راكمت الصهيونية أساليب خداعها على أساس من مؤشر ديني تتخذه بوصلة لقياس مد وجزر الانتماء لوطن لا زالت تجهد لاصطناعه، حيث ميّز الإلحاد الحركة الصهيونية مُذ كانت فكرة في رأس روادها الأوائل، لتنزلق بعدها إلى صيغة علمانية تلم شمل العمال واليسار الإسرائيلي مع أول كيبوتس في فلسطين، ومن ثم ومع تأسيس دولة إسرائيل، رأت أن تغير من صبغتها إلى صهيونية قومية متدينة، ما سهل عملية ابتلاعها مؤخراً من قبل التيار الديني المتطرف (الأصولية الحديثة) وفق نهج تلاقى من خلاله العنصريون اليهود في تطوير أساليبهم الخداعية وأنتجوا ما بات معروفاً الآن بالحركة الصهيونية الجديدة؛ وهو ما ُيظهر مقدار التأثير البين للخطاب الديني اليهودي في الحياة السياسة العامة على اختلاف مشارب قادة إسرائيل ومن أي تيار سياسي أتوا.
يأتي هذا ضمن وصفة أجادت الصهيونية الجديدة ابتداعها للقفز فوق الهوية التاريخية الغير منجزة حتى الآن (والتي لن تتملكها يوماً لخطورة ما تمثله الأصوليات الدينية في الأساس على مجتمعاتها) إلى الهوية السياسية الإجرائية والتي لن يتم تملكها إلا بإتمام تهويد الدولة- الكيان والاعتراف بإسرائيل دولة يهودية خالصة.
إن توسط الدين السياسي (تسييس الدين) في صناعة قومية يهودية نقية (غير موجودة بالأساس) يدخل في باب المعارف الدينية عند حاخاماتهم وذلك في نسبيتها ومتغير قيمها (تحريفها) حسب مقتضى الحال الوجودي اليهودي في يهودا، وهي قابلة للاشتداد كلما لمس المتشددون انحسار قيمة الديني في خلق رابط إلى دولة ينقصها ’’هيكل الحضارات القديمة’’ مهما ادعت نسبتها لشعب ما قبل السبي البابلي.
إذ أن الدولة اليهودية التي يسعون إليها اليوم لجمع يهود الشتات بين جنباتها، هي بأمس الحاجة إلى رغبة عمياء تنوس بين شدة العنصرية التوراتية وجذب التطرف الديني مع تأريخ سياسي للدين في انفلاته من أرومته؛ بما يمثله من أيديولوجيا لا بأس بها لتنظيم سياسي يؤدي الغرض منه.
ان الصهيونية الجديدة في حيثيات توليفتها تُعاكس التبريرية من الدين والتي تمليها مصالح إيمانية بحتة، من أجل استمرار الإنسان الصالح والسعيد؛ ويهودية اليوم أشبه بتلك الجديلة من الحمض النووي وهي ترخى لتلتف حول جديلة فيروسية تنتج في طفرتها ورماً خبيثاً.
وفي الإشارة الى ملمحين اثنين أخذا يميزان المجتمع الإسرائيلي نلمس مقدار ما أصاب هذا المجتمع من عسف الديني في جدليتة مع السياسي.
الأول من خلال تناقص أعداد اليهود العلمانيين والمؤمنين بمفاهيم ليبرالية متحررة عن طريق اعتزالهم العمل في الحياة السياسية أو هجرتهم وأسرهم خارج إسرائيل، وهو ما أفضى إلى واقع ديمغرافي جديد أخلى الساحة لليمين الديني المتطرف والذي في فكره الأصولي يعتبر المستوطنات قلاعاً أيديولوجية لليهودية، ما أفز واقعاً بشرياً جديداً تمثل بازدياد أعداد المستوطنين في الضفة الغربية منذ ما بعد أوسلو إلى الآن.
والملمح الثاني يتمثل بازدياد أعداد المتدينين في قطاعات الجيش الإسرائيلي كافة وهو ما بدا واضحاً أثناء عملية رصاص مسكوب على قطاع غزة حيث ساهمت وحدة ’’الوعي اليهودي’’ الدينية في توجيه الجنود الإسرائيليين إلى عدم الرأفة بأعدائهم، وفي تصريح صدر مؤخراً عن الجنرال أفيشاي رونسكي بأن تقرير جولدستون لن يقلم مخالب إسرائيل ويدفع بالجندي الإسرائيلي إلى إبداء الرحمة بالعدو الذي لا يستحقها؛ خير دليل.
فاقها تطرفاً فتوى الحاخام غينسبرغ في صحيفة ’’الأسبوع اليهودية’’ والتي تصدر في نيويورك حيث كتب ’’إذا كان هنالك يهودي يحتاج إلى كبد فهل يمكنك أن تأخذ كبد شخص آخر غير يهودي يمر بالصدفة من أجل إنقاذه؟ إن التوراة تجيز لك ذلك’’ والتي أتت في تبرير أعمال المتاجرة بالأعضاء المنتزعة من الشهداء الفلسطينيين.
أمام هذا الكم من التطرف الديني المبهر والذي لا يخفى على عاقل، تروج فكرة ’’افراغ العقلية العدوانية لدى العرب’’ والتي يعمل عليها اليمين الأميركي المتطرف هذه المرة، ضمن خداع ’’السلام الإيجابي’’ والذي يقول ’’أن من السابق لأوانه تحرك الدبلوماسية التي تهدف لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي’’ حيث تبرز الحروب وضرورتها لاستئناف مباحثات السلام وفق الأجندة التي تضمن أمن الكيان اليهودي في إسرائيل. وصولاً إلى شكل من أشكال السلام الذي يروق لها. وهو تنسيق يدخل وفق رؤى توراتية لا تزال فصولها تترى فيما يبدو.
يظهر من كل ما سبق، أن الحل العادل والشامل ضرب من خيال يزجيه العقل العربي، في إبداء حسن نية لا ُتصرف في دنيا السياسة ولا تحصل حقاً، حتى بات العرب يساهمون قدر الإسرائيلي في تكسرات المسار التفاوضي بشأن عملية السلام وان كان عن طيب خاطر، يقابله من الجانب الإسرائيلي تعنت ملموس ومشفوع دائماً بلاحقة ’’المفاوضات دون شروط مسبقة’’ مما يسقط وبعد عقدين من الزمن، الكثير من معاني القيمة المضافة والمقاربة المنظمة لقضية السلام في الشرق الأوسط، ليبرز وبصورة فجة الانحياز الغربي الكامل للجانب الإسرائيلي ضمن سياسات تحول دون رسم نهج ملزم لكلا الطرفين من خلال الإهمال المتعمد لقرارات الشرعية الدولية ذات الشأن لحل الصراع؛ هذا مهما تفوق الحق العربي أخلاقياً، وبالذات القضية الفلسطينية وبشكل لافت في الرأي العام الغربي، منذ حصار غزة والحرب عليها، ومع سبق بوستروم الصحفي وتقرير غولدستون.
*التجديد العربي