أما أن الدين حاجة فهذه حقيقة لا يتناطح عليها عنزان.
حتى الملاحدة أنفسهم يُقرُّون بها في إطار تفسير ظهور الأديان وكثرة أتباعها، فإنهم يرون أن الإنسان شعر دائماً بالحاجة إلى قوة خارقة في مواجهة التهديدات التي عجز عن مغالبتها، ومنذ وعى هشاشته وحجمه المتناهي في الصغر في كونٍ متناهٍ في الكبر.
ويعترف كثير من هؤلاء بالحاجة إلى الدين لينظّم حياتنا الاجتماعية وفق مبادئ أخلاقية، حيث عجزت الفلسفات المادية.
ولذلك فإن "فولتير" القائل: (نشأ الدين عندما التقى أول مخادع -يقصد الأنبياء- بأول غبي- يقصد المؤمنين-)، هو نفسه القائل: (لو لم يكن هناك إله لاخترعناه).
لكن المفارقة أننا ما زلنا في حاجة إلى الدين رغم التقدم العلمي والمعرفي الهائل؛ الذي يُفترض معه أننا بتنا قادرين على مغالبة أخطار الطبيعة، وانتفت تلك الحاجة إلى قوى غيبية خارقة -بزعم الملحدين- وما زلنا بحاجة إلى الدين رغم ظهور الفلسفات الإنسانية واستماتتها في احتلال موقعه الأخلاقي، بل إن حاجتنا إلى الدين تزداد باطّراد مع ازدياد التقدم المعرفي، فمع كل اكتشاف وكل فتح علمي جديد تزداد دهشة الإنسان وتساؤلاته عن ألغاز هذا الكون الهائل التي تزداد تعقيداً وإلحاحاً على العقل البشري.
ومع ذلك فنحن هنا لا نتحدّث عن الحاجة إلى الدين في حياتنا، وإن كان ذلك سبباً كافياً للتمسك به، لكننا نتحدث عن الدين واقعاً فطريًّا وحقيقة ثابتة، بل الحقيقة الوحيدة الثابتة في عالم كل حقائقه نسبيّة ومتغيّرة.
"الله" هو الحقيقة الوحيدة التي تدركها الفطر السليمة وتعززها العقول المستبصرة، لقد تهاوت كل الفرضيّات التي تشرح الوجود سقطت أمام أول اختبار رياضي أو منطقي، وبقيت نظرية الخالق تؤكد أن النظرة التي أودعها الله فينا لن تشوهها خزعبلات المحتالين على العلم ولا أبلسة المنتفعين الماديين، فتراهم يجادلون في التفاصيل ليثبتوا بطلان نظرية الخلق، وكالسذّج الجاهليين يعيدون اجترار الأسئلة نفسها: لماذا يخلقنا الله ثم يعذبنا؟ لماذا يحاسبنا إن كان يعلم ما سيكون من أعمالنا؟ لماذا يرسل الرسل؟
إنه لا يكفي أن يعرف الإنسان أن ثمت خالقاً بل لابد من معرفة هذا الخالق، ومعرفته تعني معرفة صفاته فهو الحكيم الذي يهيئ الأسباب مع كونه القادر الذي يخلق بلفظه "كن"، وهو العادل الذي يحاسب الناس ويخيّرهم بين طريق الجنة وطريق النار مع كونه العليم بما سيكون، الرحيم بخلقه.
إله الفطرة ليس هو الإله "الرحيم" ولا هو الإله "المنتقم" إنه إله المسلمين الذي يجمع صفات الرحمة إلى العدل والحكمة إلى القدرة، وإن كانت الفطرة اهتدت إليه قديماً فقوانين الكون المكتشفة دلّت على صفاته حديثاً، فلم يبق إلا مكابر معاند أو مشوه الفطرة متابع الهوى لا يعرف الخالق.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30:الروم).
شكراً يا الله أن جعلتنا من الذين يعلمون