سهيل الغنوشي
كم كانت الثورات العربية كاشفة للحقائق الصادمة وناقضة للمسلمات عن الأنظمة والمعارضة والشعوب. أسقطت الأقنعة والأعذار، ونسفت منظومة استقرت في الأذهان طويلا مفادها أن مأزق البلاد العربية سببه نظام لا يقهر وشعب مستكين. أما المعارضة الضحية فتمتلك البرامج والحلول والكوادر ولا تنقصها إلا الفرصة ولا يحرّكها إلا الحرص على الوطن والشعب.
فشلت النخب والأحزاب في اكتشاف المخزون الثوري الهائل لدى الشعوب ثم في استثمار الفرصة الذهبية التي صنعها الشعب، وشهدت الثورة السورية ذروة المفارقة بين الأداء الميداني الرائع والأداء السياسي المخجل، كما شهدت الثورة المنتصرة في تونس ومصر ذروة المفارقة بين الحصيلة الهزيلة وبين حجم الآمال وفرص النجاح.
انتصرت الثورة في الجولات الأولى ثم واجهت مرحلة لم تكن بنفس الوضوح في أهدافها ووسائلها ومخاطرها، حيث غاب العدو الظاهر الموحِّد والمستفِز فانقسمت القوى الثورية وفترت حماسة الشعب، وتقزّمت الثورة إلى صراع حول من يحكم وإلى متى؟ وضاعت أوقات ثمينة وتمّ التفريط في المصلحة الوطنية بأشكال مختلفة، وحادت الثورة عن مسارها.
لقد كان واضحا منذ البداية أن الخطر الأكبر على الثورة بعد انتصارها ليس عودة النظام القديم، بل إعادة إنتاج المنظومة السياسية والاقتصادية القديمة من خلال الإعاقة والاحتواء والتمييع، ذلك أن عودة النظام بعد سقوطه كعودة الاحتلال المباشر بعد الاستقلال تحدّ سافر دونه فيتو شعبي والتصدي له لا يحتاج إلى كثير من الوعي والحشد.
’’
يبدو أن أصحاب النفوذ والمصالح قطعوا شوطا كبيرا في مساعيهم لاحتواء الثورة وترويض السياسيين والأحزاب من خلال إغراء الفرقاء بالسلطة وتفعيل العداوة والبغضاء بينهم
’’
واستمر الإنكار والتبرير والتسويف والترقيع والتنصل من المسؤولية واستجداء القروض والمساعدات.
ويبدو أن أصحاب النفوذ والمصالح قطعوا شوطا كبيرا في مساعيهم لاحتواء الثورة وترويض السياسيين والأحزاب من خلال إغراء الفرقاء بالسلطة وتفعيل العداوة والبغضاء بينهم حتى يرتهن الجميع للخارج ويعاد إنتاج المنظومة السابقة بشكل أو بآخر، وهذا ما يفسر التراجع الملحوظ في منسوب القلق والخوف من الثورات وتداعياتها، وانقلابه إلى ترحيب ودعم.
فأصبحت ترعى الثورات وحكومات الربيع العربي بصورة مباشرة وغير مباشرة دولٌ غير معروفة بحرصها على الثورة والديمقراطية في العالم العربي: نفس الدعم والشكر من نفس الجهات التي كانت تدعم الأنظمة المخلوعة.
ذلك أن أصحاب النفوذ والمصالح لا يهمهم إلا مصالحهم ونفوذهم. لا يهمّهم من يحكم. لا تهمّهم الأسماء ولا الأيديولوجيات ولا الشعارات ولا التصريحات ولا النوايا ولا الأفكار ولا حتى الأفعال ما لم تمس جوهر الموضوع.
كل الذي يعنيهم أن تمسك بالسلطة جهة مستعدة وقادرة على حفظ المصالح. ولا يقلقهم من الثورات وحركات التغيير سوى مشروع وقيادة يمكن أن يلتفّ حولهما الناس، ما يخشونه تحديدا قيادة غير قابلة للتطويع ومشروع مهدّد للمصالح والنفوذ. اجتماع الشرطين يُعتبر خطرا داهما، فإذا أضيفت الكفاءة أصبح السيناريو كارثيا.
ويبدو أن نتائج تحاليل ’’العيّنات’’ الكثيرة التي أخذت من اللقاءات المكثّفة التي تمت بعد الثورة جاءت سلبيّة فاطمأنّ القوم على مصالحهم ونفوذهم وانتفى الداعي للكلفة العالية للسيناريو الجزائري الذي قُطِع فيه طريق الحُكم أمام حركة فجّرت وقادت ثورة ونظّمت مليونيات وفازت في الانتخابات بنسبة فاقت 80%.
فالسياسة محكومة بالمصالح وموازين القوة، وما عدا ذلك تأثيرات سينمائية لتلطيف السياسات والمواقف وتسويقها، ومن أبجديات العلاقات الدولية أنه لا يوجد عدو ثابت ولا صديق ثابت، بل توجد مصالح ثابتة من حفظها يصبح صديقا، ومن هدّدها يصبح عدوا، ومن عجز عن حفظها يُستبدَل، ومن خُلِع يصبح مذموما مخذولا.
ويبدو أن الصراع المبكر والمحموم على السلطة في البلدان التي تعذّر فيها تطبيق السيناريو البحريني أو اليمني وفّر لتلك القوى مدخلا كبيرا لترويض الأطراف المتصارعة واحتواء الثورة، لضمان بقاء البلاد في دوائر التبعية والنفوذ، وخفض سقف التطلعات والتوقعات، وإنتاج منظومة لا تختلف جوهريا عن المنظومة التي قامت ضدها الثورة.
’’
لم يمس التغيير الجوهر، ولم تغادر البلاد مربع المناكفات الإعلامية والمزايدات الحزبية والأعمال الاستعراضية والإنجازات الوهمية التي يسمع عنها المواطن ولا يلمسها
’’
ولقد زادهم اطمئنانا المواقف والتطورات التي شهدتها المنطقة منذ بداية الربيع العربي إلى ما بعد أحداث غزة التي لم تخرج فيها ردود الأفعال عن السياق المعهود ولم تتجاوز حدود الوساطة ورفع العتب.
فهؤلاء حساباتهم ليست عاطفية ولا يلقون بالا للتصريحات النارية والحركات الاستعراضية.
لم يحدث ما يشير إلى أن بلاد الربيع العربي تسير باتجاه النهوض والسيادة واستقلال القرار والتحرر من التبعية والتحصن ضد المنوال السابق في الحكم القائم على هيمنة سلطة ’’متعاونة’’.
بل إن قواعد السياسة وتطورات الأحداث والمواقف والتصريحات ومبادرات الطمأنة تشير إلى أنه قد أبرمت تفاهمات وترتيبات كبرى ضمنت المصالح وكيّفت مواقف الطرفين. قد يكون ذلك مما تقتضيه الضرورة والحكمة والمصلحة، ولكن الإشكال في الدوافع والمقابل.
فما يفصل بين البراغماتية والانتهازية مدى التقيد بالمبادئ والأخلاق وماهية المصالح التي تحكم المواقف أهي وطنية أم فئوية (شخصية، حزبية، طائفية...)، وذلك خيط رفيع ولكنه حاسم. فالتنازل من أجل المصلحة الوطنية ولتنفيذ مشروع وطني شرف وبراغماتية حميدة، والتفريط في المصلحة الوطنية (بأي حجة) خيانة وانتهازية معيبة.
ولكن ما الذي يوقع شخصيات وأحزابا وطنية مناضلة في مثلّث الاستبداد والتبعية والفساد كما حصل مع عدد من حركات التحرر؟ قلة شاذة أولئك الذين تزلهم الانتهازية والعمالة. أما الغالبية العظمى فيطيح بهم الضعف أمام شهوة السلطة والجاه والأضواء وربما المال (تماما كما أطاح بجنرال في حجم بترايوس الضعف أمام شهوة الجنس).
هذا الضعف يجعل السياسي أو الحزب عرضة للابتزاز والتطويع. وعادة ما تكون بداية الانحراف من تطور اعتقاد الإنسان بأنه الأصلح لحكم البلاد (وهذا أمر مشروع وطبيعي) إلى الاعتقاد بأنه لا يصلح للحكم غيره، فيصبح الوصول إلى الحكم والبقاء فيه غاية وخلاصا للبلاد والعباد والخروج منه كابوسا وكارثة وطنية، ومن ثم تستباح (ولو تدريجيا) كل الوسائل بما في ذلك التفريط في المصلحة الوطنية باسم الضرورة أو باسم المصلحة الوطنية (أو مصلحة الدين بالنسبة للبعض) التي تصبح تابعة للمصلحة الحزبية، بينما المبدأ الذي ينبغي أن يتقيد به الجميع هو أن ما يصلح للوطن والشعب يصلُح لكل الأطراف ويُلزِمها مهما كان الثمن، والعكس ليس دائما صحيحا.
’’
السلطة مفسدة للناس وللأوضاع إذا أصبحت غاية. أما إذا تمحورت السياسة حول رسالة إنسانية ومشروع وطني تصبح أنبل مهنة
’’
العامل الثاني الذي يطيح بالشخصيات والأحزاب الوطنية في التبعيّة هو التعاطي مع المعادلة والقوى الإقليمية والدولية الذي يجمع بين السذاجة والازدواجية والاستخفاف إلى حد الاستغفال: فمن الساسة العرب من يظن أنه بإمكانه أن يقول لتلك القوى ما يحبون سماعه ليأخذ منهم ما يحتاجه (من دون مقابل) ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء، وكأن تلك الدول ليست لها أجندات أو مخابرات أو مراكز دراسات أو حتى سفارات.
إن أقوى سلاح يمتلكه السياسي أو القائد في وجه الابتزاز وضد الانزلاق إلى الاستبداد والتبعيّة والفساد هو نكران الذات والزهد في المال والجاه والحرص على الناس والوضوح معهم، وتحكيم الضمير والمصلحة الوطنية في كل موقف، وفهم القواعد والمعادلات السياسية الحاكمة واحترامها حتى لا ينخدع ولا يتنطع فيسيء لنفسه ويضر بشعبه، وإلا عليه أن يترك السياسة.
صحيح أن السياسة لا تنفك عن الصراع على السلطة، والسلطة مفسدة للناس وللأوضاع إذا أصبحت غاية. أما إذا تمحورت السياسة حول رسالة إنسانية ومشروع وطني تصبح أنبل مهنة، وأصحابها المخلصون لقضية الحريصون على الشعب الزاهدون في السلطة يصلحون وينفعون سواء كانوا في السلطة أو خارجها، ولا يزيدهم وجودهم في السلطة إلا نجاحا وشعبية.
أما المواطن فعليه أن يتسلح بالوعي وأن يتساءل ويتحرّى ويسعى للتوصل إلى إجابات مقنعة حتى لا يصبح عرضة للتضليل والاستغلال أو وقودا للصراع على السلطة. هذا الوعي السياسي المطلوب لا يتحقق إلا بتكوين خلفيّة سياسية معقولة عن هذا العالم تُمكِّن من الفرز والرّبط والقياس، ثم تنويع مصادر الأخبار والتحاليل السياسية، مع العلم أن الشق الأكبر والأهم من السياسة لا تغطيه الأخبار وإنما يحتاج الإنسان لأن يستنبطه من الأحداث ومن القواعد التي تحكم السياسة.
فإذا سمعت عن دعم فسأل وابحث عن المصلحة والمقابل لأن الدول ليست جمعيات خيرية ولا منظمات حقوقية، وإذا سمعت أقوالا فسأل عن الأفعال والإمكانات والأرقام، وإذا رأيت أفعالا فسأل عن دوافعها ومدى تأثيرها.
إن الانخراط في السياسة ينبغي أن يكون واعيا وأن تَحكُمه المصلحة الوطنية وأن يُترجم إلى أفعال مؤثّرة وأن يتمحور حول تشخيص الأوضاع (وليس فقط توصيفها والمتابعة السلبية للأخبار) لمعرفة حقيقة ما يجري وأسبابه وخلفيّاته، والبحث عن حلول، وأهم الأسئلة التي ينبغي أن يطرحها كل مواطن حيال كل قضية ما الذي تقتضيه المصلحة الوطنية، وما الذي يمكن أن أقدّمه؟ ذلك هو مِلح السياسة الذي من دونه تصبح بلا طعم وتصبح إهدارا للوقت.
’’
يظلّ الأمل في نجاح الثورة وتحقيق أهدافها معقودا بعد الله على جيل التحرّر والنهوض الذي ينشأ نشأة سويّة في أجواء الحرية ومفعما بالروح الوطنية وسليما من عقدة الاضطهاد
’’
إن معيار نجاح الثورات أن تضع الوطن والشعب على طريق التحرّر والنهوض واستعادة السيادة الوطنية الكاملة واستقلال القرار، وإقامة دولة المواطنة والقانون والمؤسسات، وانتشار الوعي والحس الرسالي والحس الوطني وسمو الطموحات والاهتمامات ورقي الأخلاق والمعاملات، وكل ذلك يفضي إلى أن يعم العدل والأمن والرخاء، أي ثورة في العقول والنفوس والوعي والسلوك، وتلك هي الثورة الحقيقية التي لا يكون فيها إصلاح النظام أو إسقاطه سوى خطوة ومحطة ولا يمثل فيها الحكم إلا وسيلة.
حصيلة السنتين لا تنبئ بأن الثورة تسير بهذا الاتجاه. ولقد كانت الحركة الإسلامية مرشحة ومؤهلة أكثر من غيرها لقيادة الثورة بهذا الاتجاه ولأن تكون نواة لتيار وطني جامع تصطفّ فيه كل القوى الثورية، ولكن ذلك كان يقتضي نقلة ضخمة وسريعة في التفكير والممارسة، لم تتحقق رغم أنها كانت ممكنة وواجبة. فشتان بين إدارة تنظيم شبه مغلق وبين إدارة دولة وقيادة مجتمع وثورة.
ومفتاح كل ذلك أن تكون الحركة فوق مستوى الشبهات في تغليب المصلحة الوطنية وحرصها على الشعب حرصا صادقا غير متكلف وغير مرتبط بمواسم الانتخابات، تخدم الناس ولا تريد منهم جزاء ولا شكورا، يحرّكها حب الشعب وعشق الوطن، وهمها الأكبر أن يعمّ في البلاد العدل والأمن والرخاء.
ما العمل الآن وقد حصل ما حصل؟ انتصرت الثورة في جولتين وتعثّرت وتاهت في الثالثة، فلم تُفرز القيادات الوطنية المطلوبة ولم تحافظ على زخمها ووحدتها وصبغتها الوطنية العابرة لكل الانتماءات الفرعية ولم يتحقق التوافق المنشود ولا الالتحام المطلوب بين الشعب وبين النخب والأحزاب، بل برزت ظواهر ومشاهد تذكّر بما قبل الثورة.
إن أهم دور يقوم به أي وطني غيور هو توعية الناس بحقيقة ما يجري وتحفيزهم باتجاه الفعل الوطني المؤثّر الذي يبلّغ الثورة أهدافها ويتصدى لكل محاولات الإعاقة والتمييع والاحتواء، ويقطع الطريق على أي محاولة لعودة الاستبداد وتكريس التبعيّة بأي حجّة وتحت أي مسمّى، لأن ذلك يجهض كل أمل في تحقيق أهداف الثورة ويفوّت فرصة قد لا تتاح لجيل إلا مرة واحدة ويُنذر باستحكام منظومة الاستبداد والتبعية والفساد لعقود طويلة.
يظلّ الأمل في نجاح الثورة وتحقيق أهدافها معقودا بعد الله على جيل التحرّر والنهوض الذي ينشأ نشأة سويّة في أجواء الحرية ومفعما بالروح الوطنية وسليما من عقدة الاضطهاد والهوس بالسلطة والانغلاق الحزبي.
توعية هذا الجيل والأغلبية الصامتة وتأطيرهم وتحفيزهم من أجل الانخراط الواعي الوطني الفعّال في الشأن العام والانتظام في تيار وطني جامع يكمل مشوار الثورة كما بدأت، تلك هي أولويات المرحلة من أجل تحصين الثورة وإبقاء الأمل في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها.
المصدر:الجزيرة
كم كانت الثورات العربية كاشفة للحقائق الصادمة وناقضة للمسلمات عن الأنظمة والمعارضة والشعوب. أسقطت الأقنعة والأعذار، ونسفت منظومة استقرت في الأذهان طويلا مفادها أن مأزق البلاد العربية سببه نظام لا يقهر وشعب مستكين. أما المعارضة الضحية فتمتلك البرامج والحلول والكوادر ولا تنقصها إلا الفرصة ولا يحرّكها إلا الحرص على الوطن والشعب.
فشلت النخب والأحزاب في اكتشاف المخزون الثوري الهائل لدى الشعوب ثم في استثمار الفرصة الذهبية التي صنعها الشعب، وشهدت الثورة السورية ذروة المفارقة بين الأداء الميداني الرائع والأداء السياسي المخجل، كما شهدت الثورة المنتصرة في تونس ومصر ذروة المفارقة بين الحصيلة الهزيلة وبين حجم الآمال وفرص النجاح.
انتصرت الثورة في الجولات الأولى ثم واجهت مرحلة لم تكن بنفس الوضوح في أهدافها ووسائلها ومخاطرها، حيث غاب العدو الظاهر الموحِّد والمستفِز فانقسمت القوى الثورية وفترت حماسة الشعب، وتقزّمت الثورة إلى صراع حول من يحكم وإلى متى؟ وضاعت أوقات ثمينة وتمّ التفريط في المصلحة الوطنية بأشكال مختلفة، وحادت الثورة عن مسارها.
لقد كان واضحا منذ البداية أن الخطر الأكبر على الثورة بعد انتصارها ليس عودة النظام القديم، بل إعادة إنتاج المنظومة السياسية والاقتصادية القديمة من خلال الإعاقة والاحتواء والتمييع، ذلك أن عودة النظام بعد سقوطه كعودة الاحتلال المباشر بعد الاستقلال تحدّ سافر دونه فيتو شعبي والتصدي له لا يحتاج إلى كثير من الوعي والحشد.
’’
يبدو أن أصحاب النفوذ والمصالح قطعوا شوطا كبيرا في مساعيهم لاحتواء الثورة وترويض السياسيين والأحزاب من خلال إغراء الفرقاء بالسلطة وتفعيل العداوة والبغضاء بينهم
’’
واستمر الإنكار والتبرير والتسويف والترقيع والتنصل من المسؤولية واستجداء القروض والمساعدات.
ويبدو أن أصحاب النفوذ والمصالح قطعوا شوطا كبيرا في مساعيهم لاحتواء الثورة وترويض السياسيين والأحزاب من خلال إغراء الفرقاء بالسلطة وتفعيل العداوة والبغضاء بينهم حتى يرتهن الجميع للخارج ويعاد إنتاج المنظومة السابقة بشكل أو بآخر، وهذا ما يفسر التراجع الملحوظ في منسوب القلق والخوف من الثورات وتداعياتها، وانقلابه إلى ترحيب ودعم.
فأصبحت ترعى الثورات وحكومات الربيع العربي بصورة مباشرة وغير مباشرة دولٌ غير معروفة بحرصها على الثورة والديمقراطية في العالم العربي: نفس الدعم والشكر من نفس الجهات التي كانت تدعم الأنظمة المخلوعة.
ذلك أن أصحاب النفوذ والمصالح لا يهمهم إلا مصالحهم ونفوذهم. لا يهمّهم من يحكم. لا تهمّهم الأسماء ولا الأيديولوجيات ولا الشعارات ولا التصريحات ولا النوايا ولا الأفكار ولا حتى الأفعال ما لم تمس جوهر الموضوع.
كل الذي يعنيهم أن تمسك بالسلطة جهة مستعدة وقادرة على حفظ المصالح. ولا يقلقهم من الثورات وحركات التغيير سوى مشروع وقيادة يمكن أن يلتفّ حولهما الناس، ما يخشونه تحديدا قيادة غير قابلة للتطويع ومشروع مهدّد للمصالح والنفوذ. اجتماع الشرطين يُعتبر خطرا داهما، فإذا أضيفت الكفاءة أصبح السيناريو كارثيا.
ويبدو أن نتائج تحاليل ’’العيّنات’’ الكثيرة التي أخذت من اللقاءات المكثّفة التي تمت بعد الثورة جاءت سلبيّة فاطمأنّ القوم على مصالحهم ونفوذهم وانتفى الداعي للكلفة العالية للسيناريو الجزائري الذي قُطِع فيه طريق الحُكم أمام حركة فجّرت وقادت ثورة ونظّمت مليونيات وفازت في الانتخابات بنسبة فاقت 80%.
فالسياسة محكومة بالمصالح وموازين القوة، وما عدا ذلك تأثيرات سينمائية لتلطيف السياسات والمواقف وتسويقها، ومن أبجديات العلاقات الدولية أنه لا يوجد عدو ثابت ولا صديق ثابت، بل توجد مصالح ثابتة من حفظها يصبح صديقا، ومن هدّدها يصبح عدوا، ومن عجز عن حفظها يُستبدَل، ومن خُلِع يصبح مذموما مخذولا.
ويبدو أن الصراع المبكر والمحموم على السلطة في البلدان التي تعذّر فيها تطبيق السيناريو البحريني أو اليمني وفّر لتلك القوى مدخلا كبيرا لترويض الأطراف المتصارعة واحتواء الثورة، لضمان بقاء البلاد في دوائر التبعية والنفوذ، وخفض سقف التطلعات والتوقعات، وإنتاج منظومة لا تختلف جوهريا عن المنظومة التي قامت ضدها الثورة.
’’
لم يمس التغيير الجوهر، ولم تغادر البلاد مربع المناكفات الإعلامية والمزايدات الحزبية والأعمال الاستعراضية والإنجازات الوهمية التي يسمع عنها المواطن ولا يلمسها
’’
ولقد زادهم اطمئنانا المواقف والتطورات التي شهدتها المنطقة منذ بداية الربيع العربي إلى ما بعد أحداث غزة التي لم تخرج فيها ردود الأفعال عن السياق المعهود ولم تتجاوز حدود الوساطة ورفع العتب.
فهؤلاء حساباتهم ليست عاطفية ولا يلقون بالا للتصريحات النارية والحركات الاستعراضية.
لم يحدث ما يشير إلى أن بلاد الربيع العربي تسير باتجاه النهوض والسيادة واستقلال القرار والتحرر من التبعية والتحصن ضد المنوال السابق في الحكم القائم على هيمنة سلطة ’’متعاونة’’.
بل إن قواعد السياسة وتطورات الأحداث والمواقف والتصريحات ومبادرات الطمأنة تشير إلى أنه قد أبرمت تفاهمات وترتيبات كبرى ضمنت المصالح وكيّفت مواقف الطرفين. قد يكون ذلك مما تقتضيه الضرورة والحكمة والمصلحة، ولكن الإشكال في الدوافع والمقابل.
فما يفصل بين البراغماتية والانتهازية مدى التقيد بالمبادئ والأخلاق وماهية المصالح التي تحكم المواقف أهي وطنية أم فئوية (شخصية، حزبية، طائفية...)، وذلك خيط رفيع ولكنه حاسم. فالتنازل من أجل المصلحة الوطنية ولتنفيذ مشروع وطني شرف وبراغماتية حميدة، والتفريط في المصلحة الوطنية (بأي حجة) خيانة وانتهازية معيبة.
ولكن ما الذي يوقع شخصيات وأحزابا وطنية مناضلة في مثلّث الاستبداد والتبعية والفساد كما حصل مع عدد من حركات التحرر؟ قلة شاذة أولئك الذين تزلهم الانتهازية والعمالة. أما الغالبية العظمى فيطيح بهم الضعف أمام شهوة السلطة والجاه والأضواء وربما المال (تماما كما أطاح بجنرال في حجم بترايوس الضعف أمام شهوة الجنس).
هذا الضعف يجعل السياسي أو الحزب عرضة للابتزاز والتطويع. وعادة ما تكون بداية الانحراف من تطور اعتقاد الإنسان بأنه الأصلح لحكم البلاد (وهذا أمر مشروع وطبيعي) إلى الاعتقاد بأنه لا يصلح للحكم غيره، فيصبح الوصول إلى الحكم والبقاء فيه غاية وخلاصا للبلاد والعباد والخروج منه كابوسا وكارثة وطنية، ومن ثم تستباح (ولو تدريجيا) كل الوسائل بما في ذلك التفريط في المصلحة الوطنية باسم الضرورة أو باسم المصلحة الوطنية (أو مصلحة الدين بالنسبة للبعض) التي تصبح تابعة للمصلحة الحزبية، بينما المبدأ الذي ينبغي أن يتقيد به الجميع هو أن ما يصلح للوطن والشعب يصلُح لكل الأطراف ويُلزِمها مهما كان الثمن، والعكس ليس دائما صحيحا.
’’
السلطة مفسدة للناس وللأوضاع إذا أصبحت غاية. أما إذا تمحورت السياسة حول رسالة إنسانية ومشروع وطني تصبح أنبل مهنة
’’
العامل الثاني الذي يطيح بالشخصيات والأحزاب الوطنية في التبعيّة هو التعاطي مع المعادلة والقوى الإقليمية والدولية الذي يجمع بين السذاجة والازدواجية والاستخفاف إلى حد الاستغفال: فمن الساسة العرب من يظن أنه بإمكانه أن يقول لتلك القوى ما يحبون سماعه ليأخذ منهم ما يحتاجه (من دون مقابل) ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء، وكأن تلك الدول ليست لها أجندات أو مخابرات أو مراكز دراسات أو حتى سفارات.
إن أقوى سلاح يمتلكه السياسي أو القائد في وجه الابتزاز وضد الانزلاق إلى الاستبداد والتبعيّة والفساد هو نكران الذات والزهد في المال والجاه والحرص على الناس والوضوح معهم، وتحكيم الضمير والمصلحة الوطنية في كل موقف، وفهم القواعد والمعادلات السياسية الحاكمة واحترامها حتى لا ينخدع ولا يتنطع فيسيء لنفسه ويضر بشعبه، وإلا عليه أن يترك السياسة.
صحيح أن السياسة لا تنفك عن الصراع على السلطة، والسلطة مفسدة للناس وللأوضاع إذا أصبحت غاية. أما إذا تمحورت السياسة حول رسالة إنسانية ومشروع وطني تصبح أنبل مهنة، وأصحابها المخلصون لقضية الحريصون على الشعب الزاهدون في السلطة يصلحون وينفعون سواء كانوا في السلطة أو خارجها، ولا يزيدهم وجودهم في السلطة إلا نجاحا وشعبية.
أما المواطن فعليه أن يتسلح بالوعي وأن يتساءل ويتحرّى ويسعى للتوصل إلى إجابات مقنعة حتى لا يصبح عرضة للتضليل والاستغلال أو وقودا للصراع على السلطة. هذا الوعي السياسي المطلوب لا يتحقق إلا بتكوين خلفيّة سياسية معقولة عن هذا العالم تُمكِّن من الفرز والرّبط والقياس، ثم تنويع مصادر الأخبار والتحاليل السياسية، مع العلم أن الشق الأكبر والأهم من السياسة لا تغطيه الأخبار وإنما يحتاج الإنسان لأن يستنبطه من الأحداث ومن القواعد التي تحكم السياسة.
فإذا سمعت عن دعم فسأل وابحث عن المصلحة والمقابل لأن الدول ليست جمعيات خيرية ولا منظمات حقوقية، وإذا سمعت أقوالا فسأل عن الأفعال والإمكانات والأرقام، وإذا رأيت أفعالا فسأل عن دوافعها ومدى تأثيرها.
إن الانخراط في السياسة ينبغي أن يكون واعيا وأن تَحكُمه المصلحة الوطنية وأن يُترجم إلى أفعال مؤثّرة وأن يتمحور حول تشخيص الأوضاع (وليس فقط توصيفها والمتابعة السلبية للأخبار) لمعرفة حقيقة ما يجري وأسبابه وخلفيّاته، والبحث عن حلول، وأهم الأسئلة التي ينبغي أن يطرحها كل مواطن حيال كل قضية ما الذي تقتضيه المصلحة الوطنية، وما الذي يمكن أن أقدّمه؟ ذلك هو مِلح السياسة الذي من دونه تصبح بلا طعم وتصبح إهدارا للوقت.
’’
يظلّ الأمل في نجاح الثورة وتحقيق أهدافها معقودا بعد الله على جيل التحرّر والنهوض الذي ينشأ نشأة سويّة في أجواء الحرية ومفعما بالروح الوطنية وسليما من عقدة الاضطهاد
’’
إن معيار نجاح الثورات أن تضع الوطن والشعب على طريق التحرّر والنهوض واستعادة السيادة الوطنية الكاملة واستقلال القرار، وإقامة دولة المواطنة والقانون والمؤسسات، وانتشار الوعي والحس الرسالي والحس الوطني وسمو الطموحات والاهتمامات ورقي الأخلاق والمعاملات، وكل ذلك يفضي إلى أن يعم العدل والأمن والرخاء، أي ثورة في العقول والنفوس والوعي والسلوك، وتلك هي الثورة الحقيقية التي لا يكون فيها إصلاح النظام أو إسقاطه سوى خطوة ومحطة ولا يمثل فيها الحكم إلا وسيلة.
حصيلة السنتين لا تنبئ بأن الثورة تسير بهذا الاتجاه. ولقد كانت الحركة الإسلامية مرشحة ومؤهلة أكثر من غيرها لقيادة الثورة بهذا الاتجاه ولأن تكون نواة لتيار وطني جامع تصطفّ فيه كل القوى الثورية، ولكن ذلك كان يقتضي نقلة ضخمة وسريعة في التفكير والممارسة، لم تتحقق رغم أنها كانت ممكنة وواجبة. فشتان بين إدارة تنظيم شبه مغلق وبين إدارة دولة وقيادة مجتمع وثورة.
ومفتاح كل ذلك أن تكون الحركة فوق مستوى الشبهات في تغليب المصلحة الوطنية وحرصها على الشعب حرصا صادقا غير متكلف وغير مرتبط بمواسم الانتخابات، تخدم الناس ولا تريد منهم جزاء ولا شكورا، يحرّكها حب الشعب وعشق الوطن، وهمها الأكبر أن يعمّ في البلاد العدل والأمن والرخاء.
ما العمل الآن وقد حصل ما حصل؟ انتصرت الثورة في جولتين وتعثّرت وتاهت في الثالثة، فلم تُفرز القيادات الوطنية المطلوبة ولم تحافظ على زخمها ووحدتها وصبغتها الوطنية العابرة لكل الانتماءات الفرعية ولم يتحقق التوافق المنشود ولا الالتحام المطلوب بين الشعب وبين النخب والأحزاب، بل برزت ظواهر ومشاهد تذكّر بما قبل الثورة.
إن أهم دور يقوم به أي وطني غيور هو توعية الناس بحقيقة ما يجري وتحفيزهم باتجاه الفعل الوطني المؤثّر الذي يبلّغ الثورة أهدافها ويتصدى لكل محاولات الإعاقة والتمييع والاحتواء، ويقطع الطريق على أي محاولة لعودة الاستبداد وتكريس التبعيّة بأي حجّة وتحت أي مسمّى، لأن ذلك يجهض كل أمل في تحقيق أهداف الثورة ويفوّت فرصة قد لا تتاح لجيل إلا مرة واحدة ويُنذر باستحكام منظومة الاستبداد والتبعية والفساد لعقود طويلة.
يظلّ الأمل في نجاح الثورة وتحقيق أهدافها معقودا بعد الله على جيل التحرّر والنهوض الذي ينشأ نشأة سويّة في أجواء الحرية ومفعما بالروح الوطنية وسليما من عقدة الاضطهاد والهوس بالسلطة والانغلاق الحزبي.
توعية هذا الجيل والأغلبية الصامتة وتأطيرهم وتحفيزهم من أجل الانخراط الواعي الوطني الفعّال في الشأن العام والانتظام في تيار وطني جامع يكمل مشوار الثورة كما بدأت، تلك هي أولويات المرحلة من أجل تحصين الثورة وإبقاء الأمل في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها.
المصدر:الجزيرة