الشيخ : أحمد عبدالعزيز الفلاح
يشمل أدب التغافل عن زلات الآخرين أيضاً التغافل عما نقدمه لهم، أي عدم المنّ عليهم، فلا نذكر ما تفضّلنا به عليهم. يقول الله سبحانه وتعالى: ( ولاتمنن تستكثر 6)(المدثر)، لا تمنن بالعطايا أو لا تمن بما قدمته لأخيك، لأن هذا ليس ملكاً لك، فما أعطاك الله سبحانه وتعالى من مال وسّعت به على الناس الآخرين هو ليس مالك، ولكن مال الله سبحانه وتعالى، وإنما جُعلت سبباً من الأسباب لتوصيله، ولابد أن يكون الأصل في ذلك هو حمد الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة. ومكارم الأخلاق هي التي تميّز إنساناً عن آخر.. وهذه المكارم تكون عبادة لله سبحانه وتعالى عندما تأتي في الموقع والموضع الذي حدده الله له، وتكون سعادة في الدنيا والآخرة. فالنبي [ أحب مشية الخيلاء وجعلها طاعة وعبادة.. ولكن متى؟ لا في التبختر ولا المرور بين الناس، أو التبختر في المجمعات، بل في مواقع معينة، مثل: مواجهة الأعداء، يمشي ويتبختر، ليغيظ العدو، ويظهر لهم القوة. والذي يتخلق بخلق التغافل عن زلات الآخرين سيد في قومه، ويرفعه الناس إلى منزلة عظيمة، يقول الشاعر: ليس الغني بسيدٍ في قومه لكن سيد قومه المتغافل فعندما تعرّض أحد الناس لأبي الدرداء ] بالكلام فقال له: «يا هذا، لا تغرق في سبّنا، ودع للصلح موضعاً، فإنّا لا نكافئ من عصا الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه». ويأتي أحدُهم حفيدََ النبي [، علي بن الحسن (زين العابدين) رضي الله عنهما فيسبه وهو في الطريق ومعه الأتباع والعبيد، ويتغاضى عنه علي بن الحسن وكأنما لم يسمعه، فزاد هذا الرجل في السبّ، فتغاضى عنه مرة أخرى، ثم زاد في السب.. عندها ثارت حمية من مع حفيد النبي [، وأرادوا أن يبطشوا بذلك الإنسان، فقال: مهلاً.. ثم أقبل على الرجل وقال له: «ما سُتر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحى الرجل، فألقى عليه علي بن الحسن خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم فقال الرجل: أشهد أنك من أولاد الرسول [.. وقد سُمي بـ«زين العابدين» ] بسبب أخلاقياته العالية هذه. وهناك حادثة تذكّرنا بقمة التغافل مع الناس، وهي حادثة في زمن «المنصور»، فقد وُلِّي «معن بن زائدة الشيباني» إمارة سجستان، وكان فيها أربعة من العرب يتذاكرون أجود الناس وأكرمهم وأحسنهم خلقاً، فذكروا من جملة من ذكروا معن بن زائدة ]، وكان من القواد الشجعان ومن الأمراء، فقالوا: إذاً، كل منا يذهب إلى واحد من الذين ذكرنا، ويحاول بقدر ما أوتي من قوة استفزازه حتى نرى خُلقه، هل هو فعلاً كما وُصف أم أنها مجرد «دعاية مدفوعة الثمن»، ومن يستطيع استثارة أحدهم له مكافأة «مائة ناقة». وجاء أحد هؤلاء الأعراب إلى معن بن زائدة الشيباني، وكان قد ذبح جملاً وأخذ جلده وصنع منه لباساً ونعالاً وقال لـ«معن» في جمع من الناس: أتذكر إذ لحافك جلد شاة، وإذ نعلاك من جلد البعير؟ فقال معن: أذكر ولا أنساه (قمة في التواضع)، فقال الأعرابي: فسبحان الذي أعطاك ملكاً، وعلمك الجلوس على السرير. فقال معن: إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء. فقال الأعرابي: فلست مسلماً ما عشت دهراً على معن بتسليم الأمير، فقال معن: السلام خير وليس في تركة ضير. قال الأعرابي: سأرحل عن بلاد أنت فيها ولو جار الزمان على الفقير. فقال معن: إن جاورتنا فمرحباً بالإقامة، وإن جاوزتنا فمصحوباً بالسلامة. فرد عليه الأعرابي يقول: فجُدْ لي يابن ناقصة بمال، فإني قد عزمت على المسير. فقال معن: أعطوه ألف دينار تخفف عنه مشاق الأسفار.. فأخذها الأعرابي وقال: قليل ما أتيت به وإني لأطمع منك بالمال القليل، فثنِّ فقد أتاك الملك عفواً بلا عقل ولا رأي منير. فقال معن: أعطوه ألفاً ثانياً كي يكون عنا راضياً. فتقدم الأعرابي إليه وقبّل الأرض بين يديه وقال: سألت الله أن يبقيك دهراً فما لك في البرية من نظير فمنك الجود والأفضال حقاً وفيض يديك كالبحر الغزير فقال معن: أعطيناه على هجونا ألفين، فلنعط أربعة على مدحنا، فقال الأعرابي: بأبي يا أيها الأمير ونفسي، فأنت نسيج الوحدة (في الحِلْم)، ونادر دهرك (في الجود)، لقد كنا في صفاتك بين مكذّب ومصدق، وما بعثني على ما فعلت إلا مائة بعير جُعلت لي على إغضابك إذا وصلت بأني أغضبك، لكن الآن أنا خسرت وما أستطيع أن آخذ البعير المائة، فقال له الأمير: لا تثريب عليك، وأعطاه مائتي بعير نصفها للرهان ونصفها له، فانصرف الأعرابي داعياً له شاكراً لهباته معجباً بأناته. هل رأيت - عزيزي القارئ - مثل هذا الحلم والتغافل عن زلات الناس.
*المجتمع
يشمل أدب التغافل عن زلات الآخرين أيضاً التغافل عما نقدمه لهم، أي عدم المنّ عليهم، فلا نذكر ما تفضّلنا به عليهم. يقول الله سبحانه وتعالى: ( ولاتمنن تستكثر 6)(المدثر)، لا تمنن بالعطايا أو لا تمن بما قدمته لأخيك، لأن هذا ليس ملكاً لك، فما أعطاك الله سبحانه وتعالى من مال وسّعت به على الناس الآخرين هو ليس مالك، ولكن مال الله سبحانه وتعالى، وإنما جُعلت سبباً من الأسباب لتوصيله، ولابد أن يكون الأصل في ذلك هو حمد الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة. ومكارم الأخلاق هي التي تميّز إنساناً عن آخر.. وهذه المكارم تكون عبادة لله سبحانه وتعالى عندما تأتي في الموقع والموضع الذي حدده الله له، وتكون سعادة في الدنيا والآخرة. فالنبي [ أحب مشية الخيلاء وجعلها طاعة وعبادة.. ولكن متى؟ لا في التبختر ولا المرور بين الناس، أو التبختر في المجمعات، بل في مواقع معينة، مثل: مواجهة الأعداء، يمشي ويتبختر، ليغيظ العدو، ويظهر لهم القوة. والذي يتخلق بخلق التغافل عن زلات الآخرين سيد في قومه، ويرفعه الناس إلى منزلة عظيمة، يقول الشاعر: ليس الغني بسيدٍ في قومه لكن سيد قومه المتغافل فعندما تعرّض أحد الناس لأبي الدرداء ] بالكلام فقال له: «يا هذا، لا تغرق في سبّنا، ودع للصلح موضعاً، فإنّا لا نكافئ من عصا الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه». ويأتي أحدُهم حفيدََ النبي [، علي بن الحسن (زين العابدين) رضي الله عنهما فيسبه وهو في الطريق ومعه الأتباع والعبيد، ويتغاضى عنه علي بن الحسن وكأنما لم يسمعه، فزاد هذا الرجل في السبّ، فتغاضى عنه مرة أخرى، ثم زاد في السب.. عندها ثارت حمية من مع حفيد النبي [، وأرادوا أن يبطشوا بذلك الإنسان، فقال: مهلاً.. ثم أقبل على الرجل وقال له: «ما سُتر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحى الرجل، فألقى عليه علي بن الحسن خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم فقال الرجل: أشهد أنك من أولاد الرسول [.. وقد سُمي بـ«زين العابدين» ] بسبب أخلاقياته العالية هذه. وهناك حادثة تذكّرنا بقمة التغافل مع الناس، وهي حادثة في زمن «المنصور»، فقد وُلِّي «معن بن زائدة الشيباني» إمارة سجستان، وكان فيها أربعة من العرب يتذاكرون أجود الناس وأكرمهم وأحسنهم خلقاً، فذكروا من جملة من ذكروا معن بن زائدة ]، وكان من القواد الشجعان ومن الأمراء، فقالوا: إذاً، كل منا يذهب إلى واحد من الذين ذكرنا، ويحاول بقدر ما أوتي من قوة استفزازه حتى نرى خُلقه، هل هو فعلاً كما وُصف أم أنها مجرد «دعاية مدفوعة الثمن»، ومن يستطيع استثارة أحدهم له مكافأة «مائة ناقة». وجاء أحد هؤلاء الأعراب إلى معن بن زائدة الشيباني، وكان قد ذبح جملاً وأخذ جلده وصنع منه لباساً ونعالاً وقال لـ«معن» في جمع من الناس: أتذكر إذ لحافك جلد شاة، وإذ نعلاك من جلد البعير؟ فقال معن: أذكر ولا أنساه (قمة في التواضع)، فقال الأعرابي: فسبحان الذي أعطاك ملكاً، وعلمك الجلوس على السرير. فقال معن: إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء. فقال الأعرابي: فلست مسلماً ما عشت دهراً على معن بتسليم الأمير، فقال معن: السلام خير وليس في تركة ضير. قال الأعرابي: سأرحل عن بلاد أنت فيها ولو جار الزمان على الفقير. فقال معن: إن جاورتنا فمرحباً بالإقامة، وإن جاوزتنا فمصحوباً بالسلامة. فرد عليه الأعرابي يقول: فجُدْ لي يابن ناقصة بمال، فإني قد عزمت على المسير. فقال معن: أعطوه ألف دينار تخفف عنه مشاق الأسفار.. فأخذها الأعرابي وقال: قليل ما أتيت به وإني لأطمع منك بالمال القليل، فثنِّ فقد أتاك الملك عفواً بلا عقل ولا رأي منير. فقال معن: أعطوه ألفاً ثانياً كي يكون عنا راضياً. فتقدم الأعرابي إليه وقبّل الأرض بين يديه وقال: سألت الله أن يبقيك دهراً فما لك في البرية من نظير فمنك الجود والأفضال حقاً وفيض يديك كالبحر الغزير فقال معن: أعطيناه على هجونا ألفين، فلنعط أربعة على مدحنا، فقال الأعرابي: بأبي يا أيها الأمير ونفسي، فأنت نسيج الوحدة (في الحِلْم)، ونادر دهرك (في الجود)، لقد كنا في صفاتك بين مكذّب ومصدق، وما بعثني على ما فعلت إلا مائة بعير جُعلت لي على إغضابك إذا وصلت بأني أغضبك، لكن الآن أنا خسرت وما أستطيع أن آخذ البعير المائة، فقال له الأمير: لا تثريب عليك، وأعطاه مائتي بعير نصفها للرهان ونصفها له، فانصرف الأعرابي داعياً له شاكراً لهباته معجباً بأناته. هل رأيت - عزيزي القارئ - مثل هذا الحلم والتغافل عن زلات الناس.
*المجتمع