د. لطفي زغلول
كثيرة جدا هي المرات التي أرسلت فيها إسرائيل رسائل واضحة، لا تقبل التأويل، تتمثل في رفضها لخيار السلام العربي. مثالا لا حصرا، رسالة الإجتياح الكبير للأراضي الفلسطينية غداة ولادة مبادرة السلام العربية، كأحد منجزات قمة بيروت في العام 2002. يومها غفت هذه المبادرة، وظلت في طور الكمون.
وبين العامين 2002 و2013 الحالي، كانت هناك تسع سنوات، إنفرد الإسرائيليون خلالها بالفلسطينيين، أذاقوهم فيها الأمرين، جراء الحرب الشرسة التي أعلنت عليهم، وكانت سهام الرسائل الإسرائيلية موجهة صوبهم، متمثلة في مسلسل اجتياحات مدمرة للحجر والشجر والبشر. كانت شهية إسرائيل لافتراس المزيد من الأراضي الفلسطينية مفتوحة ولا تزال على مصراعيها كعادتها دائما وأبدا، بغية توسيع خارطة الإستيطان وتكريسها على أرض الواقع. ولم تنج القدس من سهام التهويد والإستيطان التي أصابتها في الصميم.
أما ما يخص مبادرة السلام العربية، وهي الخيار العربي الوحيد، فإن الرد الإسرائيلي عليها لم يتغير البتة. إنها تشترط لقبولها إفراغها من ثوابت القضية الفلسطينية التي طالما أشهرت لاءاتها في وجهها، وإمعانا في التأكيد على رفضها، وإضافة إلى مسلسل الإجتياحات المستدامة، أعلنت إسرائيل وما زالت تعلن أن برنامجها الإستيطاني لم يكتمل، سواء في الضفة الفلسطينية أو مدينة القدس، وبهذا البرنامج المستدام فإنها تستكمل ترسيم خارطة تهويد القدس جغرافيا وديموغرافيا، وتحجيم طابعها العربي الإسلامي وتقزيمه، وعلى المدى البعيد، إلغاؤه، والإستيلاء على المزيد من الجغرافيا الفلسطينية.
إنه الإستيطان. والإستيطان من منظور إسرائيلي، لا يعني مجرد اغتصاب المزيد من الجغرافيا الفلسطينية، ولا مجرد إقامة الوحدات السكنية وما يتبعها من مرافق، ولا إنشاء الطرق الإلتفافية، ولا بناء جدار العزل العنصري فحسب، وإنما هو تكريس لكيان واحد وحيد على هذه الجغرافية وهو الكيان الإسرائيلي ليس إلا. أما ما يسمى بالعملية السلمية بكل مسمياتها وأشكالها، فهي مجرد مهدئات سياسية، تقتضيها طبيعة الظروف الآنية، وسرعان ما تفقد مفعولها، وقد فقدته بالفعل، ويتم الإنتقال إلى سواها، وهكذا دواليك.
للتذكير فإن الأراضي التي يقوم عليها الإستيطان الإسرائيلي هي قمم الجبال والمرتفعات الفلسطينية التي تشكل مواقع أمنية وإستراتيجية للتحكم بكل التجمعات الفلسطينية والإإشراف على طرق مواصلاتها. وهي خيرة الأراضي الخصبة التي يعتاش على غلالها الفلسطينيون، وهي الأراضي التي تشكل مخزونا إسراتيجيا ديموغرافيا لاستيعاب الزيادات الناجمة عن النمو السكاني الفلسطيني الطبيعي.
وهي أخيرا لا آخرا أراضي آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين. وهي القدس التي تشكل مساحة مرموقة من التاريخ العربي الإسلامي، والعقيدة الإسلامية. وهي الأقصى المبارك، والصخرة المشرفة اللذان يتربص بهما من يسمون بأمناء الهيكل المزعوم. ما دام الحديث عن الأقصى المبارك، فإن آخر ما تفتق عن الذهن الصهيوني ما صرح به المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية ’’يهودا فاينشتاين’’ من أن الأقصى جزء من إسرائيل.
يضاف إلى عمليات اغتصاب الجغرافية الفلسطينية، ما يعانيه الفلسطينيون من ويلات الإحتلال. إن الفلسطينيين عرضة نهارا وليلا إلى اقتحام منازلهم، واعتقال أبنائهم، وزجهم في المعتقلات الإسرائيلية والتنكيل بهم بشتى أشكال التنكيل وأقساها الأمر الذي دفع الكثيرين من هؤلا ء الأسرى إلى الإضراب عن الطعام، وقد وصل الأمر إلى فقدان حياة بعضهم جراء وسائل التعذيب والمعاناة القاسية. إن هؤلاء الأسرى يشكلون هما ولوعة في قلوب ذويهم لا يعلم وطأتها إلا من كان له عزيز في الأسر.
لا يقف الأمر عند هذا الحد من المعاناة الفلسطينية. إنهذه المعاناة تشكل مسلسلا دراميا مأساويا يعيشه الشعب الفلسطيني. ها هي أشجار زيتونه تقطع دون أدنى رحمة. ها هي مزروعاته تحرق على أيدي المستوطنين الذين استباحوها ليلا نهارا. ها هي وسائل مواصلاته تتعرض إلى وابل من حجارة هؤلاء المستوطنين، ومنها ما يحرق، والمسلسل لا ينتهي، وتظل أعمال العنف العدائية ديدن المستوطنين وشغلهم الشاغل.
أما الأقصى المبارك، فها هي باحاته تتعرض يوميا إلى الإقتحامات المتكررة التي تهدف إلى الإستيلاء عليه، وهدمه، وإقامة الهيكل على أنقاضه لا قدر الله. إن الحديث عن الأقصى المبارك، وقبة الصخرة المشرفة، يقودنا إلى مجمل الحديث عن واقع مدينة القدس التي تعاني بشرا وحجرا ما تعانيه. إن مواطنيها الشرعيين يتعرضون إلى مصادرة هوياتهم وهدم منازلهم وطردهم، هذا عدا عن ملاحقات ضرائبية فادحة بحقهم، وهذا غيض من فيض مجمل معاناة مواطني هذه المدينة الفلسطينية المحتلة.
إلا أن الأخطر من هذا كله هو تمسك الأنظمة العربية بخيار واحد هو ’’خيار السلام’’ على علاته، وثبات فشل مركباته، وعدم جدواه، تحت ظلال الرفض الإسرائيلي الذي هو دون أدنى شك يشكل إستراتيجية سياسية غير قابلة للتغيير في الأجندة السياسية الإسرائيلية تحت ظلال الحكومات الإسرائيلية أيا كان لونها السياسي.
هنا تتبادر إلى الأذهان أسئلة لطالما رددها المواطنون الفلسطينيون، وهم يرقبون بحسرة وألم ما آلت إليه أحوال العالم العربي الذي يعيش حالة فريدة من انعدام الوزن السياسي والإقتصادي والثقافي: لماذا هذا الإصرار العربي على خيار يعلمون يقينا أنه مرفوض من قبل الطرف الإسرائيلي؟. لماذا لا يكون للأنظمة العربية بدائل أخرى، وليس المقصود هنا البديل الحربي؟. هل هذا عجز أم تعاجز؟. هل هذا نتاج إراداتهم، أم أنه طرح مفروض عليهم تسويقه بأي ثمن كان؟.
إن الأسئلة كثيرة. وحقيقة الأمر إنها تساؤلات استنكارية، وأجوبتها معروفة مسبقا. لكن الأهم من كل هذا سؤال لا بد من طرحه: هل تعرف الأنظمة العربية ما يدور في تفكير المواطن الفلسطيني تجاه هذا كله؟. ونحن هنا نجيب مقتبسين إجابتنا من بيت الشعر العربي إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة - وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم .
أجل إن الأجوبة باتت معروفة للقاصي قبل الداني، والمصيبة الفلسطينية أصبحت أعظم. إنها تنطلق جميعها من كون الأنظمة العربية، قد تخلت عن القضية التي كانت ذات يوم قضية العرب الأولى. إن الأنظمة العربية قد التزمت جانب الحياد والمشاهدة عن بعد، واجترار خيار سلام لا يسمن ولا يغني من جوع.
فلسطينيا، إن الإستيطان يعني شرعنة استلاب الأرض التي هي مادة الوجود الفلسطيني الرئيسة. إن الفلسطينيين لا يتصورون سلاما دائما مع استلاب هذه الأراضي، وهي ليست أية أراض، وإنما هي منتقاة ومختارة بعناية تؤدي وظائف تخدم أهدافا إحتلالية إستراتيجية جغرافية وديموغرافية بعيدة المدى. إنهم لا يتصورون سلاما يُبقي على مئات المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية المغتصبة، و هم لا يتصورون سلاما أيا كان لونه وشكله يستثني آلاف أسراهم خلف قضبان الإحتلال، ولا هم يتصورون سلاما لا يشمل حق العودة. وأخيرا لا آخرا لا يتصورون سلاما دون أن تكون القدس عاصمة لدولتهم العتيدة.
في حقيقة الأمر إن إسرائيل منذ العام 1967، لم تهدأ جرافاتها لحظة واحدة بغض النظر عن ألوان السياسات التي كانت تحركها يسارية أم يمينية أم وسطية، أو سواء كانت إسرائيل في حالة حرب مع العرب، أو تحت ظلال العملية السلمية التي يفرتض أنها قامت على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام. إن الإستيطان من منظور إسرائيلي هو خارج معادلة أي سلام. وعلى ما يبدو إن أقصى ما يمكن أن تقدمه أكثر السياسات الإسرائيلية تسامحا وتساهلا هو فترة استراحة لجرافاتها وآلياتها الأخرى، تلتقط أنفاسها خلالها استعدادا لنشاط موعود جديد ومخطط له.
إن الشعب الفلسطيني الذي دخلت نكبته عامها الخامس والستين، والذي يستعد لإحياء الذكرى السنوية الخامسة والأربعين لاحتلال كامل تراب وطنه، مدرك تماما أن المشروع الإستيطاني الصهيوني، لا يتقاطع بأية نقطة مع مبادرة السلام العربية، ولا يحسب لها أي حساب يذكر، وأنه ماض غير آبه بها، ولا يمكن في يوم من الأيام أن تشكل مدخلا للسياسة الإسرائيلية التي عودته الأنظمة العربية على عدم جديتها فيما يخص كل طروحاتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
كلمة أخيرة. لقد اعتاد الشعب الفلسطيني على شتى أشكال الظروف القاهرة ، وهو من المناعة بحيث أن ظرفا ما أيا كان لن يقدر على إحباطه أو تدمير قواه الذاتية التي حافظ عليها عبر أقسى نضالاته. وهو مدرك وواع ومستعد لكافة الإحتمالات، وأولاها فشل العملية السلمية برمتها التي تعاني حاليا من الإهمال والجمود. وفي هذه الحال لن يكون هو الخاسر الوحيد. ورب ضارة نافعة. فلعل هذا الفشل المحتم، يفتح آفاقا أخرى، ولعله يطرح خيارات عربية ذات مصداقية، تكون نابعة من إحساس عروبي لم يعد يحتمل الإنتظار على واقعه المرير.
*التجديد
كثيرة جدا هي المرات التي أرسلت فيها إسرائيل رسائل واضحة، لا تقبل التأويل، تتمثل في رفضها لخيار السلام العربي. مثالا لا حصرا، رسالة الإجتياح الكبير للأراضي الفلسطينية غداة ولادة مبادرة السلام العربية، كأحد منجزات قمة بيروت في العام 2002. يومها غفت هذه المبادرة، وظلت في طور الكمون.
وبين العامين 2002 و2013 الحالي، كانت هناك تسع سنوات، إنفرد الإسرائيليون خلالها بالفلسطينيين، أذاقوهم فيها الأمرين، جراء الحرب الشرسة التي أعلنت عليهم، وكانت سهام الرسائل الإسرائيلية موجهة صوبهم، متمثلة في مسلسل اجتياحات مدمرة للحجر والشجر والبشر. كانت شهية إسرائيل لافتراس المزيد من الأراضي الفلسطينية مفتوحة ولا تزال على مصراعيها كعادتها دائما وأبدا، بغية توسيع خارطة الإستيطان وتكريسها على أرض الواقع. ولم تنج القدس من سهام التهويد والإستيطان التي أصابتها في الصميم.
أما ما يخص مبادرة السلام العربية، وهي الخيار العربي الوحيد، فإن الرد الإسرائيلي عليها لم يتغير البتة. إنها تشترط لقبولها إفراغها من ثوابت القضية الفلسطينية التي طالما أشهرت لاءاتها في وجهها، وإمعانا في التأكيد على رفضها، وإضافة إلى مسلسل الإجتياحات المستدامة، أعلنت إسرائيل وما زالت تعلن أن برنامجها الإستيطاني لم يكتمل، سواء في الضفة الفلسطينية أو مدينة القدس، وبهذا البرنامج المستدام فإنها تستكمل ترسيم خارطة تهويد القدس جغرافيا وديموغرافيا، وتحجيم طابعها العربي الإسلامي وتقزيمه، وعلى المدى البعيد، إلغاؤه، والإستيلاء على المزيد من الجغرافيا الفلسطينية.
إنه الإستيطان. والإستيطان من منظور إسرائيلي، لا يعني مجرد اغتصاب المزيد من الجغرافيا الفلسطينية، ولا مجرد إقامة الوحدات السكنية وما يتبعها من مرافق، ولا إنشاء الطرق الإلتفافية، ولا بناء جدار العزل العنصري فحسب، وإنما هو تكريس لكيان واحد وحيد على هذه الجغرافية وهو الكيان الإسرائيلي ليس إلا. أما ما يسمى بالعملية السلمية بكل مسمياتها وأشكالها، فهي مجرد مهدئات سياسية، تقتضيها طبيعة الظروف الآنية، وسرعان ما تفقد مفعولها، وقد فقدته بالفعل، ويتم الإنتقال إلى سواها، وهكذا دواليك.
للتذكير فإن الأراضي التي يقوم عليها الإستيطان الإسرائيلي هي قمم الجبال والمرتفعات الفلسطينية التي تشكل مواقع أمنية وإستراتيجية للتحكم بكل التجمعات الفلسطينية والإإشراف على طرق مواصلاتها. وهي خيرة الأراضي الخصبة التي يعتاش على غلالها الفلسطينيون، وهي الأراضي التي تشكل مخزونا إسراتيجيا ديموغرافيا لاستيعاب الزيادات الناجمة عن النمو السكاني الفلسطيني الطبيعي.
وهي أخيرا لا آخرا أراضي آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين. وهي القدس التي تشكل مساحة مرموقة من التاريخ العربي الإسلامي، والعقيدة الإسلامية. وهي الأقصى المبارك، والصخرة المشرفة اللذان يتربص بهما من يسمون بأمناء الهيكل المزعوم. ما دام الحديث عن الأقصى المبارك، فإن آخر ما تفتق عن الذهن الصهيوني ما صرح به المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية ’’يهودا فاينشتاين’’ من أن الأقصى جزء من إسرائيل.
يضاف إلى عمليات اغتصاب الجغرافية الفلسطينية، ما يعانيه الفلسطينيون من ويلات الإحتلال. إن الفلسطينيين عرضة نهارا وليلا إلى اقتحام منازلهم، واعتقال أبنائهم، وزجهم في المعتقلات الإسرائيلية والتنكيل بهم بشتى أشكال التنكيل وأقساها الأمر الذي دفع الكثيرين من هؤلا ء الأسرى إلى الإضراب عن الطعام، وقد وصل الأمر إلى فقدان حياة بعضهم جراء وسائل التعذيب والمعاناة القاسية. إن هؤلاء الأسرى يشكلون هما ولوعة في قلوب ذويهم لا يعلم وطأتها إلا من كان له عزيز في الأسر.
لا يقف الأمر عند هذا الحد من المعاناة الفلسطينية. إنهذه المعاناة تشكل مسلسلا دراميا مأساويا يعيشه الشعب الفلسطيني. ها هي أشجار زيتونه تقطع دون أدنى رحمة. ها هي مزروعاته تحرق على أيدي المستوطنين الذين استباحوها ليلا نهارا. ها هي وسائل مواصلاته تتعرض إلى وابل من حجارة هؤلاء المستوطنين، ومنها ما يحرق، والمسلسل لا ينتهي، وتظل أعمال العنف العدائية ديدن المستوطنين وشغلهم الشاغل.
أما الأقصى المبارك، فها هي باحاته تتعرض يوميا إلى الإقتحامات المتكررة التي تهدف إلى الإستيلاء عليه، وهدمه، وإقامة الهيكل على أنقاضه لا قدر الله. إن الحديث عن الأقصى المبارك، وقبة الصخرة المشرفة، يقودنا إلى مجمل الحديث عن واقع مدينة القدس التي تعاني بشرا وحجرا ما تعانيه. إن مواطنيها الشرعيين يتعرضون إلى مصادرة هوياتهم وهدم منازلهم وطردهم، هذا عدا عن ملاحقات ضرائبية فادحة بحقهم، وهذا غيض من فيض مجمل معاناة مواطني هذه المدينة الفلسطينية المحتلة.
إلا أن الأخطر من هذا كله هو تمسك الأنظمة العربية بخيار واحد هو ’’خيار السلام’’ على علاته، وثبات فشل مركباته، وعدم جدواه، تحت ظلال الرفض الإسرائيلي الذي هو دون أدنى شك يشكل إستراتيجية سياسية غير قابلة للتغيير في الأجندة السياسية الإسرائيلية تحت ظلال الحكومات الإسرائيلية أيا كان لونها السياسي.
هنا تتبادر إلى الأذهان أسئلة لطالما رددها المواطنون الفلسطينيون، وهم يرقبون بحسرة وألم ما آلت إليه أحوال العالم العربي الذي يعيش حالة فريدة من انعدام الوزن السياسي والإقتصادي والثقافي: لماذا هذا الإصرار العربي على خيار يعلمون يقينا أنه مرفوض من قبل الطرف الإسرائيلي؟. لماذا لا يكون للأنظمة العربية بدائل أخرى، وليس المقصود هنا البديل الحربي؟. هل هذا عجز أم تعاجز؟. هل هذا نتاج إراداتهم، أم أنه طرح مفروض عليهم تسويقه بأي ثمن كان؟.
إن الأسئلة كثيرة. وحقيقة الأمر إنها تساؤلات استنكارية، وأجوبتها معروفة مسبقا. لكن الأهم من كل هذا سؤال لا بد من طرحه: هل تعرف الأنظمة العربية ما يدور في تفكير المواطن الفلسطيني تجاه هذا كله؟. ونحن هنا نجيب مقتبسين إجابتنا من بيت الشعر العربي إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة - وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم .
أجل إن الأجوبة باتت معروفة للقاصي قبل الداني، والمصيبة الفلسطينية أصبحت أعظم. إنها تنطلق جميعها من كون الأنظمة العربية، قد تخلت عن القضية التي كانت ذات يوم قضية العرب الأولى. إن الأنظمة العربية قد التزمت جانب الحياد والمشاهدة عن بعد، واجترار خيار سلام لا يسمن ولا يغني من جوع.
فلسطينيا، إن الإستيطان يعني شرعنة استلاب الأرض التي هي مادة الوجود الفلسطيني الرئيسة. إن الفلسطينيين لا يتصورون سلاما دائما مع استلاب هذه الأراضي، وهي ليست أية أراض، وإنما هي منتقاة ومختارة بعناية تؤدي وظائف تخدم أهدافا إحتلالية إستراتيجية جغرافية وديموغرافية بعيدة المدى. إنهم لا يتصورون سلاما يُبقي على مئات المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية المغتصبة، و هم لا يتصورون سلاما أيا كان لونه وشكله يستثني آلاف أسراهم خلف قضبان الإحتلال، ولا هم يتصورون سلاما لا يشمل حق العودة. وأخيرا لا آخرا لا يتصورون سلاما دون أن تكون القدس عاصمة لدولتهم العتيدة.
في حقيقة الأمر إن إسرائيل منذ العام 1967، لم تهدأ جرافاتها لحظة واحدة بغض النظر عن ألوان السياسات التي كانت تحركها يسارية أم يمينية أم وسطية، أو سواء كانت إسرائيل في حالة حرب مع العرب، أو تحت ظلال العملية السلمية التي يفرتض أنها قامت على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام. إن الإستيطان من منظور إسرائيلي هو خارج معادلة أي سلام. وعلى ما يبدو إن أقصى ما يمكن أن تقدمه أكثر السياسات الإسرائيلية تسامحا وتساهلا هو فترة استراحة لجرافاتها وآلياتها الأخرى، تلتقط أنفاسها خلالها استعدادا لنشاط موعود جديد ومخطط له.
إن الشعب الفلسطيني الذي دخلت نكبته عامها الخامس والستين، والذي يستعد لإحياء الذكرى السنوية الخامسة والأربعين لاحتلال كامل تراب وطنه، مدرك تماما أن المشروع الإستيطاني الصهيوني، لا يتقاطع بأية نقطة مع مبادرة السلام العربية، ولا يحسب لها أي حساب يذكر، وأنه ماض غير آبه بها، ولا يمكن في يوم من الأيام أن تشكل مدخلا للسياسة الإسرائيلية التي عودته الأنظمة العربية على عدم جديتها فيما يخص كل طروحاتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
كلمة أخيرة. لقد اعتاد الشعب الفلسطيني على شتى أشكال الظروف القاهرة ، وهو من المناعة بحيث أن ظرفا ما أيا كان لن يقدر على إحباطه أو تدمير قواه الذاتية التي حافظ عليها عبر أقسى نضالاته. وهو مدرك وواع ومستعد لكافة الإحتمالات، وأولاها فشل العملية السلمية برمتها التي تعاني حاليا من الإهمال والجمود. وفي هذه الحال لن يكون هو الخاسر الوحيد. ورب ضارة نافعة. فلعل هذا الفشل المحتم، يفتح آفاقا أخرى، ولعله يطرح خيارات عربية ذات مصداقية، تكون نابعة من إحساس عروبي لم يعد يحتمل الإنتظار على واقعه المرير.
*التجديد