إيما بن حمودة
حين غادرت وطني أول مرة، أدركت أنِّي أَهْديت عمري قربانًا لحلم سكن شراييني منذ الطفولة.
كان الوجع يسكن وجوه كلِّ أحبتي، وكانت دموعهم تَجْلد كبرياء طموحي بسِيَاط الرجاء الصامت؛ غير أنها لم تُثْنِ عزيمة الفرار المتأهِّبة بداخلي، فغادرتهم دون أن أودِّعهم، وحملت بين أشيائي صورة امرأة علمتني ذات يوم كيف أخطُّ الحروف لأُثْبِت حقيقة وُجُودي، صورة امرأة ظلَّت تحاصرني في غربتي حدَّ الفناء.
عندما تَقَاذفتني أمواجُ الحنين العاتية ذات شتاءٍ، حملت أقلامي العتيقة، ورميت بها على سطح هزيمتي، محاوِلةً رَصْف كلمات تحمل حزني؛ لأرسلها لامرأة لا يزال صوتها العَذْب يستوطن كلَّ دَهَالِيز ذاكرتي.
وعند كتابة أول حرف، أَعْلَنت الأقلام عصيانها، وتراجعت إلى الوراء، في حركات احتجاجية مريبة.
سارعت إليها بكل الحِيَل التي تعرفها أناملي، على أمل أن تستلين جحودها، لكنَّها ما استجابت، ولا رقصت على أنغام وجعي المكتوم، كما كانت تفعل دائمًا.
تركتها على مكتبي، وغادرت المكان مسرِعةً، وقد أدركت أنها لن تبوح بسر حزني الآن.
سرتُ في شوارع المدينة المظلمة أبحث عن حروفٍ تاهت في أعماقي منذ سنين، فبحثت عنها في أصوات المارَّة حولي، لكني لم أجدها.
قلبت بصري بين جدران المحلات عَلَّها تستوقف لهفة قلبي المكلوم، فما أبصرت غير حروف أَعْرِفها ولا تعرفني، أحفظها ولا تحفظني، أكتبها ولا تكتبني، فبَكَيتُ غربتي بصمتٍ وَمَضَيت.
وفي صمتِ وجعي أشرق وجه تلك المرأة يملؤني، أشرقتْ ترتِّل بصوتها النَّدِيِّ العذب ترنيماتها الليلية، كما كانت تفعل قبل نومي، حين كنت أصر على أن تعيد قراءة القصة لي مرة تلو الأخرى.
أشرقت ذكرياتها تَفِيض على دروب غربتي؛ فتَتَدفَّق صورها في الفصل، وهي تكتب الحروف على السبورة بألوان مختلفة، ونردد معها بقلوب تعشق لحن أصوات كلماتها: لغتي العربية.
*الألوكة
حين غادرت وطني أول مرة، أدركت أنِّي أَهْديت عمري قربانًا لحلم سكن شراييني منذ الطفولة.
كان الوجع يسكن وجوه كلِّ أحبتي، وكانت دموعهم تَجْلد كبرياء طموحي بسِيَاط الرجاء الصامت؛ غير أنها لم تُثْنِ عزيمة الفرار المتأهِّبة بداخلي، فغادرتهم دون أن أودِّعهم، وحملت بين أشيائي صورة امرأة علمتني ذات يوم كيف أخطُّ الحروف لأُثْبِت حقيقة وُجُودي، صورة امرأة ظلَّت تحاصرني في غربتي حدَّ الفناء.
عندما تَقَاذفتني أمواجُ الحنين العاتية ذات شتاءٍ، حملت أقلامي العتيقة، ورميت بها على سطح هزيمتي، محاوِلةً رَصْف كلمات تحمل حزني؛ لأرسلها لامرأة لا يزال صوتها العَذْب يستوطن كلَّ دَهَالِيز ذاكرتي.
وعند كتابة أول حرف، أَعْلَنت الأقلام عصيانها، وتراجعت إلى الوراء، في حركات احتجاجية مريبة.
سارعت إليها بكل الحِيَل التي تعرفها أناملي، على أمل أن تستلين جحودها، لكنَّها ما استجابت، ولا رقصت على أنغام وجعي المكتوم، كما كانت تفعل دائمًا.
تركتها على مكتبي، وغادرت المكان مسرِعةً، وقد أدركت أنها لن تبوح بسر حزني الآن.
سرتُ في شوارع المدينة المظلمة أبحث عن حروفٍ تاهت في أعماقي منذ سنين، فبحثت عنها في أصوات المارَّة حولي، لكني لم أجدها.
قلبت بصري بين جدران المحلات عَلَّها تستوقف لهفة قلبي المكلوم، فما أبصرت غير حروف أَعْرِفها ولا تعرفني، أحفظها ولا تحفظني، أكتبها ولا تكتبني، فبَكَيتُ غربتي بصمتٍ وَمَضَيت.
وفي صمتِ وجعي أشرق وجه تلك المرأة يملؤني، أشرقتْ ترتِّل بصوتها النَّدِيِّ العذب ترنيماتها الليلية، كما كانت تفعل قبل نومي، حين كنت أصر على أن تعيد قراءة القصة لي مرة تلو الأخرى.
أشرقت ذكرياتها تَفِيض على دروب غربتي؛ فتَتَدفَّق صورها في الفصل، وهي تكتب الحروف على السبورة بألوان مختلفة، ونردد معها بقلوب تعشق لحن أصوات كلماتها: لغتي العربية.
*الألوكة