القيم الأخلاقية والصورة الفنية في القصيدة الجاهلية.. مقاربة ومقارنة
-
د. سعد الساعدي
قصيدة لعمرو بن الأهتم المِنقري في قراءة تجديدية
لم يعد الاهتمام النقدي بالقصيدة العمودية يشغل تلك المساحة التي تشغلها القصيدة النثرية المعاصرة، أو ما اسميناها القصيدة التجديدية حسب رؤية مدرسة التحليل والارتقاء النقدية الجديدة المنبثقة من نظريتها، في حين أن النظرية تنطلق لتحليل أي انبعاث انساني أنتجه مُنتج سواء بلغ من الحداثة المستوى المطلوب أو كان من الماضي استناداً الى سعة اللغة العربية التي تتسع مساحاتها ولا تضيق أبداً على اعتبار الماضي وما وصلنا من التراث هو الأساس الأول وليس الدخيل الهجين الذي ينبغي تركه والابتعاد عنه في ظل سرعة دعوات العولمة، أو الكتابة بلغة عبثية هي الهجين الحقيقي الداخل عبر اللغة الى الأدب العربي.
من هذه المقدمة نؤسس لقراءة موجزة في قصيدة للشاعر المخضرم عمرو بن الأهتم لا تحمل عنواناً حالها حال كل القصائد القديمة لكن مطلعها يبدأ بـ " أَلاَ طَرَقَتْ أَسْماءُ وَهْـيَ طَـرُوقُ" وعرفت بهذا الاسم لاحقاً ليتناولها كثيرون حسب وجهة نظر خاصة بهم. هنا ندرس القصيدة بعيداً عن حياة الشاعر وعن معاني الكلمات التفسيرية حسبما ترى نظرية التحليل التجديدية. كل ما مطلوب معرفته عن الشاعر وسيرته موجود في مضانه الخاصة ما يعني أننا لا نأتي بجديد في الإعادة والتكرار. ننقل النص ونبدأ معاينته كي تتضح المعاني بشكل جليِّ:
النص
أَلاَ طَرَقَتْ أَسْماءُ وَهْـيَ طَـرُوقُ ... وبانَتْ على أَنَّ الـخَـيالَ يَشُـوقُ
بِحاجَةِ مَـحْـزُونٍ كـأَنَّ فـؤادَهُ ... جَنــــاحٌ وَهَى عَظْماهُ فَهْوَ خَفُـوقُ
وهانَ على أَسماءَ أَنْ شَطَّتِ النَّوَى ... يَحِـنُّ الـيهـا وَالِــهٌ ويَتُــوقُ
ذَرينِي فإِنَّ البُـخْـلَ يَا أُمَّ هَـيثْـمٍ ... لِصَالِــحِ أَخلاقِ الرِّجـالِ سَـرُوقُ
ذَرينِي وحُطِّي في هَوَاي فإِنَّـنِـي.. علي الحَسَبِ الزَّاكِي الرَّفِيعِ شَفِيقُ
وإِنِّي كريمٌ ذُو عِيـالٍ تـهِـمُّـنِـي ... نَــوَائِبُ يَغْشَى رُزْؤُها وحُـقُـــوقُ
ومُسْتنْبِحٍ بعدَ الـهُـدُوءِ دَعْـوَتُـهُ... وقد حانَ من نَجْم الشِّتاءِ خُفُـوقُ
يُعالِـجُ عِرْنيناً مـنَ الـلَّـيلِ بـارداً... تَلُـفُّ رِيــاحٌ ثَـوْبَـهُ وبُــــرُوقُ
تَأَلَّقُ في عَيْنٍ منَ الـمُـزْنِ وادِقٍ... هَيْدَبٌ دَانِي السَّحَـابِ دَفُـوقُ
أَضَفْتُ فلم أُفْحِشْ عليهِ ولـم أَقُـلْ... لأِحْرِمَهُ: إِنَّ المكـانَ مَـضِـيقُ
فَقلْتُ لهُ: أَهلاً وسهلاً ومَرحـبـاً... فهذا صَبُـوحٌ راهِـنٌ وصَـدِيقُ
وقُمتُ إِلى البَرْكِ الهَواجِدِ فاتَّقَـتْ... مقاحِيدُ كُومٌ كالـمَـجَـادِلِ رُوقُ
بأَدْماءَ مِرْباعِ النِّـتـاجِ كـأَنَّـهـا ... إِذَا عَرَضَتْ دُونَ العِشارِ فَـنِـيقِ
بِضَرْبةِ ساقٍ أَو بِـنَـجْـلاَءَ ثَـرَّةٍ ... لهَا مِن أَمـامِ المَنْكَـبَـيْنِ فَـتِـيقُ
وقامَ إِليها الـجَـازِرَانِ فـأَوْفَـدَا ... يُطِيرَانِ عَنها الجِلْدَ وَهْيَ تَفْـوقُ
فَجُرَّ إِلينا ضَرْعُها وسَـنَـامُـهـا ... وأَزْهَرُ يَحْبُو لِـلــقـيامِ عَـتِـيــقُ
بَقِيرٌ جَلاَ بالسَّيفِ عنـهُ غِـشَـاءَهُ... أَخٌ بإِخاءِ الصَّـالِـحِـينَ رَفـيقُ
فَباتَ لَنَا منها وللِضَّيْفِ مَـوْهِـنـا... شِوَاءٌ سَمِينٌ زَاهِـقٌ وغَـبـوقُ
وبَاتَ لهُ دُونَ الصَّبَا وهْـيَ قَـرَّةٌ... لِحَافٌ ومَصْقُولُ الكِسَـاءِ رَقِـيقُ
وكلُّ كَرِيم يَتَّقِي الذَّمَّ بـالـقِـرَى... ولِلخَيْرِ بينَ الصّـالحـينَ طَـريـــقُ
لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْـلِـهَـا... ولكــنَّ أَخلاقَ الرِّجـــالِ تَـضـيـقُ
نَمَتْنِي عُرُوقٌ من زُرَارَةَ لِلْعُـلَـى... ومنْ فَـدَكِـيٍّ والأَشَـــدِّ عُــرُوقُ
مكارِمُ يَجْعَلْنَ الفَتَـى فـي أَرومَةٍ... يَفَاعٍ، وبعضُ الـوالِـدِينَ دَقِـيقُ
نحاول الولوج من مدخل أول في التعريف بماهية النص من مرتكزات نسير عليها باختصار رغم الكثير من بعض المعاني الغامضة التي لا نتركها دون تعريفها بشكل يتسق مع التحليل:
أولاً: تناغم اللغة وتشكيل الصورة
إنَّ وعي أهمية دور اللغة المفهومة كعامل متفاعل مع بقية العوامل المساعدة الأخرى، وليست اصداراً لسانياً أو دلالة رمزية حركية فقط، ومعرفة أيضاً أنَّ اللغة هي وسيلة تبادلية اتصالية لمشاعر عامة تحيط وتغلف جو الاتصال العام المواجهي المحدود، أو الجماهيري الواسع بصياغات متعددة برزت في الوقت الحاضر كبيانات تجديدية انتقلت بالأدب التجديدي الى السمو والرفعة والمكانة العالية، بين التعبير والتفاهم، ورسم الصور الحية اليومية المتجددة بكل أشكالها؛ المحزنة والمفرحة، الساخرة أو الناقدة، للحالات والظواهر البشرية على جميع المستويات والأصعدة وأهمها المعرفية في حين نجد الشاعر الجاهلي ومن تلاه متأقلماً من الأساس في تطويع اللغة بسلاسة لأنه أبن اللغة والفصاحة البلاغية وهو ما نراه لدى شاعرنا بن الأهتم ، ومثل السياق المتعارف عليه في نظم القصائد العمودية القديمة يكون المدخل الأول من التشبيب والغزل ليتدرج من ثمَّ للوصف والشيء الذي يريده (رسالته الاتصالية) التي وصلتنا عبر الاجيال وستستمر بالسريان وهو ما يمكن معرفته من بؤرة النص، وهذا أحد الأدلة التي أثبتتها النظرية التجديدية بأن المؤلف لا يموت.
البؤرة في قصيدة الشاعر انطلقت من قيمة أخلاقية عليا عرف بها العرب وهي الكرم، ومع هذا هناك بؤر متناثرة كثيرة في هذا النص من تجميعها تتولد دلالات كثيرة تضفي على الشاعر ونصه هالة من الاحترام الذي به تستحق مثل هكذا نصوص الوقوف عندها. بؤرة واضحة ترسم صورة فنية هي دعوة للآخرين في الحقيقة وظفها ابن الأهتم: " ذَرينِي فإِنَّ البُـخْـلَ يَا أُمَّ هَـيثْـمٍ ... لِصَالِــحِ أَخلاقِ الرِّجـالِ سَـرُوقُ".. البخل يسرق أخلاق الرجال. صورة أخرى تعاكس ذلك: " فَقلْتُ لهُ: أَهلاً وسهلاً ومَرحـبـاً... فهذا صَبُـوحٌ راهِـنٌ وصَـدِيقُ".. لكنه عرف واشتهر بهذا البيت من نفس القصيدة: " لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْـلِـهَـا... ولكــنَّ أَخلاقَ الرِّجـــالِ تَـضـيـقُ".
إنَّ جزالة لغة الشعراء الجاهليين والمخضرمين، واللاحقين بعد ذلك؛ بمعانيها الكثيفة الى أنْ ظهرت اللهجات العامية وانحسار اللغة الفصيحة لا يمكن تقييمها بدقة من قبلنا كنقاد بقدر دراسة بياناتها ودلالاتها التي كتب بها الشعراء بالخصوص؛ نحن ننهل من تلك العيون الصافية التي لولا القران وما وصل من أشعار الشعراء ربما لا نعرف ما العربية الأصيلة اليوم.
شاعرنا من بيئته ولغته وصف الأبل بكثير من أشكالها وأنواعها (البَرْكِ، المقاحيد، والكوم، المجادل، الأدماء، العشار، الفنيق، الأزهر، الزاهق) فكل أسم من هذه الأسماء له معنىً يفسره، وصفة تعود اليه؛ ليس من الصعوبة معرفتها بعد البحث عنها في معاجم اللغة. لكنه ماذا أراد من كل ذلك؟
أراد الشاعر تأكيد حقيقة نفسه الكريمة وما بذله للضيف في تلك الليلة الشتائية الباردة، لكن هل هي كل الحقيقة؟ التفاخر جزء مهم من حياة الشاعر الجاهلي لكنها أيضاً رسالة جديدة عبر الأجيال ربما لم يلتفت اليها البعض أو أكثر من البعض توضح من هو الأنسان العربي بعيداً لنا عن التعصب والقومية أو الشوفينية المقيتة؛ لكن المؤسف حين نرى تخندق كثير من المثقفين العرب في خانة التغريب والغرب بعيداً عن واقعهم الذي يعُدُّونه متخاذلاً بالياً بسبب السياسات الخاطئة لبعض الحكام إن لم نقل غالبيتهم!
من تناغم اللغة استطاع الشاعر خلق صورة فنية بمعانٍ متعددة أضفت صفة الجمالية الحقيقة على النص رغم بعده الزمني المنبثق من الصحراء الجرداء التي لا فيها شلالات ولا حدائق غناء كشعراء الأندلس مثلاً، أو شعراء اليوم وهم في كل مرتع يرتعون بين جمال الطبيعة والحضارة التكنولوجية مع ما رافق ذلك من محن وويلات ومعاناة يقاسيها الشاعر العربي على طول الخط باستثناء الحالمين منهم والغارقين بملذات الوهم والعبث.
ثانياً: الإشتغالية الحكائية في النص الشعري
في قصيدة الشاعر عمرو بن الأهتم هناك قصة مضمرة تقفز منها بعض الإشارات على السطح وتعود تختفي من جديد لم تكن فيها القصدية واضحة لكنها قابلة للتحليل والفهم غير المستعصي لخلوها من الترميز المُتعًمَّد خلافاً للقصيدة التجديدية المليئة بالرمزية؛ والرمزية الغارقة بالمعاني أحياناً بلغة يمكن وصفها لغة فوقية تخاطب النخبة فقط، أو عبثية سوريالية يفقد معها المتلقي بسيط الثقافة متعته الباحث عنها وهو يقرأ؛ وبذا لا نظلم أحداً إذا قلنا أن الرسالة الاتصالية وصلت الى حالة الفشل طالما هي ليست رسالة عامة. الشاعر القديم إن صح التعبير كانت رسالته يخاطب بها المجتمع ككل وليست لمجوعة أفراد؛ لذا لا يحتاج الرمزيات كي تبطن عمله؛ بينما بعض الشعراء التجديديين إذا انصفناهم بموضوعية نعذرهم باستخدام الرمز حفاظاً على حياتهم من البطش بهم طالما يسعون في نقد الظواهر والحالات السلبية وما تعانيه الجماهير من ظلم واستبداد، وبخلاف ذلك لن تكون القصائد إلاّ صورة لفوضى كتابية. من هذا لا تتضح معالم الكثير من القصائد التجديدية مع ما تحمله أيضاً الكثير منها من قصص وقضايا لها غايات وأهداف تطغى عليها الانزياحات والتوريات والرموز والكنايات إلاّ القليل منها. الصفة الرمزية في القصيدة القديمة اليوم للمتلقي هي الكلمات غير المفهومة عن الديار والاطلال والسيف والإبل وصفات الفخر والمباهاة والشجاعة وغيرها لكنها في حقيقتها ليست رمزيات بل هي تصوُّر منَّا حين ابتعدنا عن مصادر لغتنا واستسهلنا ما نراه جديداً عندما لاحظنا أنَّ القصيدة العمودية في تراجع مستمر وقلة من يكتبون بها.. لماذا؟ السبب أنَّ الكثير من شعراء اليوم السائرين مع الخليل بن أحمد الفراهيدي وبحوره لا يحاولون تطوير أنفسهم مثلما طور نفسه الشاعر القديم من الجاهلية الى وقت ليس ببعيد حين مرت القصيدة بعصور زمنية مختلفة وظف بها الشاعر ما يعيشه في الواقع ولم تبقَ الإبل والاطلال هاجسه الأول. إنَّ القصة التي أوردها الشاعر بقصيدته باختصار كالتالي: حبيبة مغادرة عنه.. ضيف غريب يبحث عن من يضيفه في ليلة شتائية باردة.. استضافه الشاعر وذبح له أفضل النياق وأشعره بأنه ضيف عزيز مرحب به، ومن استضافه هو من الكرماء.
عند تعرّضنا للشاعر عمرو بن الأهتم درسناه وهو في واقعه القديم، في تلك الظروف التي عاصر بها زمنين مختلفين؛ الجاهلية والاسلام؛ فما ينطبق هناك لا ينطبق هنا لأننا لا نجد بعد من يصف الإبل ربما قط في العصر الحديث؛ في حين نلاحظ الصورة التي وصف بها الشاعر تنوعت وتعددت معانيها مع أنها تصف حيواناً ليس إلاّ:
"وقُمتُ إِلى البَرْكِ الهَواجِدِ فاتَّقَـتْ... مقاحِيدُ كُومٌ كالـمَـجَـادِلِ رُوقُ
بأَدْماءَ مِرْباعِ النِّـتـاجِ كـأَنَّـهـا ... إِذَا عَرَضَتْ دُونَ العِشارِ فَـنِـيقِ
بِضَرْبةِ ساقٍ أَو بِـنَـجْـلاَءَ ثَـرَّةٍ ... لهَا مِن أَمـامِ المَنْكَـبَـيْنِ فَـتِـيقُ
وقامَ إِليها الـجَـازِرَانِ فـأَوْفَـدَا ... يُطِيرَانِ عَنها الجِلْدَ وَهْيَ تَفْـوقُ
فَجُرَّ إِلينا ضَرْعُها وسَـنَـامُـهـا ... وأَزْهَرُ يَحْبُو لِـلــقـيامِ عَـتِـيــقُ
بَقِيرٌ جَلاَ بالسَّيفِ عنـهُ غِـشَـاءَهُ... أَخٌ بإِخاءِ الصَّـالِـحِـينَ رَفـيقُ
فَباتَ لَنَا منها وللِضَّيْفِ مَـوْهِـنـا... شِوَاءٌ سَمِينٌ زَاهِـقٌ وغَـبـوقُ"
ثالثاً: الإشتغالية التكوينية
في تناولنا لهذا النص نجد أنَّ الشاعر اعتمد بالدرجة الاساس على إيحاء نفسي نابع من دواخله؛ رسم به قصيدته وأخرجها بشكلها النهائي لتصل الى حيث يبغي كجزء من أهدافه المؤقتة أو المستمرة التي ربما لا نعرفها، وبعيدة المدى؛ اعتماداً على فلسفته الحياتية، وبتخطيط متقن لأنه متمكن من أدواته ولغته البلاغية، وإلاّ لا يمكن اطلاق صفة الشاعر عليه ودراسته بهذا المستوى من قبل غيرنا أيضاً لأنه بوضوح عرف كيف يقول قصيدته بكل دلالاتها حتى وإنْ وجدنا صعوبة في فهم بعض أجزائها أول الأمر كقراء لاسيما ونحن نعيش واقعاً متغيراً باستمرار، وضمن مجالات دقيقة، وقد تكون حرجة في ظل عصر ازدهرت فيه وسائل الاتصال والمنتجات الحضارية المبهرة في هذا المجال الدقيق والشائك الى أبعد الحدود؛ للدخول الى عوالم النفسية الانسانية بكل يسر تلافياً لتداخلات كثيرة؛ لأنَّ كل هذه التداخلات هي واجبات ملقاة على الناقد التجديدي وليس السائر ضمن المسلك القديم؛ فالأول يعيش الواقعة بواقعية البصير، بينما الثاني يراها من بعيد ويرسم ظلالها بعيداً عن الاستماع لنبضات القلب الداخلية، ولن تكون الرؤية واضحة مهما تعددت وتنوعت اسلوبية الناقد الكلامية بفلسفتها أو وصفها؛ لأنها محاطة بضبابية منشدّة للقديم، وأي شيء قديم هو المعيار الدقيق للحقيقة حسب وجهة النظر تلك؛ هذا العائق جعل من بعض النقاد التجديدين يبتعدون عند دراسة شاعر مثل عمرو بن الأيهم كي لا يوقعوا أنفسهم بمطبات لا يخرجون منها بغير تفسير الكلمة بمعناها وسيرة حياة الشاعر وألقابه ونسبه التي سندرجها نهاية البحث حسب ما وردت في مصادرها للتعريف فحسب.
لم ينسلخ الشاعر تماماً عن نزعته الانسانية وايديولوجيته الشخصية انحيازاً كليّا متستراً على خفايا واسرار يعرفها، بل انطلق من الواقع بواقعية توحي أبيات القصيدة بصدقها، إلاّ أننا لم نعرف يقيناً هل القصيدة واقعية حقيقية أم مجرد صناعة خيالية لبعدها الزمني الطويل عنَّا؛ لكن الحقيقة التي نعرفها عن صفات العربي الأصيل هي هذه، والشاعر العربي القديم كثيراً ما يتفاخر بتلك الصفات رفعاً من شأنه وقبيلته، واحياناً نكاية بأعدائه في كشف الحقائق أمام المجتمع القبلي برمته وتعرية مواقع الفساد والظلم أحياناً أخرى، واللصوصية المتخندقة بين طيات انعدام العدل وضياع الحقوق، وهو بذلك يعمل كأعلامي صادق يبعث قصصاً اخبارية واقعية بعيداً سلطة أية قوة يخشاها، ويعطي للشعر غرضه الذي من أجله بنى الشاعر قصيدته وأظهرها للعلن كما نرى عند الكثير من الشعراء التجديديين اليوم.
حين نقرأ قصيدة الشاعر مرة ثانية نجده كتبها في عدة أغراض شعريّة باستثناء الرثاء؛ نلتمس فيها صدق الحزن ووصف الحالة، وحتى الغزل لا يخلو من ذلك، اضافة للأغراض الأخرى بشكل واضح مفهوم، أما اليوم فنجد النص الشعري التجديدي يحمل بين طياته البوح النابع من روح الشاعر لمجتمع يحتضر، اضافة لما يصاحب الكثير من قصائد الغزل من حزن عميق.
أيضاً وفق نظريتنا "التحليل والارتقاء" نقول: إنَّه من الصعوبة جداً معرفة الحقيقة بشكلها الكامل دون تحليل المضمون وليس البنية، ولكن كحقيقة ليست مطلقة؛ بل هي استقراء لجوهر النص عبر البناء والمضمون واللغة والصورة الجمالية المنبعثة ودلالات المعاني كما وجدناها في نص الشاعر عمرو الأهتم. ونرى هنا أنْ لا إضاعة للقيم النقدية الحقيقية التي لا يختلف عليها اثنان بأنها قيم ابداعية مؤثرة بمعطياتها ومداليلها في عموم الثقافة الانسانية، وحتى في تأثيرها على النفس الانسانية؛ حين تشغل مساحة جديدة للإمتاع والتنوير سواء تناولت القدماء أو المعاصرين بعيداً في متاهات الأشياء التي تحسب كلَّ الماضي القديم ولَّى واندثر لاسيما الشعر العربي بكافة عصوره الماضية قبل مسميات الحداثة وغيرها.
الناقد عامل متجدد في كل الأزمة والظروف، وحسب طبيعة كل مرحلة هو المؤثر المعاضد للمبدع في كل المجالات وليس القابض على أنفاسه لأنه سيضيف أبدعاً لاحقاً تحتاجه مرحلته. ونؤكد أيضاً أنَّ النقد سيتحول الى (لا نقد) اذا انتشرت فيروسات تلك الفوضى النقدية لاسيما في المحاولة من منع أي سؤال عن النص وحقيقته وتاريخه وقائله والدوافع المصاحبة لذلك كما رأينا في قصيدة " أَلاَ طَرَقَتْ أَسْماءُ وَهْـيَ طَـرُوقُ" للشاعر عمرو بن الأهتم.
رابعاً: دلالة المفردة المتميزة كبؤرة في النص
كمقارنة بين زمنين لشاعرين مختلفين مثلاً؛ واحد من العصر الجاهلي وآخر من عصر المرحلة التجديدية نجد مفردتين تتسم بهما نصوصهما كل على انفراد. الشاعر الجاهلي يتطرق كثيراً لذِكْر "الإبل"، والشاعر المعاصر يذكر "الخبز". فحين تأتي مفردة (الخبز) مثلاً سيُعرف منها أنَّ هناك جوع؛ مثل حياة شارفت على الموت لكنها تتنفس قبل خروج الروح، أو الحرمان الراغب بأمل الحصول على رغيف الخبز ككرامة مفقودة. وهذا ما نجده كثيراً في القصائد النثرية التجديدية؛ فمن يفهم النص بصورته الأولى كفهم أن (الخبز هو طعام مصنوع من الدقيق) يوقع نفسه في وهم لا مناص من الخلاص منه، لأن الدلالة ليست بهذا الفهم، وليست بالأمر المستعصي أيضاً، بينما فهم المعنى بالصورة الثانية هو دلالة وضوح الرسالة المراد ايصالها من قبل الشاعر بكل تداعياتها وتحدياتها، وحين يذكر الشاعر القديم الناقة والإبل ويصفها بصور شتى حتى باتت هناك الكثير من الأسماء للإبل في القاموس اللغوي والقاموس الشعري للشعراء لأنها وسيلة نقلهم وغذائهم كما لو أنها جزء من أفراد العائلة لكن حلال ذبحها وأكل لحومها. ماذا يعني ذلك لكلا الشاعرين المختلفين؟ يعني باختصار تداول وانتقال المعنى بحركة اللغة المكتوبة هنا أو هناك كإجراءٍ لازمٍ مشتق من ظروف كثيرة مجتمعة لابد أن تصل للقارئ أو المستمع تفاعلياً إرادياً موحداً غير متنافر ولا بعيد المنال. قد يجد صعوبة ربما الناقد التجديدي وهو يحاول الدخول في هذا المدخل طالما يعتمد على النصوص التجديدية فقط، لكن التجربة المتكررة، والمران المستمر في معرفة ماهيّة التداول الخطابي لمجموعة معانٍ مسترسَلة هي من تعزز لاحقاً القدرة النقدية، والوقوف على ما جاءت به النصوص القديمة والتجديدية المعاصرة.
هذه الدلالة يمكن تسميها "توليف المعنى المشتق" طالما ينحى الناقد بها الى كشف المعاني الجديدة سواء في النص التجديدي أو القديم، أو أي انبعاث ابداعي، وخلق ترابط متقن تُجْمله الدلالات. نؤكد على صورة الابداع دائماً لأنها الشاملة، وهي فقط ما يسعى اليها المتلقي؛ كون المنتجات كلها تؤول اليه أكثر من غيره، اضافة للصورة المشرقة لصاحب المُنتَج في سعيه الدؤوب لخلق الابداع ليبقى إرثه الحقيقي، والإرث اللاحق للإنسانية؛ وبالتأكيد لم يعرف الشاعر الجاهلي ذلك مثلما يسعى اليه الشاعر (الباعث) المعاصر اليوم وهو يسجل تاريخاً مكتوباً له عكس ما كان التاريخ مشافهة فيما مضى.
من بين اللغة والمضمون يمكن للناقد اكتشاف مكنونات ما تجسده الصورة الشعرية في قصيدة عمرو بن الأهتم، وحتى من مستويات التشبيهات والكنايات والانزياحات الكثيرة المرافقة حديثاً للقصيدة التجديدية (قصيدة النثر الواقفة أو النثر الأفقي) ضمن مدلول بياني هو في الواقع التشكيل التصويري الأول بداية كل عمل أو ما يمكننا تسميته "دلالة الصلة" ليجمعه الناقد أخيراً بصورة واحدة جامعة. وبهذا ستتحد وتتشكل صور كثيرة لدى الناقد من هنا وهناك؛ تكون هي محصلة بحثه وما انتجه كمنتج في العملية الأدبية والفنية الإبداعية برمتها لتحقيق وظيفة التوصيل الدلالي المضمر أكثر من بقية الدلالات.
لكننا نرى واقعاً أنَّ قصيدة النثر لم تحددها تعريفات تحصر معناها وماهيتها إلاّ عبر تحليل دقيق لكل جوانبها من قبل ناقد هو ما ينبغي أن يكون تجديدياً كما هو لون تلك القصائد التي تحتاج لمن يفسرها بما هي، وليس بظنّيات خارجية تقلل من نشوة نكهتها؛ هذا التحليل الذي يعرِّفها بالمعنى العام لا بمفردات قليلة، هو نتائج بحث الناقد فيها، المنتمي لمدرسة التحليل والارتقاء، وما توصل اليه من ماهياتها الكلية لا عبر تأويل عابر، بل ضمن تحليل للمضمون ومعرفة الفلسفة الحقيقية للنص ودوافعه وسيكولوجيته، وحتى مناخ كتابته، اضافة الى جو اللغة الاتصالي التي تدور معه الكلمات بدلالة الصلة أو توليف المعنى المُشتق. هنا يبرز تساؤل جديد: لماذا انحسرت القصيدة العمودية اليوم؟ يبدو أنَّ سبب ذلك الانحسار التدريجي، وقلة من يكتب بها، هو كثرة وسهولة كتابة قصيدة النثر أو التي أسميناها القصيدة التجديدية هي من جعلت هذا الاعتقاد يقف عند هذا الحد بشكل ما، ولكن ليس القطعي اليقيني كما نعلم بسبب ظهور قصيدة تجديدية عمودية لازمت أختها الحرة والنثرية بتطور لاحق ابتعد شعراؤها عن الاطلال وديار الحبيب، وصعلكة المتصعلكين، أو التضخيمات العقيمة بالكلمات المحتضرة مجاراة مع شعراء العصر الجاهلي التي تحتاج لشرح وتفصيل وكأنها كتبت بلغة أخرى، وتبقى ذائقة المتلقي كل حسب رأيه ومدى فهمه واهتمامه هي صاحبة القرار.
د. سعد الساعدي - العراق
..............................
* ورقة بحثية موجزة اعتماداً على نظرية التحليل والارتقاء النقدية
نبذة عن حياة الشاعر عمرو بن الأهتم (عن موقع بوابة الشعراء) لمن لم يسمع به ويعرفه:
عمرو بن سنان بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر، من بني تميم. أحد السادات والشعراء الخطباء في الجاهلية والإسلام وسمي أبوه سنان بالأهتم لأن قيس بن عاصم المنقري ضربه بقوس فهتم أسنانه وقيل هتمت أسنانه أثناء القتال في يوم الكلاب الثاني (أحد أيام العرب في الجاهلية). عاش عمرو في الجاهلية وأدرك الإسلام فأسلم وهو أحد الصحابة الشعراء المجيدين.