الصادق الفقيه
الأحد12-12-2010م
قيمة الدموع
قسوة الدموع
دموع التاريخ
دموع الوحدة
دموع الانفصال
المشهد الأخير
خاتمة المطاف
تقترب في السودان لحظات التقسيم الفاجعة من ميقاتها المعلوم، وقد توزعت العواطف بين غارق في حب وحدة، ترملت يوم وضعها الطرفان أمام محاصصة الاختيار، وانفصال تتوارى معه أيام عدة الجنوب في عصمة الوحدة، ليحل تمام اقترانه باسم جديد، وعلم يرفرف على سارية دولة جديدة، تكون لها حدود وقيود تحصرها عن سعة السودان القديم.
وبدلا من سنوات عددناها وظننا أنها طويلة، يوم أن وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا بكينيا، في التاسع من يناير/كانون الثاني 2005، انتبه الجميع الآن لانصراف الأشهر المتبقية لاستفتاء تقرير المصير، ثم أصبحت أمامنا أيام ترحل مسرعة والحيرة تلجم الأفواه، كيف بلغنا لحظة الاختبار بهذه السرعة؟ وكيف تراجع الأمل في الوحدة بهذه الدرامية المحزنة؟ ولماذا صارت العبرات هي لغة التعبير عن الحال بدلا عن العبارات؟ وما الذي أطلق العنان لدموع الوحدة والانفصال لتنهمر بغزارة في اتجاهين مختلفين؟
قيمة الدموع
’’
السياسي هو ذلك الرجل الذي يبكي أمام الناخبين قبل الانتخابات، ويبكيهم بشدة بعدها، والسياسيون السودانيون يبكون الآن كثيرا الوحدة والانفصال، والاستفتاء على الأبواب، ولكن لا أحد يستطيع أن يحدثنا حول من سيبكون بعد الانفصال
’’
تذرف الدموع الغالية لمن، أو ما، يستحقها من الناس، أو الأحداث، إلا أن حالة الضعف التي يعيشها السياسيون في السودان تخذلهم فيدمعون، رغم مسحة القوة التي تكسو ملامحهم أحيانا. وقديما قيل الدمعة تذهب اللوعة، ولولا الدموع لتصدعت الأكباد. لهذا، فالشاعر يخفف عن نفسه دمعة خذلته وسقطت، فرع ثمنها حتى لا تضيع هدرا، قائلا: لا يَبْكِي عَلَى نَفْسِهِ حُرٌّ ... وَلَكِنَّ دَمْعِي فِي الْحَوَادِثِ غَالِ.
وقد قيل إن الذي يبكي هو السياسي الإنسان المرتبط بقضايا وطنه، وبمصائر من يعملون معه في معترك السياسة وميدان الهم العام. فعندما يفقد واحدا من الأهداف التي كان يسعى لتحقيقها، أو ينادي من أجلها، فإنه يبكي، أما السياسي الانتهازي، الذي لا يتعامل مع السياسة إلا بمفهوم الربح والخسارة، فإنه لا يقدر له أن يبكي، وإن بكى فلن تطاوعه الدموع.
لهذا، جاء في أحد التعريفات الساخرة، التي لا تخلو من شيء من المكر، أن السياسي هو ذلك الرجل الذي يبكي أمام الناخبين قبل الانتخابات، ويبكيهم بشدة بعدها. والسياسيون السودانيون يبكون الآن كثيرا الوحدة والانفصال، والاستفتاء على الأبواب. ولكن، لا أحد يستطيع أن يحدثنا حول من سيبكون بعد الانفصال.
قسوة الدموع
ومعروف أن الدموع تقسو كثيرا عندما تترقرق خجولة على العيون، وتنسل شفيعة على أهداب الرجال، أو عندما ترفرف تحت سحابة عاطفة غائمة تتخفى عن جلاء التفسير، أفرح طاغ هي أم حزن غائر يعتصر القلب برهبة اللحظة؟ وبغض النظر عن الحالة الوجدانية، التي تجتاح نفس الإنسان.
فالدموع في حالتي الأفراح والأتراح هي لآلئ ثمينة تتساقط من عين الإنسان عندما تجيش نفسه بخفقات لا يستطيع تداركها بغير فتح المآقي لتفيض دفق زلزلتها الموقوفة على عواطف الفرح، أو الحزن، وما بينهما من ندم وحسرة. إن الدمعة تترك أثرا لا ينمحي لأنها أجمل ما في الإنسان من مشاعر جياشة بالفرح والحزن، فعندما نفرح ليس لنا هدية نعبر بها أكبر من دمعة تبسم لها العين قبل الشفاه، وحين يتألم القلب لجرح نازف، فلا تغسله إلا دمعة تنزل من العين، وتترقرق على الخد كأنها تواسي صاحبها، وتقدم له بلسما شافيا لذلك الجرح وعلاجا مثبطا للنزيف.
والدمعة هي بالقطع دليل إنسانيتنا الذي لا يكذب. ورغم أن البكاء قد عُرف منذ فجر التاريخ وارتبط بمشاعر الإنسان، ولكن تبقى دموع السياسيين محملة بالكثير من العبارات والدلالات، التي غالبا تعبر عن وضع قلق مشوب بتناقض الاحتمالات.
فالانفعالات المؤلمة والعنيفة لا بد أن تظهر من خلال العينين، وهي دائما تكون أقوى من أي حوار تترجمه الكلمات، لأنها عبرات لا عبارات تنطق بنبضات القلب تجاه الموقف، وتظهر دمعات نقية على المآقي الباكية.
’’
أغرب ما يميز الوضع النفسي المتشابك والمعقد داخل الوسط السياسي السوداني هذه الأيام هو عدم وجود توافق بين المواقف والعواطف في نفوس الجميع، انفصاليين كانوا أم وحدويين
’’
وفي حال السودان الحاضر، فقد كثرت دفقات الدموع هذه الأيام، وتعددت حالات رؤيتها في مآقي الرجال، خاصة الذين اشتهروا بين الناس بالصلابة والجلد، إذ خلع بعضهم صلابته المعروفة لينفعل مع روح انفصال جديدة تغتال الفرح في نفوس الناس، ويحكون قصة بدمعة حرة، وهي على بساطتها، فإنها نابعة من حالة الاحتيار بالانهيار، لتصوغ احتجاجا صارخا ورثاء نبيلا، وتمثل رمزا شاخصا لمرحلة مضطربة في تاريخ البلاد السياسي والاجتماعي.
وأغرب ما يميز الوضع النفسي المتشابك والمعقد داخل الوسط السياسي السوداني هذه الأيام هو عدم وجود توافق بين المواقف والعواطف في نفوس الجميع، انفصاليين كانوا أم وحدويين.
دموع التاريخ
يترك بكاء السياسيين المتسق مع الموقف، خاصة إذا كان في شأن إنساني أو وطني، شعورا ايجابيا تجاه السياسي الباكي، فمفاهيم الجماهير تتغير بشأنه، وينظرون إليه كشخص مهموم ومرتبط بقضايا أهله ووطنه.
ولكن لأن الدموع تمت للسياسة بصلة قرابة واشجه، فقد ثبت أن الزعيم السوداني المعروف السيد عبد الرحمن المهدي قد تحدث يوم استقلال السودان بصوت متهدج تغمره العبارات الدامعة، رغم نه كان بليغا ومؤثرا ومتأثرا، فأجهش بالبكاء بصورة عاطفية، ونزلت دموعه غزيرة بغزارة الفرح الذي اجتاح وجدانه لحظة رفع العلم السوداني في الأول من يناير/كانون الثاني من العام 1956م على سارية القصر الجمهوري بالخرطوم، بعد كفاح طويل ضد المستعمر البريطاني، وترقب مضن ممض للحرية، التي طال انتظارها.
وقد سجل التاريخ هذه اللحظة النادرة من حياة السودان، إذ نزلت على أهداب عهد جديد، وطفرت فخورة بميلاد انتظره الناس طويلا، وأذن بعده داعي الاستقلال بخروج المستعمر من البلاد إلى غير رجعة. ومهما يكن من أمر، فإن البكاء في السياسة السودانية لم يرتبط بحالات الضيق الخاص، أو الهزيمة السياسية، كتلك التي يواجه فيها السياسيون الاعتقال، أو يساقون إلى الإعدام، أو يفشلون في الانتخابات، ويُصْرعون في المعترك السياسي. لكن بدا واضحا أن الممارسة السياسية المتقلبة، والنكسات المتلاحقة، توفر للجميع حيثيات كافية للبكاء، ليس أقلها اقتطاع جزء عزيز من أرض الوطن.
دموع الوحدة
كثيرة هي اللقاءات والحشود التي جيشت لدعم ترجيح خيار الوحدة في الاستفتاء المقبل في السودان، وكثيرة هي الدموع التي ذرفت من أجل ذلك. وسيظل الناس يذكرون كيف أن البروفيسور إبراهيم غندور، أمين العلاقات السياسية بالمؤتمر الوطني، قد مسح بمنديل ناصع البياض الدموع التي انسربت من عينيه على نحو مباغت أثناء حديث عاطفي له عن الوحدة أمام أعضاء اللجنة المركزية لاتحاد نقابات عمال السودان، الذي يرأسه، التي أعقبها إجهاش بالبكاء اقتسمه معه بعض أعضاء الاتحاد، فيما آثر آخرون أن ينخرطوا في موجة من التصفيق لقوة العبرات وصمت العبارات. الأمر الذي أثار الكثير من اللغط حول مبعث تلك الدموع المفاجئة، وانقسم الناس ساعتها في تكييفها، باختلاف الزوايا التي نظروا منها إلى وجه الرجل.
فهم إما متعاطفون معه ومعها بشدة، أو مشككون في صدقه وصدقيتها بغير تردد، وذلك انطلاقا من مواقفهم الكلية من فلسفة وسياسات حزب المؤتمر الوطني الحاكم.
’’
لو كانت دموع بروفيسور غندور بسبب الخوف من ضياع الوحدة دموعا متوقعة عند الكثيرين، فإن دموع نافع جاءت مفاجئة للكثيرين ممن كانوا يصفونه بأنه لم يكن صاحب مواقف متحمسة للوحدة
’’
إلا أن دموع د. نافع علي نافع، مساعد رئيس الجمهورية، التي فرت من تحت نظارته في ملتقى المرأة للسلام والوحدة، الذي نظمه الاتحاد العام للمرأة السودانية، بقاعة الصداقة بالخرطوم لم تكن خوفا على وحدة لن تكون فحسب، ولكن تفاعلا مع ما جاشت به صدور وأفواه سيدات جنوبيات قلن لا للانفصال وتلاحمن وتفاعلن مع إيقاعات أغنية ’’عشت يا سودان’’.
واعتبر د. نافع دعوة المرأة للوحدة دعوة صادقة، لأن الانفصال -حسب نافع- لا يدعو له من في جوفه ذرة من حب الوطن، وقال إن الدعوة للانفصال يجب ألا تؤسس على الخلاف الحزبي الشخصي، فالأحزاب والأفراد ذاهبون إلى زوال ولن يبقى غير الوطن.
فلو كانت دموع بروفيسور غندور بسبب الخوف من ضياع الوحدة دموعا متوقعة عند الكثيرين، فإن دموع نافع جاءت مفاجئة للكثيرين ممن كانوا يصفونه بأنه لم يكن صاحب مواقف متحمسة للوحدة. وما بين عدم الحماس للوحدة والميل للانفصال مسافة لم يعد قطعها يشفع للوحدة بغير الدموع.
دموع الانفصال
وفي الجانب الآخر من معادلة الدموع، وقف السياسي العنيد السيد باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية ووزير السلام في حكومة جنوب السودان، يتحدث أمام حشد من السياسيين لكنه أجهش بالبكاء، وبإخراج عفوي بالغ الإتقان، ودون ترتيب مسبق، أبكى آخرين من السياسيين الجنوبيين.
لقد انتحب باقان وأماط اللثام لدموع ثخينة وهو يتابع أداء فرقة موسيقية من جامعة جوبا تعزف لحنا جديدا لنشيد جديد، اعتمدته الحركة الشعبية كنشيد وطني لدولة الجنوب، التي لم يتبق لميلادها إلا أيام معدودات، حشدت له المشاعر والعواطف الجياشة، وعلقت عليه الآمال العراض، وربطت به التطلعات، رغم أن كلماته جاءت أقرب للمراثي المثقلة بصور الماضي الحزينة والجراحات النازفة، وخلا من كلمات الأمل، التي تشكل أيقونة للوئام الاجتماعي وتعايش الناس في الجنوب والشمال.
إذ يقول مقطع من النشيد ’’أيها المحاربون السود ... قفوا في صمت وإجلال لتحية ذكرى ملايين الموتى الذين قامت فوق دمائهم أساسات أمتنا’’. وقال باقان أموم عند إطلاق المسابقة إن هذا النشيد الوطني يعكس روح الجنوبيين ’’الذين لم يقبلوا أبدا الخنوع من دون مقاومة’’.
وقال أموم لدى مخاطبته الاحتفال باختيار النشيد الوطني لدولة الجنوب: ’’لم أتوقع هذه المواهب بعد خمسين عاما من القهر’’، وانخرط في نوبة بكاء شديد، وشاطره الحضور بموجات من البكاء الحار، الذي ذكر الحاضرين ببكاء القيادي الكبير بالحركة الشعبية السيد إدوارد لينو عندما جاء إلى الخرطوم لأول مرة بعد ما يزيد عن العشرين عاما من التمرد غابات جنوب السودان.
المشهد الأخير
’’
إجراء الاستفتاء من دون حل الكثير من القضايا الخلافية سيكون كارثة محققة، لأنه سيترك بؤرا قابلة للاشتعال في أي لحظة، بين طرفين تسلحا جيدا لمثل هذا الاحتمال، وقد تجر حرب جديدة بينهما أطرافا إقليمية أخرى
’’
قال الزعيم الراحل الدكتور جون قرنق، يوما ’’ليس هناك من سيقوم بتحرير الشعب السوداني غير الشعب السوداني نفسه.. هكذا نعتقد أن رؤيتنا علمية لأنها تقوم على حقائق علمية. فهي لا تستند إلى تهيؤات وتخيلات أو انتهازية، ولكنها ترتكز على الواقع وهذا هو الطريق إلى الأمام. يجب أن نقاتل من أجل وحدة بلادنا ويجب أن نغيّر الأوضاع جذريا في بلادنا. أنا واثق من أننا سنفعل ذلك، وأنا مصمم لأثبت لكم بأننا سننتصر’’.
فهل أضاعت الحركة الشعبية لتحرير السودان حلم قائدها، وخذلت تصميمه الداعي لوحدة البلاد وتمام سيادتها على كامل تراب أرضها؟ وقد يقول قائل إن الشريكين، في الحكومة السودانية، قد أضاعا الفرصة الأخيرة لإنقاذ هذه الوحدة، لأنهما لم يستثمرا السنوات الخمس الماضية، منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل في التاسع من يناير/كانون الثاني 2005، لجعل خيار هذه الوحدة جاذبا.
بل إنهما من خلال المشاكسات والمماحكات، جعلا الأمور تأخذ المنحى الذي سيجعل نتيجة الاستفتاء المقبل هي الانفصال. صحيح أن هناك ضغوطا خارجية الآن على الحكومة لكي يجري استفتاء تقرير المصير في موعده المقرر في التاسع من يناير/كانون الثاني المقبل، لكن هناك من يبرر أن هذه الضغوط هي محاولة لمنع الأمور من الانزلاق نحو الحرب، التي يلوح بها الجنوبيون إذا منعوا من الاستفتاء، وتلمح إليها الحكومة إن لم يتم حسم القضايا الخلافية، خصوصا في ما يتعلق بمنطقة أبيي، وترسيم الحدود، والنفط، والمياه، والديون الخارجية.
لذا، فإن إجراء الاستفتاء من دون حل هذه القضايا سيكون كارثة محققة، لأنه سيترك بؤرا قابلة للاشتعال في أية لحظة، بين طرفين تسلحا جيدا لمثل هذا الاحتمال، وقد تجر حرب جديدة بينهما أطرافا إقليمية أخرى، تذرف فيها دموع كثيرة من خارج الحدود، تضاف لدموع الداخل.
خاتمة المطاف
وتقديرا على ما تبدى في الفترة الأخيرة، وما لحظناه في أعين السياسيين في الشمال والجنوب، فإن دموعا كثيرة ستذرف عند غروب شمس اليوم التاسع من يناير/كانون الثاني 2011، الذي لم يبق بيننا وبينه أيام، سنحسبها قريبا جدا بالساعات، وصولا لصافرة النهاية.
’’
مأساة السودان هي تلك الدمعة التي تساوي نصف وطن يضيع، غير أن الفرصة الوحيدة لإبعاد شبح ذرف مزيد من الدموع هي في تركيز الجهود الداخلية والخارجية على إيجاد حلول للمشكلات المتبقية
’’
إذ ستعلن مفوضية استفتاء جنوب السودان النتيجة، التي لن ترضي جميع الأطراف، أيا كانت، لأن كل طرف ينتظر نتيجته التي هيأ لها مشاعره. ولو اتفقنا مع حتميات الأستاذ عادل الباز، رئيس تحرير صحيفة ’’الأحداث’’ السودانية، فإن الكثيرين من الساسة السودانيين سيبكون لا محالة، ما أسماه الباز بيوم ’’الفصل لأنه سيكون صعبا على السودان’’، لأن ذلك اليوم سيكون ’’يوم الوحدة، ليست وحدة الأرض أو الوطن، بل وحدة الدموع’’، التي سيذرفها ساسة الجنوب والشمال.
فهل سيبكي جميع السودانيين مع هؤلاء السياسيين عند التاسع من يناير/كانون الثاني2011، كما يقرر عادل الباز، الذي يصر على القول إن البكاء ليس هو المأساة، ولكن المأساة، حسب زعمه، ستكون في عدم إدراك السودانيين لـ’’كنه تلك الدموع، ومن أي ينابيع الأسى تدفقت، ومن أي زاوية من زوايا الخذلان هطلت، ولا أين هي تلك الأغوار البعيدة التي تقذف بحممها على مآقينا.. تلك هي المأساة’’.
والمأساة هي الدمعة تساوي نصف وطن يضيع. غير أن الفرصة الوحيدة لإبعاد شبح ذرف مزيد من الدموع هي في تركيز الجهود الداخلية والخارجية على إيجاد حلول للمشكلات المتبقية، قبل حلول لحظة الطلاق البائن.
*الجزيرة نت
الأحد12-12-2010م
قيمة الدموع
قسوة الدموع
دموع التاريخ
دموع الوحدة
دموع الانفصال
المشهد الأخير
خاتمة المطاف
تقترب في السودان لحظات التقسيم الفاجعة من ميقاتها المعلوم، وقد توزعت العواطف بين غارق في حب وحدة، ترملت يوم وضعها الطرفان أمام محاصصة الاختيار، وانفصال تتوارى معه أيام عدة الجنوب في عصمة الوحدة، ليحل تمام اقترانه باسم جديد، وعلم يرفرف على سارية دولة جديدة، تكون لها حدود وقيود تحصرها عن سعة السودان القديم.
وبدلا من سنوات عددناها وظننا أنها طويلة، يوم أن وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا بكينيا، في التاسع من يناير/كانون الثاني 2005، انتبه الجميع الآن لانصراف الأشهر المتبقية لاستفتاء تقرير المصير، ثم أصبحت أمامنا أيام ترحل مسرعة والحيرة تلجم الأفواه، كيف بلغنا لحظة الاختبار بهذه السرعة؟ وكيف تراجع الأمل في الوحدة بهذه الدرامية المحزنة؟ ولماذا صارت العبرات هي لغة التعبير عن الحال بدلا عن العبارات؟ وما الذي أطلق العنان لدموع الوحدة والانفصال لتنهمر بغزارة في اتجاهين مختلفين؟
قيمة الدموع
’’
السياسي هو ذلك الرجل الذي يبكي أمام الناخبين قبل الانتخابات، ويبكيهم بشدة بعدها، والسياسيون السودانيون يبكون الآن كثيرا الوحدة والانفصال، والاستفتاء على الأبواب، ولكن لا أحد يستطيع أن يحدثنا حول من سيبكون بعد الانفصال
’’
تذرف الدموع الغالية لمن، أو ما، يستحقها من الناس، أو الأحداث، إلا أن حالة الضعف التي يعيشها السياسيون في السودان تخذلهم فيدمعون، رغم مسحة القوة التي تكسو ملامحهم أحيانا. وقديما قيل الدمعة تذهب اللوعة، ولولا الدموع لتصدعت الأكباد. لهذا، فالشاعر يخفف عن نفسه دمعة خذلته وسقطت، فرع ثمنها حتى لا تضيع هدرا، قائلا: لا يَبْكِي عَلَى نَفْسِهِ حُرٌّ ... وَلَكِنَّ دَمْعِي فِي الْحَوَادِثِ غَالِ.
وقد قيل إن الذي يبكي هو السياسي الإنسان المرتبط بقضايا وطنه، وبمصائر من يعملون معه في معترك السياسة وميدان الهم العام. فعندما يفقد واحدا من الأهداف التي كان يسعى لتحقيقها، أو ينادي من أجلها، فإنه يبكي، أما السياسي الانتهازي، الذي لا يتعامل مع السياسة إلا بمفهوم الربح والخسارة، فإنه لا يقدر له أن يبكي، وإن بكى فلن تطاوعه الدموع.
لهذا، جاء في أحد التعريفات الساخرة، التي لا تخلو من شيء من المكر، أن السياسي هو ذلك الرجل الذي يبكي أمام الناخبين قبل الانتخابات، ويبكيهم بشدة بعدها. والسياسيون السودانيون يبكون الآن كثيرا الوحدة والانفصال، والاستفتاء على الأبواب. ولكن، لا أحد يستطيع أن يحدثنا حول من سيبكون بعد الانفصال.
قسوة الدموع
ومعروف أن الدموع تقسو كثيرا عندما تترقرق خجولة على العيون، وتنسل شفيعة على أهداب الرجال، أو عندما ترفرف تحت سحابة عاطفة غائمة تتخفى عن جلاء التفسير، أفرح طاغ هي أم حزن غائر يعتصر القلب برهبة اللحظة؟ وبغض النظر عن الحالة الوجدانية، التي تجتاح نفس الإنسان.
فالدموع في حالتي الأفراح والأتراح هي لآلئ ثمينة تتساقط من عين الإنسان عندما تجيش نفسه بخفقات لا يستطيع تداركها بغير فتح المآقي لتفيض دفق زلزلتها الموقوفة على عواطف الفرح، أو الحزن، وما بينهما من ندم وحسرة. إن الدمعة تترك أثرا لا ينمحي لأنها أجمل ما في الإنسان من مشاعر جياشة بالفرح والحزن، فعندما نفرح ليس لنا هدية نعبر بها أكبر من دمعة تبسم لها العين قبل الشفاه، وحين يتألم القلب لجرح نازف، فلا تغسله إلا دمعة تنزل من العين، وتترقرق على الخد كأنها تواسي صاحبها، وتقدم له بلسما شافيا لذلك الجرح وعلاجا مثبطا للنزيف.
والدمعة هي بالقطع دليل إنسانيتنا الذي لا يكذب. ورغم أن البكاء قد عُرف منذ فجر التاريخ وارتبط بمشاعر الإنسان، ولكن تبقى دموع السياسيين محملة بالكثير من العبارات والدلالات، التي غالبا تعبر عن وضع قلق مشوب بتناقض الاحتمالات.
فالانفعالات المؤلمة والعنيفة لا بد أن تظهر من خلال العينين، وهي دائما تكون أقوى من أي حوار تترجمه الكلمات، لأنها عبرات لا عبارات تنطق بنبضات القلب تجاه الموقف، وتظهر دمعات نقية على المآقي الباكية.
’’
أغرب ما يميز الوضع النفسي المتشابك والمعقد داخل الوسط السياسي السوداني هذه الأيام هو عدم وجود توافق بين المواقف والعواطف في نفوس الجميع، انفصاليين كانوا أم وحدويين
’’
وفي حال السودان الحاضر، فقد كثرت دفقات الدموع هذه الأيام، وتعددت حالات رؤيتها في مآقي الرجال، خاصة الذين اشتهروا بين الناس بالصلابة والجلد، إذ خلع بعضهم صلابته المعروفة لينفعل مع روح انفصال جديدة تغتال الفرح في نفوس الناس، ويحكون قصة بدمعة حرة، وهي على بساطتها، فإنها نابعة من حالة الاحتيار بالانهيار، لتصوغ احتجاجا صارخا ورثاء نبيلا، وتمثل رمزا شاخصا لمرحلة مضطربة في تاريخ البلاد السياسي والاجتماعي.
وأغرب ما يميز الوضع النفسي المتشابك والمعقد داخل الوسط السياسي السوداني هذه الأيام هو عدم وجود توافق بين المواقف والعواطف في نفوس الجميع، انفصاليين كانوا أم وحدويين.
دموع التاريخ
يترك بكاء السياسيين المتسق مع الموقف، خاصة إذا كان في شأن إنساني أو وطني، شعورا ايجابيا تجاه السياسي الباكي، فمفاهيم الجماهير تتغير بشأنه، وينظرون إليه كشخص مهموم ومرتبط بقضايا أهله ووطنه.
ولكن لأن الدموع تمت للسياسة بصلة قرابة واشجه، فقد ثبت أن الزعيم السوداني المعروف السيد عبد الرحمن المهدي قد تحدث يوم استقلال السودان بصوت متهدج تغمره العبارات الدامعة، رغم نه كان بليغا ومؤثرا ومتأثرا، فأجهش بالبكاء بصورة عاطفية، ونزلت دموعه غزيرة بغزارة الفرح الذي اجتاح وجدانه لحظة رفع العلم السوداني في الأول من يناير/كانون الثاني من العام 1956م على سارية القصر الجمهوري بالخرطوم، بعد كفاح طويل ضد المستعمر البريطاني، وترقب مضن ممض للحرية، التي طال انتظارها.
وقد سجل التاريخ هذه اللحظة النادرة من حياة السودان، إذ نزلت على أهداب عهد جديد، وطفرت فخورة بميلاد انتظره الناس طويلا، وأذن بعده داعي الاستقلال بخروج المستعمر من البلاد إلى غير رجعة. ومهما يكن من أمر، فإن البكاء في السياسة السودانية لم يرتبط بحالات الضيق الخاص، أو الهزيمة السياسية، كتلك التي يواجه فيها السياسيون الاعتقال، أو يساقون إلى الإعدام، أو يفشلون في الانتخابات، ويُصْرعون في المعترك السياسي. لكن بدا واضحا أن الممارسة السياسية المتقلبة، والنكسات المتلاحقة، توفر للجميع حيثيات كافية للبكاء، ليس أقلها اقتطاع جزء عزيز من أرض الوطن.
دموع الوحدة
كثيرة هي اللقاءات والحشود التي جيشت لدعم ترجيح خيار الوحدة في الاستفتاء المقبل في السودان، وكثيرة هي الدموع التي ذرفت من أجل ذلك. وسيظل الناس يذكرون كيف أن البروفيسور إبراهيم غندور، أمين العلاقات السياسية بالمؤتمر الوطني، قد مسح بمنديل ناصع البياض الدموع التي انسربت من عينيه على نحو مباغت أثناء حديث عاطفي له عن الوحدة أمام أعضاء اللجنة المركزية لاتحاد نقابات عمال السودان، الذي يرأسه، التي أعقبها إجهاش بالبكاء اقتسمه معه بعض أعضاء الاتحاد، فيما آثر آخرون أن ينخرطوا في موجة من التصفيق لقوة العبرات وصمت العبارات. الأمر الذي أثار الكثير من اللغط حول مبعث تلك الدموع المفاجئة، وانقسم الناس ساعتها في تكييفها، باختلاف الزوايا التي نظروا منها إلى وجه الرجل.
فهم إما متعاطفون معه ومعها بشدة، أو مشككون في صدقه وصدقيتها بغير تردد، وذلك انطلاقا من مواقفهم الكلية من فلسفة وسياسات حزب المؤتمر الوطني الحاكم.
’’
لو كانت دموع بروفيسور غندور بسبب الخوف من ضياع الوحدة دموعا متوقعة عند الكثيرين، فإن دموع نافع جاءت مفاجئة للكثيرين ممن كانوا يصفونه بأنه لم يكن صاحب مواقف متحمسة للوحدة
’’
إلا أن دموع د. نافع علي نافع، مساعد رئيس الجمهورية، التي فرت من تحت نظارته في ملتقى المرأة للسلام والوحدة، الذي نظمه الاتحاد العام للمرأة السودانية، بقاعة الصداقة بالخرطوم لم تكن خوفا على وحدة لن تكون فحسب، ولكن تفاعلا مع ما جاشت به صدور وأفواه سيدات جنوبيات قلن لا للانفصال وتلاحمن وتفاعلن مع إيقاعات أغنية ’’عشت يا سودان’’.
واعتبر د. نافع دعوة المرأة للوحدة دعوة صادقة، لأن الانفصال -حسب نافع- لا يدعو له من في جوفه ذرة من حب الوطن، وقال إن الدعوة للانفصال يجب ألا تؤسس على الخلاف الحزبي الشخصي، فالأحزاب والأفراد ذاهبون إلى زوال ولن يبقى غير الوطن.
فلو كانت دموع بروفيسور غندور بسبب الخوف من ضياع الوحدة دموعا متوقعة عند الكثيرين، فإن دموع نافع جاءت مفاجئة للكثيرين ممن كانوا يصفونه بأنه لم يكن صاحب مواقف متحمسة للوحدة. وما بين عدم الحماس للوحدة والميل للانفصال مسافة لم يعد قطعها يشفع للوحدة بغير الدموع.
دموع الانفصال
وفي الجانب الآخر من معادلة الدموع، وقف السياسي العنيد السيد باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية ووزير السلام في حكومة جنوب السودان، يتحدث أمام حشد من السياسيين لكنه أجهش بالبكاء، وبإخراج عفوي بالغ الإتقان، ودون ترتيب مسبق، أبكى آخرين من السياسيين الجنوبيين.
لقد انتحب باقان وأماط اللثام لدموع ثخينة وهو يتابع أداء فرقة موسيقية من جامعة جوبا تعزف لحنا جديدا لنشيد جديد، اعتمدته الحركة الشعبية كنشيد وطني لدولة الجنوب، التي لم يتبق لميلادها إلا أيام معدودات، حشدت له المشاعر والعواطف الجياشة، وعلقت عليه الآمال العراض، وربطت به التطلعات، رغم أن كلماته جاءت أقرب للمراثي المثقلة بصور الماضي الحزينة والجراحات النازفة، وخلا من كلمات الأمل، التي تشكل أيقونة للوئام الاجتماعي وتعايش الناس في الجنوب والشمال.
إذ يقول مقطع من النشيد ’’أيها المحاربون السود ... قفوا في صمت وإجلال لتحية ذكرى ملايين الموتى الذين قامت فوق دمائهم أساسات أمتنا’’. وقال باقان أموم عند إطلاق المسابقة إن هذا النشيد الوطني يعكس روح الجنوبيين ’’الذين لم يقبلوا أبدا الخنوع من دون مقاومة’’.
وقال أموم لدى مخاطبته الاحتفال باختيار النشيد الوطني لدولة الجنوب: ’’لم أتوقع هذه المواهب بعد خمسين عاما من القهر’’، وانخرط في نوبة بكاء شديد، وشاطره الحضور بموجات من البكاء الحار، الذي ذكر الحاضرين ببكاء القيادي الكبير بالحركة الشعبية السيد إدوارد لينو عندما جاء إلى الخرطوم لأول مرة بعد ما يزيد عن العشرين عاما من التمرد غابات جنوب السودان.
المشهد الأخير
’’
إجراء الاستفتاء من دون حل الكثير من القضايا الخلافية سيكون كارثة محققة، لأنه سيترك بؤرا قابلة للاشتعال في أي لحظة، بين طرفين تسلحا جيدا لمثل هذا الاحتمال، وقد تجر حرب جديدة بينهما أطرافا إقليمية أخرى
’’
قال الزعيم الراحل الدكتور جون قرنق، يوما ’’ليس هناك من سيقوم بتحرير الشعب السوداني غير الشعب السوداني نفسه.. هكذا نعتقد أن رؤيتنا علمية لأنها تقوم على حقائق علمية. فهي لا تستند إلى تهيؤات وتخيلات أو انتهازية، ولكنها ترتكز على الواقع وهذا هو الطريق إلى الأمام. يجب أن نقاتل من أجل وحدة بلادنا ويجب أن نغيّر الأوضاع جذريا في بلادنا. أنا واثق من أننا سنفعل ذلك، وأنا مصمم لأثبت لكم بأننا سننتصر’’.
فهل أضاعت الحركة الشعبية لتحرير السودان حلم قائدها، وخذلت تصميمه الداعي لوحدة البلاد وتمام سيادتها على كامل تراب أرضها؟ وقد يقول قائل إن الشريكين، في الحكومة السودانية، قد أضاعا الفرصة الأخيرة لإنقاذ هذه الوحدة، لأنهما لم يستثمرا السنوات الخمس الماضية، منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل في التاسع من يناير/كانون الثاني 2005، لجعل خيار هذه الوحدة جاذبا.
بل إنهما من خلال المشاكسات والمماحكات، جعلا الأمور تأخذ المنحى الذي سيجعل نتيجة الاستفتاء المقبل هي الانفصال. صحيح أن هناك ضغوطا خارجية الآن على الحكومة لكي يجري استفتاء تقرير المصير في موعده المقرر في التاسع من يناير/كانون الثاني المقبل، لكن هناك من يبرر أن هذه الضغوط هي محاولة لمنع الأمور من الانزلاق نحو الحرب، التي يلوح بها الجنوبيون إذا منعوا من الاستفتاء، وتلمح إليها الحكومة إن لم يتم حسم القضايا الخلافية، خصوصا في ما يتعلق بمنطقة أبيي، وترسيم الحدود، والنفط، والمياه، والديون الخارجية.
لذا، فإن إجراء الاستفتاء من دون حل هذه القضايا سيكون كارثة محققة، لأنه سيترك بؤرا قابلة للاشتعال في أية لحظة، بين طرفين تسلحا جيدا لمثل هذا الاحتمال، وقد تجر حرب جديدة بينهما أطرافا إقليمية أخرى، تذرف فيها دموع كثيرة من خارج الحدود، تضاف لدموع الداخل.
خاتمة المطاف
وتقديرا على ما تبدى في الفترة الأخيرة، وما لحظناه في أعين السياسيين في الشمال والجنوب، فإن دموعا كثيرة ستذرف عند غروب شمس اليوم التاسع من يناير/كانون الثاني 2011، الذي لم يبق بيننا وبينه أيام، سنحسبها قريبا جدا بالساعات، وصولا لصافرة النهاية.
’’
مأساة السودان هي تلك الدمعة التي تساوي نصف وطن يضيع، غير أن الفرصة الوحيدة لإبعاد شبح ذرف مزيد من الدموع هي في تركيز الجهود الداخلية والخارجية على إيجاد حلول للمشكلات المتبقية
’’
إذ ستعلن مفوضية استفتاء جنوب السودان النتيجة، التي لن ترضي جميع الأطراف، أيا كانت، لأن كل طرف ينتظر نتيجته التي هيأ لها مشاعره. ولو اتفقنا مع حتميات الأستاذ عادل الباز، رئيس تحرير صحيفة ’’الأحداث’’ السودانية، فإن الكثيرين من الساسة السودانيين سيبكون لا محالة، ما أسماه الباز بيوم ’’الفصل لأنه سيكون صعبا على السودان’’، لأن ذلك اليوم سيكون ’’يوم الوحدة، ليست وحدة الأرض أو الوطن، بل وحدة الدموع’’، التي سيذرفها ساسة الجنوب والشمال.
فهل سيبكي جميع السودانيين مع هؤلاء السياسيين عند التاسع من يناير/كانون الثاني2011، كما يقرر عادل الباز، الذي يصر على القول إن البكاء ليس هو المأساة، ولكن المأساة، حسب زعمه، ستكون في عدم إدراك السودانيين لـ’’كنه تلك الدموع، ومن أي ينابيع الأسى تدفقت، ومن أي زاوية من زوايا الخذلان هطلت، ولا أين هي تلك الأغوار البعيدة التي تقذف بحممها على مآقينا.. تلك هي المأساة’’.
والمأساة هي الدمعة تساوي نصف وطن يضيع. غير أن الفرصة الوحيدة لإبعاد شبح ذرف مزيد من الدموع هي في تركيز الجهود الداخلية والخارجية على إيجاد حلول للمشكلات المتبقية، قبل حلول لحظة الطلاق البائن.
*الجزيرة نت