القيم والأخلاق و الكفاءات التي تحفظ كرامته، لكنها وقعت في مزالق تغييب البعد الغيبي عن الواقع، و هذا شكل تناقضا تاما مع الفكر الإسلامي الذي استخدمه بشكل أساسي في تفعيل التربية و إنجاحها، فجعل الجانب الروحي خاصة الإيمان بيوم الحساب رادعا ـ بامتياز عن المس بالقيم و الأخلاق بشكل أو بآخر ، كما أنه يسر تحقيق عملية الثواب و العقاب التي تحفظ النظام في المجتمع.
----------------------------
لائحة المصادر و المراجع
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
- معجم مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، ضبطه إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت ط 1 ـ 1418ه 1997 م.
- مسند الإمام أحمد تحقيق محمد شاكر و حمزة أحمد الزين، دار الحديث القاهرة16 ـ 1416ه 1995م
- صحيح البخاري بشرحه فتح الباري دار مصر للطباعة16ب 1421 ه ـ 2001م
- صحيح مسلم دار المغني للنشر و التوزيع ـ السعودية 16 ـ 1419 ه 1998م
- البيان و التبيين للجاحظ : تحقيق : حس السندوبي : المكتبة التجارية الكبرى القاهرة ط 4 سنة 1956م.
- مقدمة ابن خلدون تحقيق الأستاذ درويش الجودي المكتبة العصرية ببيروت، ط 1427 ه ـ 2006م
- مناهج التربية أسسها و تطبيقاتها، د.عل احمد مدكور. دار الفكر العربي القاهرة16 ـ 1418 ـ 1998
- في أصول التربية : دافايز مراد دندش ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة و النشر الإسكندرية ط 1 ـ 2004م
- المدخل في التربية : دس.نازلى صالح أحمد و د. سعيد يس مكتبة الأنجلو مصرية القاهرة طبعة 1982
- نظام الأسرة في الإسلام د. محمد عقلة.ط1 1403 ه 1983م مكتبة الرشاد الحديثة عمان
--------------
الحواشي :
----------
1 - معجم مفردات القرآن، ص 208.
2 - مناهج التربية : ص 29.
3 - د. على احمد مدكور : مناهج التربية ص 30.
4 - في أصول التربية : د. فايز مراد دندش ص 16-17 وعلم التربية العالم : د. ابو طالب سعيد ود. رشراش عبد الخالق ص 138 وما بعدها ومناهج التربية د. علي احمد مدكور ص 29 وما بعدها
5 - علم التربية العام : 139-140.
6 - محمد عبد الهادي عفيفي: في أصول التربية ص 13 و14 عن طريق : في أصول التربية د. فايز دندش ص : 304.
7 - في أصول التربية : ص 304.
8 - مسند الإمام أحمد كتاب باقي مسند الأنصار باب حديث السيدة عائشة.
9 - مناهج التربية ص 14.
10 - الثقافة الإسلامية من بعض زواياها ص 69-70 عن طريق: في أصول التربية 229-227
11 - صحيح البخاري بشرحه فتح الباري: كتاب الجنائز باب ما قيل في اولاد المشركين : 3/354 ح
1385 وصحيح مسلم باب كل مولود يولد على الفطرة ح 2658.
12 - مناهج التربية ص 81.
13 - نفس المصدر ص 85.
14 - د. محمد عقلة. نظام الأسرة في الإسلام ص 30.
15 - المقدمة ص : 441-442.
16 - مقدمة ابن خلدون: ص 440.
17 - أخرجه الإمام احمد فن مسنده 5619 رقم 8932
18 - صحيح البخاري كتاب الجمعة باب الجمعة في القرى و المدن ح 893
19 - البيان و التبيين للجاحظ ((75/2.
20 - رواه مسلم في كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة.
21 - نفس المصدر ص 5.
22 - المدخل في التربية ص 12.
23 - نفسه : ص 13.
24 - نفسه : ص 21-22.
25 - علم التربية العام : ص 151.
26 - نفس المصدر والصفحة.
27 - نفس المصدر: ص 153.
28 - مناهج التربية ص 81.
29 - نفسه ص 79.
30 - نفسه ص 227.
31 - مناهج التربية ص 227-228.
*تربيتنا