سلطان الجميري / كاتب وباحث
ليس كل ما تراه يا صديقي جميلاً، وليس بالضرورة حقيقة، هناك رماد متناثر في كثير من المؤلفات، أشياء مبالغ فيها، في صحتها أو في كذبها، تتبع الخلف المصلح الذي يقتبس من الخلف الصالح ويوازن بين زمانه ومكانه، لن تحتاج كثيراً للصالحين لأنفسهم فقط، فتش عن المصلحين. انتفع من كل إنسان يبني فيك الأمل، ويسعى للإصلاح، ويحارب الفساد وخراب الأرض والعقول،
يبدو أن إيقاع جملة السلف الصالح ومنهج ’’السلف’’ تحدث دويها في النفوس، فكثيراً ما تعمي السامع عن التأمل في مآلات الاستجابة والإذعان لهذه الكلمات، وتشتت المرء أثناء سيره للكشف عن الحقائق، وتثنيه عن تحجيم المبالغات التي تحويها الدعاوى!
أضف إلى ذلك ما نلمسه من تقوقع حول آراء لرموز من العلماء والأشياخ في الحاضر والماضي وتجاهل حقيقة رؤية الآخر لهم، ولآرائهم ووزنها بميزان السلف الصالح أيضاً..!
هناك أقفال ذهنية لجملة من ’’أختام الرجال’’ تتناثر في ثنايا أحاديثنا والكلمات التي نكتبها، فيتم تسويق أفكار بشرية يمكننا أن نضع ما نشاء منها في صناديق جانبية ونركنها في رفوف القرون السالفة، ونتجاوزها إلى ما يناسب عصرنا دون أن نخرج من دائرة الإسلام، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإتباعه.
لقد وصلنا إلى مرحلة لم يعد يعرف الشخص نفسه إن كان مسلماً أم (لا) إلا عن طريق ’’ختم الشيخ’’! ولا أدري كيف قبلنا بتمام الرضى أن يعنون ابن القيم كتاباً بـ’’الموقعون عن رب العالمين’’! (رحمه الله ).. عنوان لا أستسيغه أدباً مع الله .. فمن هو هذا الإنسان الذي يوقع عن الله! وكأننا بحاجه إلى دكاكين يوقع فيه الناس عن الله .. (استغفر الله العظيم) .. ليس هذا موضوعي ...!
مصيبة ألا يتحرك الناس في مسألة حتى يسمعون ’’فتوى’’ ولا يأكلون حتى يسألون ’’الشيخ’’.. فتشوا عن كل القساوسة والمراجع الشيعية في العالم .. ستجدون أن مثل هذا التسليم والغلو هو من يصنع القسيس والمرجع..!
لست ضد أن يتبين الناس شؤون دينهم.. لكنني ضد سلطة الشيخ، التي أصبح يشعر معها في داخله أن الناس إذا لم ترجع إليه وغيره، فقد سلكت دروب التيه وضلت طريقها..!
كل حركة في هذه الأرض أصبحت بحاجة إلى ’’ختم’’! يمكن الحكم مبدئياً على أي شخص بأنه مخالف للسلف أو السنة، وبكل بساطة يتم تنحيته جانباً بختم ’’شيخ’’، يبرر ذلك بأن هذه المتحدث أو الكاتب مبتدع أو مخالف للسلف!
وحين لا يكون هذا الآخر ’’علمياً’’، أي ليس شيخاً أو طالب علم، فإن ختم الشيخ للابتداع والإخراج من الطريق المستقيم لا يبدو مناسباً، فالأولى إبداله بختم آخر هو ’’العلمانية’’ أو ’’التغريب’’، وغيرها من الأختام التي تستخدم لمجرد الطمس وعدم السماع عما يقوله الآخر!
لكل ختم استخدام خاص يستعمله الشيوخ مع حال الطرف المختلف معه! والناس تنسخ آثار هذه الأختام وتنشرها رغبة في الأجر الموعودين به (!!) .. وحالها حال شاتم طلحة! ذكر الجاحظ في كتابه (الحيوان) قصة طريفة لرجل أحمق .. يقول كلما مررنا به شتم ولعن طلحة! فسألته يوماً: أنت تشتم طلحة، فهل تعرف من طلحة؟ قال: (نعم) طلحة امرأة الزبير!
شاتم طلحة هذا يوجد منه الكثير! يشتمون الآخرين ويضللونهم ولم يتعرفوا على (طلحة) إلا بتاء التأنيث في آخر الاسم!
الأمر لا يبدو عادلاً ومنهجياً حتى في استخدام جملة ’’منهج السلف الصالح’’، بل هو انتقائي اختياري حسب ما يخدم فكرة ’’المنهج’’ الذي يتبعه ’’الشيخ’’، ومن بعده الناس، فالسلف الصالح منذ عهد الصحابة لا يزالون مختلفين حتى في أمور ليست فروعاً بل في مسائل عقدية ..!
فأي مناهج السلف يتم إتباعه في قضية (ما) إذا وجد عالمان من السلف قد اختلفا فيها! أنت تتبع ’’عمرو’’ من السلف وأنا أتبع ’’زيد’’، كلاهما من السلف! فأي الأسلاف تختار أنت! إذا كانت الحجة بأن تتبع الدليل! فهذا مضحك إذا كان هو الرد! هل يعتقد من يقول أنا أتبع الدليل، أن الطرف الآخر، يقول أنا لا أتبع الدليل وإنما أتبع الهوى! لا،، كلاهما يقول نتبع الدليل، كلاهما يقول نتجرد لله، وكل يعتقد أن حجته الأقوى، ولكن مختلفين! فمن يوقع عن الله! ومن يجب أن يضع الخطام في أعناقنا ويقود!
إذا كانت ’’السنة والنجاة’’ بالنسبة لك مسألة إدعاء واتباع أعمى وتقليد فقط، فلا تظننك الوحيد من يدعي أنه على منهج السلف الصالح.
أم نقول ولدنا هكذا، بنفس القناعات، ورضينا بالمضي إلى حيث يراد بنا! قد يبدو الكلام ’’فلسفيا’’، وهذا لا يعيبه، لكن دعوني أضرب بعض الأمثلة لتتضح الفكرة:
أحمد بن حنبل يقول في (العقيدة): ’’والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي ومن لم يكفر هولاء كلهم فهو مثلهم’’، واستنادا لكلامه في موضع آخر يقول فيه: ’’وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، والأهواء، إنما هي الإتباع، وترك الهوى’’! يعني المطلوب التسليم والإتباع! عدا ذلك سوف يكون ’’إتباع للهوى’’!
لقد أُمرنا بالتسليم لأمر الله ورسوله لا غير من أفراد الناس ولو بلغ في العلم ما بلغ! عطفاً على ما تقدم، نواصل: يذكر عبدالله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة، أن الإمام أبو حنيفة يرى بخلق القرآن، فهل هو كافر استنادا لكلام الإمام أحمد؟ وفي موضع آخر يورد: ’’حدثني إسحاق بن أبي يعقوب الطوسي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سليم المقرئ، عن سفيان الثوري قال: سمعت حماداً يقول: ألا تعجب من أبي حنيفة، يقول: القرآن مخلوق. قل له: يا كافر يا زنديق! وأورد حدثني محمود بن غيلان، حدثنا محمد بن سعيد بن سلم، عن أبيه، قال : سألت أبا يوسف وهو بجرجان عن أبي حنيفة؟ فقال : وما تصنع به مات جهمياً.
وكذلك قال أبو نعيم الأصبهاني بشأن أبي حنيفة : ’’قال بخلق القرآن، واستتيب من كلامه الرديء غير مرة، كثير الخطأ والأوهام’’! فهل نقول لأتباع أبو حنيفة هذا إمامكم! ونحن أئمتنا الصالحون وحدنا!
من أعجب التبريرات والردود على مثل هذا التساؤل، ما يذكره البعض في أن ذلك نسب للإمام أبو حنيفة وهو منه براء، وأن زمن عبدالله بن أحمد بن حنبل زمن فتنة عمياء، وكانوا يتناقلون مثل هذه الأقوال .. ويقولون إن الطحاوي ذكر أن العلماء بعد ذلك أجمعوا ألا ينقلوا ذلك!! هل يمكن أن يقنع هذا الكلام إنسانا!
ومثال آخر لنفس الفكرة: أيهما أصح عقيدة! ومن نتبع! الشيخ حمود التويجري ألف كتابا في العقيدة بعنوان ’’عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن’’، وجاء الشيخ الألباني معلقاً عليه في صحيح الأدب المفرد، فقال: (وبهذه المناسبة أقول: لقد أساء الشيخ التويجري رحمه الله تعالى إلى العقيدة والسنة الصحيحة معاً بتأليفه الذي سماه ’’عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن’’! من يختار لنا الأصح ..! إذا كنت تقول يا (صاحبي النقي) الأفضل ستر هذه الأخطاء، بحجة أنهم بشر، ونحتفظ بالاحترام لهم، ولا نضرب أقوال العلماء ببعض، فهذا حسن وكلام جميل أوافقك عليه!
لكن لماذا في مكان آخر تلغي شخصا آخر وقع في زلل عقدي أو فقهي، ولا تتسامح معه وتكيل له شتائم قربة لله! من يحدد لي من أحترم وممن آخذ! إنه (الشيخ) فقط.
حسناً، ما دوري كإنسان وهبه الله عقلاً يفكر به، هل أجبر على استخدام هذه الموازين غير المنصفة! لماذا يجب علينا أن نقتنع أن سجن ابن تيمه كان بسبب حسد الأقران، وأنهم اتهموه في عقيدته من هذا الباب! وأنه سجن بسبب الوشاة، وأنه في سجنه الأول عام 705 هـ امتنع عن المناظرة حين عقدت له في مصر، بسبب أن الحاكم والخصم واحد كما تقول بعض الكتب!
ولماذا نشكك في نزاهة القضاة الذين حكموا عليه بالسجن بأن فيهم كذا وكذا، وأنهم يأتمرون بأمر السلطان! وقد حبس عام 726 هـ بفتوى من أربعة قضاة، هم (القاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم الشافعي، والقاضي محمد بن الحريري الأنصاري الحنفي، والقاضي محمد بن أبي بكر المالكي، والقاضي أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي)، ذكر ذلك ابن شاكر الكتبي في عيون التواريخ، ويذكر أنه من تلامذة ابن تيميه!
بينما نقول لقضاتنا اليوم، ومن يفعل فعلهم، أنهم فعلوا ذلك لله وحده، ولتطبيق شرع الله فقط! ما الذي يتغير في هذه الحالات، ولماذا لا نقول إن ابن تيميه يستحق السجن عام 720 هـ، لأنه خالف السلطان حيث منعه من الإفتاء ولم يمتنع! لماذا نسميه مجاهدا صداحاً بالحق! ونسمي من يخالف السلطان اليوم بالخارجي المخالف لولي الأمر! ما الذي يتغير! وأي القراءات والتفسيرات هي الأصح!
إننا نسمع كثيراً تصغيراً ورداً لقول ’’فلان’’، لأنه خالف الإجماع! وفي المقابل نغض الطرف عن خروقات للإجماع كثيرة من قبل من نحب ونتبع! ألم ينقل السبكي أن ابن تيمية خرق الإجماع في نحو ستين مسألة! منها قوله بفناء النار وأزلية العالم! فمتى نضع الغشاوة على عيوننا ومتى يجب أن ترفع! ومن يحدد لنا ذلك!
أعلم أن الأسهل علينا جميعاً أن نقول كان السبكي خصماً لابن تيميه وأشعري الاعتقاد! لتنتهي المسألة هنا، ويتم الإلغاء مباشرو! (رحم الله الإمامين السبكي وابن تيميه وغفر لهما).
كم مرة قرعنا المتحدث برأي (ابن تيمية) واستخدمناه لتخويف المحاور، ووصفناه بناء على مجلدات فتاوى شيخ الإسلام! كم مرة حاسبنا الآخرين في عقائدهم بعد وزنها في ميزان الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأفكاره، وبناء عليها وضعنا منهجين للناس: منهج منحرفين ومنهج الصالحين الداخلين الجنة بضمانات!
ولو فتشنا في التأريخ، لوجدنا أكثر من 200 كتاب ترد على طريقته في الدعوة! ولكي نصد الناس عن القراءة للآخر البعيد، يكفي أن تقول: (هؤلاء روافض أو ناقمين على دعوة الشيخ أو مبتدعة، اهجروهم وكتبهم أجمعين)! وتنتهي المسألة، ويستمر طمس الناس بهذا الختم، وبلا وعي! (رحم الله الشيخين وغفر لهما).
كم مرة افتخرنا بالعز بن عبدالسلام، وأنه بائع الأمراء، ونعتز بمواقفه مع الحكام، لكن هذا الافتخار محدود الاستخدام، في مناسبات محددة فقط، بينما حين تأتي ساعة ذمه في عقيدته، فتجدنا جاهزين لنقول عنه إنه من أئمة الأشاعرة! وإنه وقف في وجه أهل السنة في مسألة خلق القرآن ومسألة الحرف والصوت! ونعيب عليه ما ذكره الذهبي في ’’العبر’’: (قال قطب الدين: كان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنوادر والأشعار، يحضر السماع ويرقص)! ونذكر على سبيل الرد عليه بأنه مفتون بالرقص والوجد على الطريقة الصوفية! مختارات واحتياجات في مواضع معينة فقط، لندعم بها آرائنا ونخوف الآخرين بهذه الأسماء الرنانة، في ساعة معينة فقط! (رحم الله العز بن عبدالسلام وغفر له).
عشرات الأمثلة المتناثرة في كتب التأريخ والسير، ذكرتها هنا لا على سبيل تتبع أخطاء العلماء وهفواتهم، فهي موجودة في الكتب وليست بحاجة لمثلي لينبشها، لكنني أريد أن أهز قليلاً هذه الجدر المبنية في أذهننا وأراها تكبر مع الأيام ولا تصغر.
بعض الناس يسمع ويطيع ويقلد دون تردد، كما لو كانت تتبع الأنبياء! إلغاء تام للعقل وعزله عن الآخرين! ’’ختم الشيخ والتوقيع عن الله’’، يجعل الإنسان كالآلة، تحتاج (ريموت) الشيخ!
قال لي صديق ليبي سابق من عائلة القذاذفة: لو قال لي الشيخ (.....) قاتل القذافي سأفعل دون تردد، عدا ذلك ما يحدث في بلادنا خروج على ولي الأمر! ممكن أن يقتل آخر ’’بفتوى’’ دون تشغيل خلية واحدة من الدماغ للتأمل!
إن هذا التمذهب والانغلاق الذي نعيشه ورمي الآخرين بالبدعة، سيخرج لنا الدفعة الثانية من جهلة طلبة العلم، التي طردت شيخ المفسرين الإمام الطبري من مسجده وحاصرته في بيته ومنعته من إلقاء الدروس واتهمته بالتشيع لأنه صحح غدير خم! أو ربما لأنه أغضب بعض الحنابلة، حيث لم يعدَ أحمد بن حنبل فقيهاً في كتاب جمعه ذكر فيه اختلاف الفقهاء ! فكانت النتيجة أن مات محاصراً في بيته!
وربما نرى في مساجدنا أحفاد أولئك الذين طردوا الإمام ابن حبان من بلده سجستان لأنه صرح بإنكاره الحد لله، كما جاء في ’’الثقات’’! فثارت ثائرة الذين أثبتوا لله الحد! كما يذكر شعيب الأرنؤوط في مقدمة تحقيقه على كتاب (صحيح ابن حبان) واستشاطوا غضباً، ولم تسترح نفوسهم إلا حين رأوه مطروداً وحيداً يغادر بلده! وسيفتخر بهذا الانغلاق ويثور بدعوى الحمية لله من لا يؤمن إلا برأيه ورأي شيخه، وسيفتخرون باضطهاد الآخرين، كما افتخر من قبل يحي بن عمار واعظ سجستان بطرد ابن حبان، حيث سأله أبو إسماعيل الهروي: هل رأيت ابن حبان؟ فيجيبه منتفخاً رافعا رأسه: وكيف لم أره؟ نحن أخرجناه من سجستان!
ليس كل ما تراه يا صديقي جميلاً، وليس بالضرورة حقيقة، هناك رماد متناثر في كثير من المؤلفات، أشياء مبالغ فيها، في صحتها أو في كذبها، تتبع الخلف المصلح الذي يقتبس من الخلف الصالح ويوازن بين زمانه ومكانه، لن تحتاج كثيراً للصالحين لأنفسهم فقط، فتش عن المصلحين.
أي عالم دين لا يهتم بخبزك وقوت يومك وأمنك من الظلم والعدوان، لا تثني ركبك عنده، فخيره محدود، لن تخسر شيئاً في تركه ولا بعدم الاستماع له، لا تصدق من يقول لك إن القرآن طلاسم صعبة تحتاج ختمه لتفتح لك مغاليقه، لا تصدق أنك ستضل لو قرأت من الكتب دون شيخ يحدد لك مسارك في كل صفحة وعند كل قول!
أترك هذه التحويلات الكثيرة التي تشد عنقك إلى طريق واحد فقط! توجس من كل لقب مفخم، فهو يغطي عوارا كثيراً، يحتاجه السياسي أكثر من الديني، لكنك المستهدف منه، لتكون كالخروف، تحسب كل صوت في الليل، عواء ذئب!
جرب يوماً أن تكسر فزاعة ’’المبتدعة’’ و’’الضلالة’’، التي نوزعها على الآخرين بلا ثمن، وفي كل مناسبة، وببساطة، ووكالة عن الله! كن صادقاً مع نفسك لا ناقماً ولا حاسداً، واقرأ لمن نسميهم مبتدعة، قلب صفحات كتبهم، وتأمل كيف يرد بعضهم على أدلتنا بالقرآن والسنة والسلف الصالح أيضاً.
أنظر إلى الصفحة المقابلة من هذا المنهج الذي تسير عليه! ربما تجد ما يشفي غليلك ويقنع عقلك! واسأل نفسك، لماذا أبقى على (رأي) ألأنني ولدت عليه فقط، ودرسته رغماً عني في المدارس والمساجد، ببساطة اقتنعنا على وصمه ’’مبتدع’’ منزلق يخالف منهج السلف! (السلف الذي اخترناه نحن)!
ماذا لو وجدت أن ما ينقلون هؤلاء المبتدعة في كتبهم هو أيضاً له سلف! هل يجب علينا أن نتبع سلفك أنت! أم سلفهم هم!
نعم سوف تكتشف أيضاً أن لديهم ما ينفر المرء منه، وتشمئز منه النفس، تماما كذلك الشعور الذي ينتابنا ونحن نسمع آراء شيوخنا ومفتينا وبعض السلف الصالح، عدا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم احتراما لهم!
أيَ إنسان واعي نريد أن نبني إذا كان لا يتحرك إلا بفتوى! ولا يقعد إلا بتفوى! تحقق برامج ’’الإفتاء’’ المركز الأول، ولا يقف الناس عن السؤال! هذا الإنسان سيعلق حياته بفتوى! ولن يحتاج عقله إلا في جدول الضرب فقط!
حين يرى أي إنسان أن غيره يرجع إليه في كل شيء، فسوف يشعر بالنبوة تهبط على روحه! أو شيء من القداسة، نحن من قدسنا بعض المفتين! فحين يسمع أحدهم رداً أو نقداً لرأيه في مسألة ما، قال في داخله (أفعلتم ذلك قبل أن آذن لكم)!
أريد أن نصل إلى مرحلة ’’عدم الحماس جداً’’ في التعاطي مع آراء الشيوخ، وأن نعتبره مجرد رأي، هناك ألف رأس وألف سلف قد يختلفون مع هذا الرأي، حتى ولو ادعى (هو) أن هذا منهج السلف! فإذا وجدت رأياً آخر فبإمكانك أن تدعي أيضاً أنه رأي السلف! لا تحول حياتك إلى مجموعة من المفتين.
خلقك الله لتنطلق أنت في حياتك وما يناسبها، لتعمر الأرض وتبنيها، مستعيناً بنعمة العقل، مسترشداً بنصوص الشرع الصريحة فقط.
انتفع من كل إنسان يبني فيك الأمل، ويسعى للإصلاح، ويحارب الفساد وخراب الأرض والعقول، أي شخص يدعوك لتحصر حياتك في آرائه هو، أو من يتبع هو، إنما يريد أن تستغني عن التفكير! تعرف على مقاصد هذا الدين العظيم، احرص على تحقيقها..
استغن عن كل إنسان يرى أن شأنه التحدث في حق ربك، وليس له علاقة بشأن حياتك ولا يهتم بها، هذا يريد وصاية على فكرك وحركتك، لا تصدق ـ في كل حال ـ المقولة التي تتردد ’’بأن الناس بحاجة إلى العلم أشد من حاجتهم إلى الأكل والشرب’’! هذا لا يناسب كل زمان ومكان، حاجة الناس اليوم في كثير من البقاع إلى الأكل والشرب أشد من حاجتهم إلى العلم.
جرب ألا تسلم الثقة المطلقة لأي أحد، ولو لبس عشرة بشوت!إذا سمعت حديثاً واستدلالا، اقرأ ماذا كتب الآخرون عن هذا الحديث، لماذا صححنا رجاله وضعفه الآخرون، ولماذا ضعفناه وصححه غيرنا!
تحرر من فكرة المرجعيات، وما هو رأي فلان وعلان! هناك من يرى أن نقد العلماء قد يفتح باباً لعدم احترامهم، وهذا ربما يكون صحيحاً، لكنه ليس أخطر من وجود هذه الجدر والعوازل الزائدة! لقد شلت القدرة على التفكير والتأمل واختبار الملائمة من عدمه، تتعدد الحصون! والعقل وحده يخسر.
إن أول سؤال تسأله إذا اعترضت (من أنت)! شقيقة كلام المستبدين (من أنتم)، يتوارثها كل من لا يرى في الحياة غيره.
أو يقول لك الآخر ليسكتك: (يقولون هذا عندنا غير جائز، و(من أنتم) حتى يكون لكم عند؟)، إنه فقط إلغاء لوجودك كإنسان يريد أن يفكر. والأدهى أن تجد من يسمع هذا الكلام ويعتقد أن هذا البيت أو تلك المقولة حجة كافيه للرد! هذا إذا لم يعتبر ذلك نص مقدساً يكتفى به!
سوف تجد كل شخصية عظيمة في ذهنك ذات قصور، وارتكبت أخطاء فادحة، وربما لو عاش بيننا اليوم من نعظمه في الكتب لوجدت من يصنفه من المبتدعة، لكنهم نجوا، وتوارثنا الثناء التاريخي عليهم، تم تغطية بعض الأخطاء في فترة زمنية، فشاع عند الناس الإعذار لهذه الشخصية وقبلوها، وتناقلوا مبدأ التغاضي عن هذه الأخطاء، حتى وصلت إلينا نقية، كالشمس، وما عدنا نستسيغ الإخبار عن هذه المثالب التي ارتكبت من قبل من نحب ونتبع!
اقرأ التأريخ مره أخرى، حتى تأريخ المنهج الذي تسير عليه، وإذا لم يقودك للتصحيح، فسوف يقودك إلى ’’التأني’’ في تجنب ردة فعل آنية لكل ما تسمع، وهذه الحسنة وحدها تكفي، لأنها تصنع لديك توازنا! أو على الأقل تقول لك: الصورة ليست بيضاء كما رسمت وتشربتها، هناك دخن وهنات في أشياء كثيرة!
نبز الآخرين بـ’’مخالفة منهج السلف’’وجدتها غير دقيقة، وفي أحياناً فرية! تستخدم للإلغاء والطمس لا أكثر! إنها تزكيه مبطنة لنا، فنحن الناجون وغيرنا سيسحب على وجهه في النار!
حسناً ماذا عن سلف هؤلاء الآخرين هل سيسحبون أيضاً في النار! إنهم سلف صالح .. أيضاً! آيات الله ومقاصده ترى في كل مخلوقاته، في أوامره الصريحة في كتابه وسنة نبيه.
لا تكن أعمى، ولا تسير مستخدما أعين غيرك، تخيفك فتوى أو رأي شيخ أو حكمه أو رأيه! إذا ذقت طعم الإيمان وجربت حياتك مع الله دون وسائط، فلن يضرك أن يطلق عليك الناس كل ما في الكون من شتائم
إنه يقول: خالفت منهج السلف وهو يقصد خالفت رأيه!
عليك بالخلف المصلح، الذي يرى تحريم الظلم في كل ركن من هذا الوجود، ويسعى للعدالة وتحقيقها، وإذا رأيتهم بدأوا يفكرون عنك، ويمذهبون عقلك، فتجاوزهم أيضاً، فقد ضلوا الطريق!
*العصر
ليس كل ما تراه يا صديقي جميلاً، وليس بالضرورة حقيقة، هناك رماد متناثر في كثير من المؤلفات، أشياء مبالغ فيها، في صحتها أو في كذبها، تتبع الخلف المصلح الذي يقتبس من الخلف الصالح ويوازن بين زمانه ومكانه، لن تحتاج كثيراً للصالحين لأنفسهم فقط، فتش عن المصلحين. انتفع من كل إنسان يبني فيك الأمل، ويسعى للإصلاح، ويحارب الفساد وخراب الأرض والعقول،
يبدو أن إيقاع جملة السلف الصالح ومنهج ’’السلف’’ تحدث دويها في النفوس، فكثيراً ما تعمي السامع عن التأمل في مآلات الاستجابة والإذعان لهذه الكلمات، وتشتت المرء أثناء سيره للكشف عن الحقائق، وتثنيه عن تحجيم المبالغات التي تحويها الدعاوى!
أضف إلى ذلك ما نلمسه من تقوقع حول آراء لرموز من العلماء والأشياخ في الحاضر والماضي وتجاهل حقيقة رؤية الآخر لهم، ولآرائهم ووزنها بميزان السلف الصالح أيضاً..!
هناك أقفال ذهنية لجملة من ’’أختام الرجال’’ تتناثر في ثنايا أحاديثنا والكلمات التي نكتبها، فيتم تسويق أفكار بشرية يمكننا أن نضع ما نشاء منها في صناديق جانبية ونركنها في رفوف القرون السالفة، ونتجاوزها إلى ما يناسب عصرنا دون أن نخرج من دائرة الإسلام، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإتباعه.
لقد وصلنا إلى مرحلة لم يعد يعرف الشخص نفسه إن كان مسلماً أم (لا) إلا عن طريق ’’ختم الشيخ’’! ولا أدري كيف قبلنا بتمام الرضى أن يعنون ابن القيم كتاباً بـ’’الموقعون عن رب العالمين’’! (رحمه الله ).. عنوان لا أستسيغه أدباً مع الله .. فمن هو هذا الإنسان الذي يوقع عن الله! وكأننا بحاجه إلى دكاكين يوقع فيه الناس عن الله .. (استغفر الله العظيم) .. ليس هذا موضوعي ...!
مصيبة ألا يتحرك الناس في مسألة حتى يسمعون ’’فتوى’’ ولا يأكلون حتى يسألون ’’الشيخ’’.. فتشوا عن كل القساوسة والمراجع الشيعية في العالم .. ستجدون أن مثل هذا التسليم والغلو هو من يصنع القسيس والمرجع..!
لست ضد أن يتبين الناس شؤون دينهم.. لكنني ضد سلطة الشيخ، التي أصبح يشعر معها في داخله أن الناس إذا لم ترجع إليه وغيره، فقد سلكت دروب التيه وضلت طريقها..!
كل حركة في هذه الأرض أصبحت بحاجة إلى ’’ختم’’! يمكن الحكم مبدئياً على أي شخص بأنه مخالف للسلف أو السنة، وبكل بساطة يتم تنحيته جانباً بختم ’’شيخ’’، يبرر ذلك بأن هذه المتحدث أو الكاتب مبتدع أو مخالف للسلف!
وحين لا يكون هذا الآخر ’’علمياً’’، أي ليس شيخاً أو طالب علم، فإن ختم الشيخ للابتداع والإخراج من الطريق المستقيم لا يبدو مناسباً، فالأولى إبداله بختم آخر هو ’’العلمانية’’ أو ’’التغريب’’، وغيرها من الأختام التي تستخدم لمجرد الطمس وعدم السماع عما يقوله الآخر!
لكل ختم استخدام خاص يستعمله الشيوخ مع حال الطرف المختلف معه! والناس تنسخ آثار هذه الأختام وتنشرها رغبة في الأجر الموعودين به (!!) .. وحالها حال شاتم طلحة! ذكر الجاحظ في كتابه (الحيوان) قصة طريفة لرجل أحمق .. يقول كلما مررنا به شتم ولعن طلحة! فسألته يوماً: أنت تشتم طلحة، فهل تعرف من طلحة؟ قال: (نعم) طلحة امرأة الزبير!
شاتم طلحة هذا يوجد منه الكثير! يشتمون الآخرين ويضللونهم ولم يتعرفوا على (طلحة) إلا بتاء التأنيث في آخر الاسم!
الأمر لا يبدو عادلاً ومنهجياً حتى في استخدام جملة ’’منهج السلف الصالح’’، بل هو انتقائي اختياري حسب ما يخدم فكرة ’’المنهج’’ الذي يتبعه ’’الشيخ’’، ومن بعده الناس، فالسلف الصالح منذ عهد الصحابة لا يزالون مختلفين حتى في أمور ليست فروعاً بل في مسائل عقدية ..!
فأي مناهج السلف يتم إتباعه في قضية (ما) إذا وجد عالمان من السلف قد اختلفا فيها! أنت تتبع ’’عمرو’’ من السلف وأنا أتبع ’’زيد’’، كلاهما من السلف! فأي الأسلاف تختار أنت! إذا كانت الحجة بأن تتبع الدليل! فهذا مضحك إذا كان هو الرد! هل يعتقد من يقول أنا أتبع الدليل، أن الطرف الآخر، يقول أنا لا أتبع الدليل وإنما أتبع الهوى! لا،، كلاهما يقول نتبع الدليل، كلاهما يقول نتجرد لله، وكل يعتقد أن حجته الأقوى، ولكن مختلفين! فمن يوقع عن الله! ومن يجب أن يضع الخطام في أعناقنا ويقود!
إذا كانت ’’السنة والنجاة’’ بالنسبة لك مسألة إدعاء واتباع أعمى وتقليد فقط، فلا تظننك الوحيد من يدعي أنه على منهج السلف الصالح.
أم نقول ولدنا هكذا، بنفس القناعات، ورضينا بالمضي إلى حيث يراد بنا! قد يبدو الكلام ’’فلسفيا’’، وهذا لا يعيبه، لكن دعوني أضرب بعض الأمثلة لتتضح الفكرة:
أحمد بن حنبل يقول في (العقيدة): ’’والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي ومن لم يكفر هولاء كلهم فهو مثلهم’’، واستنادا لكلامه في موضع آخر يقول فيه: ’’وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، والأهواء، إنما هي الإتباع، وترك الهوى’’! يعني المطلوب التسليم والإتباع! عدا ذلك سوف يكون ’’إتباع للهوى’’!
لقد أُمرنا بالتسليم لأمر الله ورسوله لا غير من أفراد الناس ولو بلغ في العلم ما بلغ! عطفاً على ما تقدم، نواصل: يذكر عبدالله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة، أن الإمام أبو حنيفة يرى بخلق القرآن، فهل هو كافر استنادا لكلام الإمام أحمد؟ وفي موضع آخر يورد: ’’حدثني إسحاق بن أبي يعقوب الطوسي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سليم المقرئ، عن سفيان الثوري قال: سمعت حماداً يقول: ألا تعجب من أبي حنيفة، يقول: القرآن مخلوق. قل له: يا كافر يا زنديق! وأورد حدثني محمود بن غيلان، حدثنا محمد بن سعيد بن سلم، عن أبيه، قال : سألت أبا يوسف وهو بجرجان عن أبي حنيفة؟ فقال : وما تصنع به مات جهمياً.
وكذلك قال أبو نعيم الأصبهاني بشأن أبي حنيفة : ’’قال بخلق القرآن، واستتيب من كلامه الرديء غير مرة، كثير الخطأ والأوهام’’! فهل نقول لأتباع أبو حنيفة هذا إمامكم! ونحن أئمتنا الصالحون وحدنا!
من أعجب التبريرات والردود على مثل هذا التساؤل، ما يذكره البعض في أن ذلك نسب للإمام أبو حنيفة وهو منه براء، وأن زمن عبدالله بن أحمد بن حنبل زمن فتنة عمياء، وكانوا يتناقلون مثل هذه الأقوال .. ويقولون إن الطحاوي ذكر أن العلماء بعد ذلك أجمعوا ألا ينقلوا ذلك!! هل يمكن أن يقنع هذا الكلام إنسانا!
ومثال آخر لنفس الفكرة: أيهما أصح عقيدة! ومن نتبع! الشيخ حمود التويجري ألف كتابا في العقيدة بعنوان ’’عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن’’، وجاء الشيخ الألباني معلقاً عليه في صحيح الأدب المفرد، فقال: (وبهذه المناسبة أقول: لقد أساء الشيخ التويجري رحمه الله تعالى إلى العقيدة والسنة الصحيحة معاً بتأليفه الذي سماه ’’عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن’’! من يختار لنا الأصح ..! إذا كنت تقول يا (صاحبي النقي) الأفضل ستر هذه الأخطاء، بحجة أنهم بشر، ونحتفظ بالاحترام لهم، ولا نضرب أقوال العلماء ببعض، فهذا حسن وكلام جميل أوافقك عليه!
لكن لماذا في مكان آخر تلغي شخصا آخر وقع في زلل عقدي أو فقهي، ولا تتسامح معه وتكيل له شتائم قربة لله! من يحدد لي من أحترم وممن آخذ! إنه (الشيخ) فقط.
حسناً، ما دوري كإنسان وهبه الله عقلاً يفكر به، هل أجبر على استخدام هذه الموازين غير المنصفة! لماذا يجب علينا أن نقتنع أن سجن ابن تيمه كان بسبب حسد الأقران، وأنهم اتهموه في عقيدته من هذا الباب! وأنه سجن بسبب الوشاة، وأنه في سجنه الأول عام 705 هـ امتنع عن المناظرة حين عقدت له في مصر، بسبب أن الحاكم والخصم واحد كما تقول بعض الكتب!
ولماذا نشكك في نزاهة القضاة الذين حكموا عليه بالسجن بأن فيهم كذا وكذا، وأنهم يأتمرون بأمر السلطان! وقد حبس عام 726 هـ بفتوى من أربعة قضاة، هم (القاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم الشافعي، والقاضي محمد بن الحريري الأنصاري الحنفي، والقاضي محمد بن أبي بكر المالكي، والقاضي أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي)، ذكر ذلك ابن شاكر الكتبي في عيون التواريخ، ويذكر أنه من تلامذة ابن تيميه!
بينما نقول لقضاتنا اليوم، ومن يفعل فعلهم، أنهم فعلوا ذلك لله وحده، ولتطبيق شرع الله فقط! ما الذي يتغير في هذه الحالات، ولماذا لا نقول إن ابن تيميه يستحق السجن عام 720 هـ، لأنه خالف السلطان حيث منعه من الإفتاء ولم يمتنع! لماذا نسميه مجاهدا صداحاً بالحق! ونسمي من يخالف السلطان اليوم بالخارجي المخالف لولي الأمر! ما الذي يتغير! وأي القراءات والتفسيرات هي الأصح!
إننا نسمع كثيراً تصغيراً ورداً لقول ’’فلان’’، لأنه خالف الإجماع! وفي المقابل نغض الطرف عن خروقات للإجماع كثيرة من قبل من نحب ونتبع! ألم ينقل السبكي أن ابن تيمية خرق الإجماع في نحو ستين مسألة! منها قوله بفناء النار وأزلية العالم! فمتى نضع الغشاوة على عيوننا ومتى يجب أن ترفع! ومن يحدد لنا ذلك!
أعلم أن الأسهل علينا جميعاً أن نقول كان السبكي خصماً لابن تيميه وأشعري الاعتقاد! لتنتهي المسألة هنا، ويتم الإلغاء مباشرو! (رحم الله الإمامين السبكي وابن تيميه وغفر لهما).
كم مرة قرعنا المتحدث برأي (ابن تيمية) واستخدمناه لتخويف المحاور، ووصفناه بناء على مجلدات فتاوى شيخ الإسلام! كم مرة حاسبنا الآخرين في عقائدهم بعد وزنها في ميزان الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأفكاره، وبناء عليها وضعنا منهجين للناس: منهج منحرفين ومنهج الصالحين الداخلين الجنة بضمانات!
ولو فتشنا في التأريخ، لوجدنا أكثر من 200 كتاب ترد على طريقته في الدعوة! ولكي نصد الناس عن القراءة للآخر البعيد، يكفي أن تقول: (هؤلاء روافض أو ناقمين على دعوة الشيخ أو مبتدعة، اهجروهم وكتبهم أجمعين)! وتنتهي المسألة، ويستمر طمس الناس بهذا الختم، وبلا وعي! (رحم الله الشيخين وغفر لهما).
كم مرة افتخرنا بالعز بن عبدالسلام، وأنه بائع الأمراء، ونعتز بمواقفه مع الحكام، لكن هذا الافتخار محدود الاستخدام، في مناسبات محددة فقط، بينما حين تأتي ساعة ذمه في عقيدته، فتجدنا جاهزين لنقول عنه إنه من أئمة الأشاعرة! وإنه وقف في وجه أهل السنة في مسألة خلق القرآن ومسألة الحرف والصوت! ونعيب عليه ما ذكره الذهبي في ’’العبر’’: (قال قطب الدين: كان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنوادر والأشعار، يحضر السماع ويرقص)! ونذكر على سبيل الرد عليه بأنه مفتون بالرقص والوجد على الطريقة الصوفية! مختارات واحتياجات في مواضع معينة فقط، لندعم بها آرائنا ونخوف الآخرين بهذه الأسماء الرنانة، في ساعة معينة فقط! (رحم الله العز بن عبدالسلام وغفر له).
عشرات الأمثلة المتناثرة في كتب التأريخ والسير، ذكرتها هنا لا على سبيل تتبع أخطاء العلماء وهفواتهم، فهي موجودة في الكتب وليست بحاجة لمثلي لينبشها، لكنني أريد أن أهز قليلاً هذه الجدر المبنية في أذهننا وأراها تكبر مع الأيام ولا تصغر.
بعض الناس يسمع ويطيع ويقلد دون تردد، كما لو كانت تتبع الأنبياء! إلغاء تام للعقل وعزله عن الآخرين! ’’ختم الشيخ والتوقيع عن الله’’، يجعل الإنسان كالآلة، تحتاج (ريموت) الشيخ!
قال لي صديق ليبي سابق من عائلة القذاذفة: لو قال لي الشيخ (.....) قاتل القذافي سأفعل دون تردد، عدا ذلك ما يحدث في بلادنا خروج على ولي الأمر! ممكن أن يقتل آخر ’’بفتوى’’ دون تشغيل خلية واحدة من الدماغ للتأمل!
إن هذا التمذهب والانغلاق الذي نعيشه ورمي الآخرين بالبدعة، سيخرج لنا الدفعة الثانية من جهلة طلبة العلم، التي طردت شيخ المفسرين الإمام الطبري من مسجده وحاصرته في بيته ومنعته من إلقاء الدروس واتهمته بالتشيع لأنه صحح غدير خم! أو ربما لأنه أغضب بعض الحنابلة، حيث لم يعدَ أحمد بن حنبل فقيهاً في كتاب جمعه ذكر فيه اختلاف الفقهاء ! فكانت النتيجة أن مات محاصراً في بيته!
وربما نرى في مساجدنا أحفاد أولئك الذين طردوا الإمام ابن حبان من بلده سجستان لأنه صرح بإنكاره الحد لله، كما جاء في ’’الثقات’’! فثارت ثائرة الذين أثبتوا لله الحد! كما يذكر شعيب الأرنؤوط في مقدمة تحقيقه على كتاب (صحيح ابن حبان) واستشاطوا غضباً، ولم تسترح نفوسهم إلا حين رأوه مطروداً وحيداً يغادر بلده! وسيفتخر بهذا الانغلاق ويثور بدعوى الحمية لله من لا يؤمن إلا برأيه ورأي شيخه، وسيفتخرون باضطهاد الآخرين، كما افتخر من قبل يحي بن عمار واعظ سجستان بطرد ابن حبان، حيث سأله أبو إسماعيل الهروي: هل رأيت ابن حبان؟ فيجيبه منتفخاً رافعا رأسه: وكيف لم أره؟ نحن أخرجناه من سجستان!
ليس كل ما تراه يا صديقي جميلاً، وليس بالضرورة حقيقة، هناك رماد متناثر في كثير من المؤلفات، أشياء مبالغ فيها، في صحتها أو في كذبها، تتبع الخلف المصلح الذي يقتبس من الخلف الصالح ويوازن بين زمانه ومكانه، لن تحتاج كثيراً للصالحين لأنفسهم فقط، فتش عن المصلحين.
أي عالم دين لا يهتم بخبزك وقوت يومك وأمنك من الظلم والعدوان، لا تثني ركبك عنده، فخيره محدود، لن تخسر شيئاً في تركه ولا بعدم الاستماع له، لا تصدق من يقول لك إن القرآن طلاسم صعبة تحتاج ختمه لتفتح لك مغاليقه، لا تصدق أنك ستضل لو قرأت من الكتب دون شيخ يحدد لك مسارك في كل صفحة وعند كل قول!
أترك هذه التحويلات الكثيرة التي تشد عنقك إلى طريق واحد فقط! توجس من كل لقب مفخم، فهو يغطي عوارا كثيراً، يحتاجه السياسي أكثر من الديني، لكنك المستهدف منه، لتكون كالخروف، تحسب كل صوت في الليل، عواء ذئب!
جرب يوماً أن تكسر فزاعة ’’المبتدعة’’ و’’الضلالة’’، التي نوزعها على الآخرين بلا ثمن، وفي كل مناسبة، وببساطة، ووكالة عن الله! كن صادقاً مع نفسك لا ناقماً ولا حاسداً، واقرأ لمن نسميهم مبتدعة، قلب صفحات كتبهم، وتأمل كيف يرد بعضهم على أدلتنا بالقرآن والسنة والسلف الصالح أيضاً.
أنظر إلى الصفحة المقابلة من هذا المنهج الذي تسير عليه! ربما تجد ما يشفي غليلك ويقنع عقلك! واسأل نفسك، لماذا أبقى على (رأي) ألأنني ولدت عليه فقط، ودرسته رغماً عني في المدارس والمساجد، ببساطة اقتنعنا على وصمه ’’مبتدع’’ منزلق يخالف منهج السلف! (السلف الذي اخترناه نحن)!
ماذا لو وجدت أن ما ينقلون هؤلاء المبتدعة في كتبهم هو أيضاً له سلف! هل يجب علينا أن نتبع سلفك أنت! أم سلفهم هم!
نعم سوف تكتشف أيضاً أن لديهم ما ينفر المرء منه، وتشمئز منه النفس، تماما كذلك الشعور الذي ينتابنا ونحن نسمع آراء شيوخنا ومفتينا وبعض السلف الصالح، عدا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم احتراما لهم!
أيَ إنسان واعي نريد أن نبني إذا كان لا يتحرك إلا بفتوى! ولا يقعد إلا بتفوى! تحقق برامج ’’الإفتاء’’ المركز الأول، ولا يقف الناس عن السؤال! هذا الإنسان سيعلق حياته بفتوى! ولن يحتاج عقله إلا في جدول الضرب فقط!
حين يرى أي إنسان أن غيره يرجع إليه في كل شيء، فسوف يشعر بالنبوة تهبط على روحه! أو شيء من القداسة، نحن من قدسنا بعض المفتين! فحين يسمع أحدهم رداً أو نقداً لرأيه في مسألة ما، قال في داخله (أفعلتم ذلك قبل أن آذن لكم)!
أريد أن نصل إلى مرحلة ’’عدم الحماس جداً’’ في التعاطي مع آراء الشيوخ، وأن نعتبره مجرد رأي، هناك ألف رأس وألف سلف قد يختلفون مع هذا الرأي، حتى ولو ادعى (هو) أن هذا منهج السلف! فإذا وجدت رأياً آخر فبإمكانك أن تدعي أيضاً أنه رأي السلف! لا تحول حياتك إلى مجموعة من المفتين.
خلقك الله لتنطلق أنت في حياتك وما يناسبها، لتعمر الأرض وتبنيها، مستعيناً بنعمة العقل، مسترشداً بنصوص الشرع الصريحة فقط.
انتفع من كل إنسان يبني فيك الأمل، ويسعى للإصلاح، ويحارب الفساد وخراب الأرض والعقول، أي شخص يدعوك لتحصر حياتك في آرائه هو، أو من يتبع هو، إنما يريد أن تستغني عن التفكير! تعرف على مقاصد هذا الدين العظيم، احرص على تحقيقها..
استغن عن كل إنسان يرى أن شأنه التحدث في حق ربك، وليس له علاقة بشأن حياتك ولا يهتم بها، هذا يريد وصاية على فكرك وحركتك، لا تصدق ـ في كل حال ـ المقولة التي تتردد ’’بأن الناس بحاجة إلى العلم أشد من حاجتهم إلى الأكل والشرب’’! هذا لا يناسب كل زمان ومكان، حاجة الناس اليوم في كثير من البقاع إلى الأكل والشرب أشد من حاجتهم إلى العلم.
جرب ألا تسلم الثقة المطلقة لأي أحد، ولو لبس عشرة بشوت!إذا سمعت حديثاً واستدلالا، اقرأ ماذا كتب الآخرون عن هذا الحديث، لماذا صححنا رجاله وضعفه الآخرون، ولماذا ضعفناه وصححه غيرنا!
تحرر من فكرة المرجعيات، وما هو رأي فلان وعلان! هناك من يرى أن نقد العلماء قد يفتح باباً لعدم احترامهم، وهذا ربما يكون صحيحاً، لكنه ليس أخطر من وجود هذه الجدر والعوازل الزائدة! لقد شلت القدرة على التفكير والتأمل واختبار الملائمة من عدمه، تتعدد الحصون! والعقل وحده يخسر.
إن أول سؤال تسأله إذا اعترضت (من أنت)! شقيقة كلام المستبدين (من أنتم)، يتوارثها كل من لا يرى في الحياة غيره.
أو يقول لك الآخر ليسكتك: (يقولون هذا عندنا غير جائز، و(من أنتم) حتى يكون لكم عند؟)، إنه فقط إلغاء لوجودك كإنسان يريد أن يفكر. والأدهى أن تجد من يسمع هذا الكلام ويعتقد أن هذا البيت أو تلك المقولة حجة كافيه للرد! هذا إذا لم يعتبر ذلك نص مقدساً يكتفى به!
سوف تجد كل شخصية عظيمة في ذهنك ذات قصور، وارتكبت أخطاء فادحة، وربما لو عاش بيننا اليوم من نعظمه في الكتب لوجدت من يصنفه من المبتدعة، لكنهم نجوا، وتوارثنا الثناء التاريخي عليهم، تم تغطية بعض الأخطاء في فترة زمنية، فشاع عند الناس الإعذار لهذه الشخصية وقبلوها، وتناقلوا مبدأ التغاضي عن هذه الأخطاء، حتى وصلت إلينا نقية، كالشمس، وما عدنا نستسيغ الإخبار عن هذه المثالب التي ارتكبت من قبل من نحب ونتبع!
اقرأ التأريخ مره أخرى، حتى تأريخ المنهج الذي تسير عليه، وإذا لم يقودك للتصحيح، فسوف يقودك إلى ’’التأني’’ في تجنب ردة فعل آنية لكل ما تسمع، وهذه الحسنة وحدها تكفي، لأنها تصنع لديك توازنا! أو على الأقل تقول لك: الصورة ليست بيضاء كما رسمت وتشربتها، هناك دخن وهنات في أشياء كثيرة!
نبز الآخرين بـ’’مخالفة منهج السلف’’وجدتها غير دقيقة، وفي أحياناً فرية! تستخدم للإلغاء والطمس لا أكثر! إنها تزكيه مبطنة لنا، فنحن الناجون وغيرنا سيسحب على وجهه في النار!
حسناً ماذا عن سلف هؤلاء الآخرين هل سيسحبون أيضاً في النار! إنهم سلف صالح .. أيضاً! آيات الله ومقاصده ترى في كل مخلوقاته، في أوامره الصريحة في كتابه وسنة نبيه.
لا تكن أعمى، ولا تسير مستخدما أعين غيرك، تخيفك فتوى أو رأي شيخ أو حكمه أو رأيه! إذا ذقت طعم الإيمان وجربت حياتك مع الله دون وسائط، فلن يضرك أن يطلق عليك الناس كل ما في الكون من شتائم
إنه يقول: خالفت منهج السلف وهو يقصد خالفت رأيه!
عليك بالخلف المصلح، الذي يرى تحريم الظلم في كل ركن من هذا الوجود، ويسعى للعدالة وتحقيقها، وإذا رأيتهم بدأوا يفكرون عنك، ويمذهبون عقلك، فتجاوزهم أيضاً، فقد ضلوا الطريق!
*العصر