نصر طه مصطفى
يتصادف اليوم 17 يوليو الذكرى الرابعة والثلاثين لتولي الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الحكم للمرة الأولى في شمال اليمن عام 1978، وهو بالتأكيد كان يوما مهماً في تاريخ اليمن المعاصر، نتيجة الخوف حينها من انهيار الدولة ودخولها في مسار مجهول.
فصالح جاء للحكم في ظروف صعبة جدا، عقب مقتل الرئيسين إبراهيم الحمدي (11 أكتوبر 1977) وأحمد الغشمي (24 يونيو 1978)، حيث قتل هذا الأخير بحقيبة مفخخة مرسلة من قيادة اليمن الجنوبي، وهو ما أدى إلى دخول شطري اليمن لاحقاً في صراع مسلح هزمت فيه قوات الشمال، ولولا التدخل العربي حينها (فبراير 1979) لربما سيطرت القوات الجنوبية على شمال اليمن..
وسارع صالح بعد توقف الحرب، لعقد اتفاق وحدوي جديد بين الشطرين رعته الكويت في مارس من نفس العام.
ورغم أن صالح استطاع في السنوات الثلاث الأولى من حكمه، انتزاع استقلالية القرار الوطني اليمني لسنوات طويلة، إلا أن سياساته في السنوات الأخيرة من حكمه ساقته ليرهنه من جديد، وليؤدي ذلك إلى خروجه من الحكم بضغط سعودي أميركي، تجاوباً مع الثورة الشعبية السلمية التي اندلعت ضده وتجنيباً لليمن من احتمالات انفجار حرب أهلية.
لم يكن صالح بالمستوى الثقافي والفكري والتعليمي للقادة الثلاثة الذين حكموا الشمال منذ عام 1962 وحتى عام 1977، وهم المشير عبد الله السلال والقاضي عبد الرحمن الإرياني والمقدم إبراهيم الحمدي، بل وحتى مقارنة بالقادة الذين حكموا الجنوب منذ الاستقلال وحتى الوحدة، لكنه حكم بمفرده ضعف المدة التي حكموها جميعا.
ولم يكن هذا ناتجا عن أنه أكثر تأهيلا منهم، لكنه كان أمهرهم بالتأكيد في إدراك مكامن القوة ولمن يجب تسليمها وكيفية الاستفادة منها، ولذلك فقد سلم حكمه من المحاولات الانقلابية ضده عدا واحدة في الشهر الثالث من تسلمه السلطة، وقام بتوظيف المال العام والوظيفة العامة وكل أدوات الدولة، لاكتساب وتحييد الشخصيات المعارضة والزعامات القبلية التي اختلفت مع من سبقوه، بل وكسب بعضها إلى جانبه.
اتسم الرجل بالمرونة البالغة وسعة الصدر والصبر على تحقيق أهدافه ولو ببطء، وتمكن من ترويض الكثير من القوى السياسية.
وفيما كان الإسلاميون ـ على سبيل المثال ـ يعانون من القمع في معظم الدول العربية، فإنه قربهم منه واستفاد منهم في قمع الحركات الثورية اليسارية المسلحة، في السنوات الأربع الأولى من حكمه، ثم سمح للطرفين اليساريين والإسلاميين بإصدار صحف تعبر بانضباط عن مواقفهم، رغم الحظر العلني الدستوري حينها للحزبية.
أمسك الرجل بيديه مفاصل القوة في الدولة، وهي الجيش والمال العام، ولم يفرط فيها مطلقا، فعوض بها النقص الذي عانى منه طوال سنوات حكمه، والمتمثل في غياب الرؤية الخاصة بالبناء المؤسسي للدولة..
لكن هذا لم يمنعه من تحقيق بعض الإنجازات، وبالذات في السنوات الاثنتي عشرة التي حكم خلالها شمال اليمن قبل الوحدة، ومن بينها إنجازات سياسية مثل تحقيق الاستقرار واستقلال القرار السياسي الوطني، وإعادة القادة اليمنيين المنفيين إلى اليمن، وإحداث قدر معقول من التوافق السياسي، وإنهاء الفترة الانتقالية الطويلة بإعادة العمل بالدستور الدائم عام 1988.
ثم العمل على استعادة الوحدة اليمنية مع قيادة الحزب الاشتراكي، وتحديدا مع أمينه العام علي سالم البيض. ومن بينها إنجازات تنموية، مثل استخراج النفط وإعادة بناء سد مأرب على نفقة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والاستفادة من عائدات المغتربين لإحداث قدر من النهضة التنموية في بعض المجالات.
والشيء المؤكد أنه لم ينشغل بالسياسة قبل الوحدة قدر انشغاله بها حتى النخاع عقب الوحدة، وكان ذلك سببا مؤكداً لانتشار أخلاقيات الفوضى والفساد والمحسوبية والشللية، وإحياء النزعات القبلية والمناطقية والمذهبية والشطرية، مع غياب منهجية بناء الدولة وسيادة القانون في ذهنه وثقافته.
فالرجل، بحسب كلامه هو، لم يكن يرغب في الأخذ بنهج التعددية السياسية والحزبية التي فرضها عليه الحزب الاشتراكي كشرط للوحدة، وفرض عليه التجمع اليمني للإصلاح الاستمرار فيها بعد حرب 1994، برفضه الاندماج مع المؤتمر الشعبي العام والعودة لحكم الحزب الواحد دون وجود معارضة قوية.
وهكذا جاء انشغاله الكامل بالسياسة طوال السنوات السبع الأولى التي أعقبت الوحدة، حتى تمكن من إقصاء شريكيه الأساسيين؛ الاشتراكي والإصلاح.. ثم ظل منشغلا بالسياسة من بعدها ليتمكن من الحفاظ على هذا التفرد، وليبدأ لاحقا العمل على بناء المشروع العائلي الخاص، ليضمن استمراره في الحكم أقصى فترة ممكنة ينتقل الحكم بعدها إلى نجله.
وفي تصوري أن علي عبد الله صالح ـ من قراءات معمقة لموقفه من التوريث ـ لم يكن يريد أن يتم ذلك في حياته، بمعنى أنه كان ينوي الاستمرار في الحكم حتى يتوفاه الله، فإن تمكنت عائلته من انتزاع السلطة لابنه فليكن، وإن لم تتمكن فإن الأمر لم يعد يعنيه باعتباره قد أصبح في عداد الأموات.
ظلت التعددية الحزبية وحرية الصحافة المفروضتين عليه، غصة في حلقه، وأدتا إلى توحشه أكثر فأكثر مع مرور الوقت وكثرة الانتقادات التي طالته شخصيا، وازدياد شكوكه في كل من حوله، ومن ثم ازدياد عزلته السياسية كل يوم، وانفلات الأمور من حوله على كل الأصعدة، مع انتشار قيم الفوضى التي لم يستطع مواجهتها.
ومع كل فترة تمر عليه في السلطة، كان يبعد الرجال الأقوياء من حوله ويستبدلهم بالضعفاء الذين يستحيل أن يقوم عليهم كيان مؤسسة فما بالك بدولة.. وهكذا كان صالح يكتب كل يوم الفصل الأخير من حياته السياسية، دون أن يدرك ذلك.
وها هو صالح اليوم خارج السلطة، لا يملك من شرعية القرار شيئا، رغم كل ’’البروباغاندا’’ التي أنفق عليها الكثير ،لإثبات أنه ما زال الرجل الأقوى في اليمن في محاولة يائسة لتماسك من تبقى من أنصاره..
وها هو يوم 17 يوليو يمر للمرة الأولى في اليمن دون وجود صالح في السلطة، وليته يقف مع نفسه وقفة تقييم صادقة وأمينة، ليبحث لماذا كانت سنواته العشر الأولى أفضل ما في سجله، ولماذا كانت سنواته العشر الأخيرة أسوأ ما فيه.. فهو وحده الأقدر على التقييم الصحيح إن صدقت النوايا!
[email protected]
البيان الاماراتية
يتصادف اليوم 17 يوليو الذكرى الرابعة والثلاثين لتولي الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الحكم للمرة الأولى في شمال اليمن عام 1978، وهو بالتأكيد كان يوما مهماً في تاريخ اليمن المعاصر، نتيجة الخوف حينها من انهيار الدولة ودخولها في مسار مجهول.
فصالح جاء للحكم في ظروف صعبة جدا، عقب مقتل الرئيسين إبراهيم الحمدي (11 أكتوبر 1977) وأحمد الغشمي (24 يونيو 1978)، حيث قتل هذا الأخير بحقيبة مفخخة مرسلة من قيادة اليمن الجنوبي، وهو ما أدى إلى دخول شطري اليمن لاحقاً في صراع مسلح هزمت فيه قوات الشمال، ولولا التدخل العربي حينها (فبراير 1979) لربما سيطرت القوات الجنوبية على شمال اليمن..
وسارع صالح بعد توقف الحرب، لعقد اتفاق وحدوي جديد بين الشطرين رعته الكويت في مارس من نفس العام.
ورغم أن صالح استطاع في السنوات الثلاث الأولى من حكمه، انتزاع استقلالية القرار الوطني اليمني لسنوات طويلة، إلا أن سياساته في السنوات الأخيرة من حكمه ساقته ليرهنه من جديد، وليؤدي ذلك إلى خروجه من الحكم بضغط سعودي أميركي، تجاوباً مع الثورة الشعبية السلمية التي اندلعت ضده وتجنيباً لليمن من احتمالات انفجار حرب أهلية.
لم يكن صالح بالمستوى الثقافي والفكري والتعليمي للقادة الثلاثة الذين حكموا الشمال منذ عام 1962 وحتى عام 1977، وهم المشير عبد الله السلال والقاضي عبد الرحمن الإرياني والمقدم إبراهيم الحمدي، بل وحتى مقارنة بالقادة الذين حكموا الجنوب منذ الاستقلال وحتى الوحدة، لكنه حكم بمفرده ضعف المدة التي حكموها جميعا.
ولم يكن هذا ناتجا عن أنه أكثر تأهيلا منهم، لكنه كان أمهرهم بالتأكيد في إدراك مكامن القوة ولمن يجب تسليمها وكيفية الاستفادة منها، ولذلك فقد سلم حكمه من المحاولات الانقلابية ضده عدا واحدة في الشهر الثالث من تسلمه السلطة، وقام بتوظيف المال العام والوظيفة العامة وكل أدوات الدولة، لاكتساب وتحييد الشخصيات المعارضة والزعامات القبلية التي اختلفت مع من سبقوه، بل وكسب بعضها إلى جانبه.
اتسم الرجل بالمرونة البالغة وسعة الصدر والصبر على تحقيق أهدافه ولو ببطء، وتمكن من ترويض الكثير من القوى السياسية.
وفيما كان الإسلاميون ـ على سبيل المثال ـ يعانون من القمع في معظم الدول العربية، فإنه قربهم منه واستفاد منهم في قمع الحركات الثورية اليسارية المسلحة، في السنوات الأربع الأولى من حكمه، ثم سمح للطرفين اليساريين والإسلاميين بإصدار صحف تعبر بانضباط عن مواقفهم، رغم الحظر العلني الدستوري حينها للحزبية.
أمسك الرجل بيديه مفاصل القوة في الدولة، وهي الجيش والمال العام، ولم يفرط فيها مطلقا، فعوض بها النقص الذي عانى منه طوال سنوات حكمه، والمتمثل في غياب الرؤية الخاصة بالبناء المؤسسي للدولة..
لكن هذا لم يمنعه من تحقيق بعض الإنجازات، وبالذات في السنوات الاثنتي عشرة التي حكم خلالها شمال اليمن قبل الوحدة، ومن بينها إنجازات سياسية مثل تحقيق الاستقرار واستقلال القرار السياسي الوطني، وإعادة القادة اليمنيين المنفيين إلى اليمن، وإحداث قدر معقول من التوافق السياسي، وإنهاء الفترة الانتقالية الطويلة بإعادة العمل بالدستور الدائم عام 1988.
ثم العمل على استعادة الوحدة اليمنية مع قيادة الحزب الاشتراكي، وتحديدا مع أمينه العام علي سالم البيض. ومن بينها إنجازات تنموية، مثل استخراج النفط وإعادة بناء سد مأرب على نفقة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والاستفادة من عائدات المغتربين لإحداث قدر من النهضة التنموية في بعض المجالات.
والشيء المؤكد أنه لم ينشغل بالسياسة قبل الوحدة قدر انشغاله بها حتى النخاع عقب الوحدة، وكان ذلك سببا مؤكداً لانتشار أخلاقيات الفوضى والفساد والمحسوبية والشللية، وإحياء النزعات القبلية والمناطقية والمذهبية والشطرية، مع غياب منهجية بناء الدولة وسيادة القانون في ذهنه وثقافته.
فالرجل، بحسب كلامه هو، لم يكن يرغب في الأخذ بنهج التعددية السياسية والحزبية التي فرضها عليه الحزب الاشتراكي كشرط للوحدة، وفرض عليه التجمع اليمني للإصلاح الاستمرار فيها بعد حرب 1994، برفضه الاندماج مع المؤتمر الشعبي العام والعودة لحكم الحزب الواحد دون وجود معارضة قوية.
وهكذا جاء انشغاله الكامل بالسياسة طوال السنوات السبع الأولى التي أعقبت الوحدة، حتى تمكن من إقصاء شريكيه الأساسيين؛ الاشتراكي والإصلاح.. ثم ظل منشغلا بالسياسة من بعدها ليتمكن من الحفاظ على هذا التفرد، وليبدأ لاحقا العمل على بناء المشروع العائلي الخاص، ليضمن استمراره في الحكم أقصى فترة ممكنة ينتقل الحكم بعدها إلى نجله.
وفي تصوري أن علي عبد الله صالح ـ من قراءات معمقة لموقفه من التوريث ـ لم يكن يريد أن يتم ذلك في حياته، بمعنى أنه كان ينوي الاستمرار في الحكم حتى يتوفاه الله، فإن تمكنت عائلته من انتزاع السلطة لابنه فليكن، وإن لم تتمكن فإن الأمر لم يعد يعنيه باعتباره قد أصبح في عداد الأموات.
ظلت التعددية الحزبية وحرية الصحافة المفروضتين عليه، غصة في حلقه، وأدتا إلى توحشه أكثر فأكثر مع مرور الوقت وكثرة الانتقادات التي طالته شخصيا، وازدياد شكوكه في كل من حوله، ومن ثم ازدياد عزلته السياسية كل يوم، وانفلات الأمور من حوله على كل الأصعدة، مع انتشار قيم الفوضى التي لم يستطع مواجهتها.
ومع كل فترة تمر عليه في السلطة، كان يبعد الرجال الأقوياء من حوله ويستبدلهم بالضعفاء الذين يستحيل أن يقوم عليهم كيان مؤسسة فما بالك بدولة.. وهكذا كان صالح يكتب كل يوم الفصل الأخير من حياته السياسية، دون أن يدرك ذلك.
وها هو صالح اليوم خارج السلطة، لا يملك من شرعية القرار شيئا، رغم كل ’’البروباغاندا’’ التي أنفق عليها الكثير ،لإثبات أنه ما زال الرجل الأقوى في اليمن في محاولة يائسة لتماسك من تبقى من أنصاره..
وها هو يوم 17 يوليو يمر للمرة الأولى في اليمن دون وجود صالح في السلطة، وليته يقف مع نفسه وقفة تقييم صادقة وأمينة، ليبحث لماذا كانت سنواته العشر الأولى أفضل ما في سجله، ولماذا كانت سنواته العشر الأخيرة أسوأ ما فيه.. فهو وحده الأقدر على التقييم الصحيح إن صدقت النوايا!
[email protected]
البيان الاماراتية