الإمام حسن البنا
لبيك اللهم لبيك
ما أجمل عظمة الربوبية! وما أعظم فضل الألوهية!.
وما أجمل أن يتفضل الله على عباده فيدعوهم إلى بيته العتيق ليغفر ذنوبهم ويطهِّر قلوبهم ويضاعف أجورهم ويجدد أرواحهم ويمنحهم من فيض فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!.
وما أجمل أن يتفتح المؤمن على هذا النداء العلوي ويتلقاه كما تتلقى الزهرة قطرات الندى فيحيا به ويسعد ويتجهز من فوره لإجابة دعوة الله، والانضمام إلى وفده الكريم مهاجرًا إلى حرمه المقدس وبيته الأمين هاتفًا من أعماق قلبه: لبيك اللهم لبيك!.
أيها الأخ الكريم..
إن كنت ممن سمعوا هذا النداء فأجابوا الدعاء، وقُدِّر لهم أن يكونوا في وفد الله تبارك وتعالى فاعلم أنها غرة السعادة وفاتحة الخير كله، وعنوان رضوان الله؛ فما دعاك إلا وهو يحبك، وما نداك إلا ليمنحك، ﴿وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: من الآية 268)، فهنِّئ نفسك بهذا الفضل المبين، وتقبَّل منا تهنئة الإخوان المحبِّين، واذكرنا بصالح الدعوات المشرفة، وإن حالت دون ذلك الحوائل فصاحب الحجاج بقلبك، ورافقهم في أداء المناسك بروحك؛ فإن لك مثل ثوابهم إن شاء الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد القائل لأصحابه ما معناه: ’’إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم سيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم’’، قالوا كيف يا رسول الله قال: ’’حبسهم العذر’’.
وفقنا الله وإياك إلى حج بيته وزيارة رسوله، وكتب لنا ولك القبول آمين (جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية).
الحج فريضةٌ من فرائض الله؛ أمر بها عباده وكلَّفهم أداءها وأعدَّ لهم جزيل الثواب إن فعلوها، وتوعَّد بأشد العقوبة من تركها، وهو عليها قادر ولها مستطيع، وهو ركنٌ من أركان الدين الخمسة؛ يتم بتمامه وينقص بنقصه، وهو من بين هذه الأركان عبادة العمر وتتمام الأمر، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3)، وقد وردت بذلك آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول العظيم.
1- قال الله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 97).
وهذا تركيبٌ يدل على عظيم العناية بالحج وتأكيد فريضته، ألست ترى أن الحق تبارك وتعالى اعتبره دينًا له على عباده في قوله ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ﴾؟!، وألست ترى أنه تبارك وتعالى جعل مقابل القعود عن أدائه الكفر، وهو أشد المقت، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾، ولم يعهد هذا التركيب في فريضةٍ أخرى في كتاب الله غير الحج تنبيهًا على عظيم قدره وجليل أهميته.
2- قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ (البقرة: من الآية 196)، والمعنى أكملوا الحج والعمرة خالصين لله وأنتم ممتثلون لأوامر الله، مجيبين دعوةَ الله.
ولعلك لاحظت هنا أيضًا في هذه الآية أنه تبارك وتعالى جعل الحج والعمرة ملكًا له تأكيدًا للمعنى الأول وتنبيهًا على مزيد العناية بهذين العملين الجليلين.
3- وقال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)﴾ (الحج).
والمعنى أن الله تبارك وتعالى أمر خليله إبراهيم عليه السلام بعد أن أتم بناء البيت أن يُعلن فرضية الحج منذ تلك الساعة، فامتثل أمر ربه ونادى في الناس: ’’أيها الناس.. إنَّ ربكم بنى بيتًا فحُجُّوه’’، وكان ذلك بمنزلة إعلان ما كان في وقته عليه السلام وما سيكون بعده إلى يوم القيامة من تقديس البيت والمبادرة إلى حجه وعمارته.
وذهب بعضهم إلى أن الأمر في ذلك للنبي عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام، وتكون الآية بذلك إعلامًا بفريضة الحج في الشريعة المحمدية، ولكلٍّ وجهةٌ، والأول هو الذي عليه جمهور العلماء، وفي الآيات الكريمة بيان بعض فوائد الحج من المنافع الدنيوية والأخروية ودوام ذكر الله، وهو صقل النفوس ونور الأفئدة وطمأنينة القلوب والطهارة الحسية والمعنوية والوفاء بنذور البر والطواف بالكمية المشرفة وتعظيم حرمات الله تبارك وتعالى وشعائره.
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم ’’العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة’’ (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة)
5- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ’’تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكبر خبث الحديد’’ (أخرجه النسائي).
ومعنى المتابعة بين الحج والعمرة تكرارهما مرات لمَن يستطيع ذلك؛ حرصًا على هذه المزية: مزية التطهر من الذنوب والآثام أو المتابعة بينهما بمعنى الجمع بينهما، فيحج ثم يعتمر مرة أو مرات فتحصل له هذه الفضيلة.. كل ذلك تحت هذا اللفظ الجامع، ومَن استكثر من الخير استكثر من ثوابه.
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: ’’مَن حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه’’ (رواه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجة).
والمعنى أن مَن حافظ على آداب الحج فترك اللغو والحرام فقد تطهَّر من ذنوبه وغفر الله له خطاياه فيعود نقيًّا تقيًّا مغفورًا له.
7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ’’الحجاج والعمار وفد الله عز وجل وزوَّاره؛ إن سألوه أعطاهم، وإن استغفروه غفر لهم، وإن دعوا استجيب لهم، وإن شفعوا شُفِّعوا’’ (رواه ابن ماجة وابن حبان).
8- وعنه رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال ’’إيمان بالله وبرسوله’’ قيل ثم ماذا؟ قال: ’’ثم الجهاد في سبيل الله’’ قيل ثم ماذا؟ قال: ’’ثم حج مبرور’’ (رواه البخاري ومسلم)، والحج المبرور هو الذي لا يعقبه معصية الله.
9- وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: ’’مَن مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا’’ (أخرجه الترمذي).
وفي ذلك أشد الوعيد للذين يستطيعون الحج ويقعدون عنه تكاسلاً عن أدائه وإهمالاً لشأنه وتضييعًا لحقه وغفلةً عن تأكد فريضته، وفي الحديث روايات.
وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: ’’لقد هممتُ أن أبعث رجالاً إلى هذه الأنصار فينظروا كلَّ مَن كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية؛ ما هم بمسلمين’’ (رواه سعيد في سننه).
10- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه هُدم مرتين ويرفع في الثالثة’’ (رواه البزار وابن حبان والحاكم وصححه).
والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أمته باغتنام فضل وجود الكعبة المشرفة التي جعلها الله بركةً وهدًى ورحمةً وأمنًا قبل أن تذهب بها حوادث الدهر إذا ما أَذِنَ الله بانقراض الدنيا؛ فقد هُدمت قبل البعثة ثم بُنيت، بناها العمالقة مرةً وبنو جرهم مرةً أخرى، ثم هدمها قصي بن كعب جد النبي صلى الله عليه وسلم في القرن الثاني قبل الهجرة وشيدها تشييدًا محكمًا وسقفها بخشب الدوم وجذوع النخل، وبنى بجانبها دار الندوة، ثم هدمها السيل وبنتها قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وسنه 35 سنةً في قصة الرداء المشهورة، ولعل الإشارة في الحديث إلى هاتين المرتين لأهميتهما، وما عداهما كان ترميمًا له واستكمالاً لأسباب متانتهما، أو أن العدد في الحديث يُفيد التكرار دون الحصر، ويوشك أن يهمل الناس أمر الحج فيرفع الله بيته ويستأثر به وينزع البركةَ السابقةَ من أهل الأرض الذين أغفلوا نداءَ ربهم وأهملوا فريضةَ حجهم وهجروا سيدهم.
ومن ذلك تعلم تأكُّد فريضة الحج وعظيم ثواب الله لمَن وفَّاها، وشديد العقوبة لمَن تركها وتكاسل عن أدائها.
ولهذا أجمعت الأمة على فرضية الحج على القادر المستطيع، ثم ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وبعض أصحاب الشافعي، ومن أهل البيت زيد بن علي والهادي والمؤيد بالله والناصر إلى أنه واجبٌ على الفور؛ فمَن استطاع لزمه الأداء لوقته، ودليلهم في ذلك ما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’تعجَّلوا إلى الحج، يعني الفريضة؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له’’ (رواه أحمد)، وما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أفضل أو أحدهما عن الآخر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’مَن أراد الحج فليستعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة’’ (رواه أحمد وابن ماجة).
وذهب الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد، ومن أهل البيت القاسم ابن إبراهيم وأبو طالب إلى أنه واجبٌ على التراخي، واحتجوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حجَّ سنة خمس أو ست، ولكلٍّ وجهةٌ هو موليها.
وأما العمرة:
فقد رأى وجوبها في العمر مرةً الإمام أحمد ابن حنبل، وهو المشهور عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبه قال إسحاق والثوري والمزني والناصر، ودليلهم في ذلك أن الله تبارك وتعالى قرن الحج بالعمرة في الآية الكريمة: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾، وأكد ذلك عندهم حديث أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الطعن فقال: ’’حج عن أبيك واعتمر’’ (رواه الترمذي ومسلم والبخاري وأبو داود والنسائي وصححه الترمذي).
وقد رُوي القولُ بالواجب عن علي وابن عباس وابن عمر وعائشة وزين العابدين وطاووس والحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء.
والمشهور عن المالكية أن العمرة ليست بواجبة، وهو قول الحنفية وزيد ابن علي والهادوية، وحجتهم في ذلك ما أخرجه الترمذي، وصححه أحمد والبيهقي وابن أبي شيبة وعيد بن حميد عن جابر أن إعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله.. أخبرني عن العمرة؛ أواجبة هي؟ فقال: ’’لا، وأن تعتمر خيرٌ ذلك’’.
ولهذا لا خلافَ بين الأئمة في أنها مطلوبة، وفي أنها من أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى.
وأما زيارة قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم:
فمطلوبة وقربة من الله تبارك وتعالى؛ فقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’مَن حجَّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي’’ وروي بهذا المعني آثارٌ أخرى.
وذهب بعض العلماء إلى تضعيف هذه الآثار، ولم يأخذ بها على أن زيارة القبور عامةً مطلوبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ’’كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور؛ فإنها تُزهِّد في الدنيا وتُذكِّر الآخرة’’ (رواه ابن ماجة عن ابن مسعود)، وفي حديثٍ آخر عن أنس ’’كنت نهيتكم عن زيارة القبور إلا فزوروها؛ فإنها ترق القلب وتدمع العين وتُذكِّر الآخرة، ولا تقولوا هجرًا’’ (رواه الحاكم)؛ فإذا صحَّ طلب زيارة قبور عوام المؤمنين فقبور الأولياء أولى بذلك؛ لما فيها من زيادةِ العظة، وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأولى؛ لما فيه من زيادة العظة والبركة معًا.
والاحتجاج على المنع بحديث ’’لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى’’ (رواه أحمد البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم)، احتجاج في غير موضع الخلاف؛ فإن الحديث إنما يضع حجة لمنع شدِّ الرحال لمسجدٍ غير الثلاثة المذكورة، وأما ما عدا ذلك من الأغراض الجائزة شرعًا فلا يكون الحديث حجةً في منع شد الرحال إليها، وقد أطال كثيرٌ من الباحثين في هذا الذي ذكرت خلاصته، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
*إخوان أون لاين
لبيك اللهم لبيك
ما أجمل عظمة الربوبية! وما أعظم فضل الألوهية!.
وما أجمل أن يتفضل الله على عباده فيدعوهم إلى بيته العتيق ليغفر ذنوبهم ويطهِّر قلوبهم ويضاعف أجورهم ويجدد أرواحهم ويمنحهم من فيض فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!.
وما أجمل أن يتفتح المؤمن على هذا النداء العلوي ويتلقاه كما تتلقى الزهرة قطرات الندى فيحيا به ويسعد ويتجهز من فوره لإجابة دعوة الله، والانضمام إلى وفده الكريم مهاجرًا إلى حرمه المقدس وبيته الأمين هاتفًا من أعماق قلبه: لبيك اللهم لبيك!.
أيها الأخ الكريم..
إن كنت ممن سمعوا هذا النداء فأجابوا الدعاء، وقُدِّر لهم أن يكونوا في وفد الله تبارك وتعالى فاعلم أنها غرة السعادة وفاتحة الخير كله، وعنوان رضوان الله؛ فما دعاك إلا وهو يحبك، وما نداك إلا ليمنحك، ﴿وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: من الآية 268)، فهنِّئ نفسك بهذا الفضل المبين، وتقبَّل منا تهنئة الإخوان المحبِّين، واذكرنا بصالح الدعوات المشرفة، وإن حالت دون ذلك الحوائل فصاحب الحجاج بقلبك، ورافقهم في أداء المناسك بروحك؛ فإن لك مثل ثوابهم إن شاء الله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد القائل لأصحابه ما معناه: ’’إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم سيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم’’، قالوا كيف يا رسول الله قال: ’’حبسهم العذر’’.
وفقنا الله وإياك إلى حج بيته وزيارة رسوله، وكتب لنا ولك القبول آمين (جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية).
الحج فريضةٌ من فرائض الله؛ أمر بها عباده وكلَّفهم أداءها وأعدَّ لهم جزيل الثواب إن فعلوها، وتوعَّد بأشد العقوبة من تركها، وهو عليها قادر ولها مستطيع، وهو ركنٌ من أركان الدين الخمسة؛ يتم بتمامه وينقص بنقصه، وهو من بين هذه الأركان عبادة العمر وتتمام الأمر، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3)، وقد وردت بذلك آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول العظيم.
1- قال الله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 97).
وهذا تركيبٌ يدل على عظيم العناية بالحج وتأكيد فريضته، ألست ترى أن الحق تبارك وتعالى اعتبره دينًا له على عباده في قوله ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ﴾؟!، وألست ترى أنه تبارك وتعالى جعل مقابل القعود عن أدائه الكفر، وهو أشد المقت، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾، ولم يعهد هذا التركيب في فريضةٍ أخرى في كتاب الله غير الحج تنبيهًا على عظيم قدره وجليل أهميته.
2- قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ (البقرة: من الآية 196)، والمعنى أكملوا الحج والعمرة خالصين لله وأنتم ممتثلون لأوامر الله، مجيبين دعوةَ الله.
ولعلك لاحظت هنا أيضًا في هذه الآية أنه تبارك وتعالى جعل الحج والعمرة ملكًا له تأكيدًا للمعنى الأول وتنبيهًا على مزيد العناية بهذين العملين الجليلين.
3- وقال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)﴾ (الحج).
والمعنى أن الله تبارك وتعالى أمر خليله إبراهيم عليه السلام بعد أن أتم بناء البيت أن يُعلن فرضية الحج منذ تلك الساعة، فامتثل أمر ربه ونادى في الناس: ’’أيها الناس.. إنَّ ربكم بنى بيتًا فحُجُّوه’’، وكان ذلك بمنزلة إعلان ما كان في وقته عليه السلام وما سيكون بعده إلى يوم القيامة من تقديس البيت والمبادرة إلى حجه وعمارته.
وذهب بعضهم إلى أن الأمر في ذلك للنبي عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام، وتكون الآية بذلك إعلامًا بفريضة الحج في الشريعة المحمدية، ولكلٍّ وجهةٌ، والأول هو الذي عليه جمهور العلماء، وفي الآيات الكريمة بيان بعض فوائد الحج من المنافع الدنيوية والأخروية ودوام ذكر الله، وهو صقل النفوس ونور الأفئدة وطمأنينة القلوب والطهارة الحسية والمعنوية والوفاء بنذور البر والطواف بالكمية المشرفة وتعظيم حرمات الله تبارك وتعالى وشعائره.
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم ’’العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة’’ (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة)
5- وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ’’تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكبر خبث الحديد’’ (أخرجه النسائي).
ومعنى المتابعة بين الحج والعمرة تكرارهما مرات لمَن يستطيع ذلك؛ حرصًا على هذه المزية: مزية التطهر من الذنوب والآثام أو المتابعة بينهما بمعنى الجمع بينهما، فيحج ثم يعتمر مرة أو مرات فتحصل له هذه الفضيلة.. كل ذلك تحت هذا اللفظ الجامع، ومَن استكثر من الخير استكثر من ثوابه.
6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: ’’مَن حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه’’ (رواه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجة).
والمعنى أن مَن حافظ على آداب الحج فترك اللغو والحرام فقد تطهَّر من ذنوبه وغفر الله له خطاياه فيعود نقيًّا تقيًّا مغفورًا له.
7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ’’الحجاج والعمار وفد الله عز وجل وزوَّاره؛ إن سألوه أعطاهم، وإن استغفروه غفر لهم، وإن دعوا استجيب لهم، وإن شفعوا شُفِّعوا’’ (رواه ابن ماجة وابن حبان).
8- وعنه رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال ’’إيمان بالله وبرسوله’’ قيل ثم ماذا؟ قال: ’’ثم الجهاد في سبيل الله’’ قيل ثم ماذا؟ قال: ’’ثم حج مبرور’’ (رواه البخاري ومسلم)، والحج المبرور هو الذي لا يعقبه معصية الله.
9- وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: ’’مَن مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا’’ (أخرجه الترمذي).
وفي ذلك أشد الوعيد للذين يستطيعون الحج ويقعدون عنه تكاسلاً عن أدائه وإهمالاً لشأنه وتضييعًا لحقه وغفلةً عن تأكد فريضته، وفي الحديث روايات.
وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: ’’لقد هممتُ أن أبعث رجالاً إلى هذه الأنصار فينظروا كلَّ مَن كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية؛ ما هم بمسلمين’’ (رواه سعيد في سننه).
10- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه هُدم مرتين ويرفع في الثالثة’’ (رواه البزار وابن حبان والحاكم وصححه).
والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أمته باغتنام فضل وجود الكعبة المشرفة التي جعلها الله بركةً وهدًى ورحمةً وأمنًا قبل أن تذهب بها حوادث الدهر إذا ما أَذِنَ الله بانقراض الدنيا؛ فقد هُدمت قبل البعثة ثم بُنيت، بناها العمالقة مرةً وبنو جرهم مرةً أخرى، ثم هدمها قصي بن كعب جد النبي صلى الله عليه وسلم في القرن الثاني قبل الهجرة وشيدها تشييدًا محكمًا وسقفها بخشب الدوم وجذوع النخل، وبنى بجانبها دار الندوة، ثم هدمها السيل وبنتها قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وسنه 35 سنةً في قصة الرداء المشهورة، ولعل الإشارة في الحديث إلى هاتين المرتين لأهميتهما، وما عداهما كان ترميمًا له واستكمالاً لأسباب متانتهما، أو أن العدد في الحديث يُفيد التكرار دون الحصر، ويوشك أن يهمل الناس أمر الحج فيرفع الله بيته ويستأثر به وينزع البركةَ السابقةَ من أهل الأرض الذين أغفلوا نداءَ ربهم وأهملوا فريضةَ حجهم وهجروا سيدهم.
ومن ذلك تعلم تأكُّد فريضة الحج وعظيم ثواب الله لمَن وفَّاها، وشديد العقوبة لمَن تركها وتكاسل عن أدائها.
ولهذا أجمعت الأمة على فرضية الحج على القادر المستطيع، ثم ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وبعض أصحاب الشافعي، ومن أهل البيت زيد بن علي والهادي والمؤيد بالله والناصر إلى أنه واجبٌ على الفور؛ فمَن استطاع لزمه الأداء لوقته، ودليلهم في ذلك ما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’تعجَّلوا إلى الحج، يعني الفريضة؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له’’ (رواه أحمد)، وما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أفضل أو أحدهما عن الآخر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’مَن أراد الحج فليستعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة’’ (رواه أحمد وابن ماجة).
وذهب الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد، ومن أهل البيت القاسم ابن إبراهيم وأبو طالب إلى أنه واجبٌ على التراخي، واحتجوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حجَّ سنة خمس أو ست، ولكلٍّ وجهةٌ هو موليها.
وأما العمرة:
فقد رأى وجوبها في العمر مرةً الإمام أحمد ابن حنبل، وهو المشهور عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبه قال إسحاق والثوري والمزني والناصر، ودليلهم في ذلك أن الله تبارك وتعالى قرن الحج بالعمرة في الآية الكريمة: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾، وأكد ذلك عندهم حديث أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الطعن فقال: ’’حج عن أبيك واعتمر’’ (رواه الترمذي ومسلم والبخاري وأبو داود والنسائي وصححه الترمذي).
وقد رُوي القولُ بالواجب عن علي وابن عباس وابن عمر وعائشة وزين العابدين وطاووس والحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء.
والمشهور عن المالكية أن العمرة ليست بواجبة، وهو قول الحنفية وزيد ابن علي والهادوية، وحجتهم في ذلك ما أخرجه الترمذي، وصححه أحمد والبيهقي وابن أبي شيبة وعيد بن حميد عن جابر أن إعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله.. أخبرني عن العمرة؛ أواجبة هي؟ فقال: ’’لا، وأن تعتمر خيرٌ ذلك’’.
ولهذا لا خلافَ بين الأئمة في أنها مطلوبة، وفي أنها من أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى.
وأما زيارة قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم:
فمطلوبة وقربة من الله تبارك وتعالى؛ فقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’مَن حجَّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي’’ وروي بهذا المعني آثارٌ أخرى.
وذهب بعض العلماء إلى تضعيف هذه الآثار، ولم يأخذ بها على أن زيارة القبور عامةً مطلوبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ’’كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور؛ فإنها تُزهِّد في الدنيا وتُذكِّر الآخرة’’ (رواه ابن ماجة عن ابن مسعود)، وفي حديثٍ آخر عن أنس ’’كنت نهيتكم عن زيارة القبور إلا فزوروها؛ فإنها ترق القلب وتدمع العين وتُذكِّر الآخرة، ولا تقولوا هجرًا’’ (رواه الحاكم)؛ فإذا صحَّ طلب زيارة قبور عوام المؤمنين فقبور الأولياء أولى بذلك؛ لما فيها من زيادةِ العظة، وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأولى؛ لما فيه من زيادة العظة والبركة معًا.
والاحتجاج على المنع بحديث ’’لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى’’ (رواه أحمد البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم)، احتجاج في غير موضع الخلاف؛ فإن الحديث إنما يضع حجة لمنع شدِّ الرحال لمسجدٍ غير الثلاثة المذكورة، وأما ما عدا ذلك من الأغراض الجائزة شرعًا فلا يكون الحديث حجةً في منع شد الرحال إليها، وقد أطال كثيرٌ من الباحثين في هذا الذي ذكرت خلاصته، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
*إخوان أون لاين