كان يوما مطيرًا .. كما هذا القلب الصغير يتدفَّق منه ينبوع الدم في عرقٍ ضجَّ من صبيب النَّزف ..
فجلست أحدِّق بترقُّب إلى ذاك الزجاج الأملس، كان يشبه مرآة الروح لا شيء فيها يكذب أو يلوِّن الحقيقة بغير ألوانِ ظهورها وانْكشافِها ..
ونسيتُ الزمن الذي مضى بغير اعتبارٍ لتلك الأفكار المشحونة في رأسٍ يحمل هموم الدنيا في ذاكرة مُثْقلة ..
ونسيت المكان الذي ضاق ذرعا بكلِّ شيء حتى بذاك الجسد المَكْدود من العمل ومن بُغْيةٍ ملكت النفس والفؤاد في طلب العلم وتحصيل الرزق ..
ونسيت أشياء كانت في الزمن الماضي يسيرة المنال أملكها بإشارةِ الإصْبع، حين كان إيماني بِجَدِّي لا بِكَدِّي هو الغاية والمطمَح، وحين كان الجِدُّ يحثُّ الخطى على المسير لبلوغِ الهدف الأسمى، والفكرةُ تشقُّ طريقَها لترى النور ولها حياةٌ ووجودٌ لا ينْهَد ..
وخلف كل هذا النسيان الذي كنت أمارس طقوسه في تلك اللحظات التي تمضي كنت أشعر بأنني أقترب أكثر فأكثر من اجتلاء معاني السعادة الحقيقية، التي تكمن في إحكامِ غلقِ الباب والرِّتاج، واعتكافِ النفس في خلوتِها بعيدًا عن ضوضاء الفِتَن، وصخَبِ الحياة المُتْرفة بملذَّاتها السَّاقطة، لتسْتَجدي العَفْو والمَغْفرة في مُناجاةِ الخالِق في زمنٍ قصير، قد يمتدُّ بالإنسان امتداد ما يحقق له الارتقاء الوجداني والشُّعور بلذَّةِ العبادة، تصله بتأثيراتِها وانْعكاساتِها البعيدة المَدى في الحضور والغياب، وفي السِّر والعلن، ويظهر ينبوعها الثَّر في الصدق والإخلاص في التوبة النصوحة والإقلاع عن الذنوب والآثام، وفكِّ قيود اسْتعبادِ المادة وإغراء الجمال الخالي من جوهر معناه، والبحثِ والتَّنقيب داخل دفائِنِ النفس ومكنوناتِها لسَبْرِ أغوارها والتقاط دُرَرِها ونفائسِها ..
وهذا الشعور بالانتشاء بالسعادة، كفيلٌ بأن يفْسِح للحاضر متَّكأ ومِهادًا عبيريَّة الرونق، فتسْتلذُّ النفس بذاك الشعور الخالي من كلِّ كدر وبحلولِ الربيع المُزْهِر بأفانينِ الورد ..
فما أجمل الحاضر .. حين يعتريه الهدوء، والقلوبُ متساندة كتلك البيوت التي تحجب عنها الشمس، ومتعانقة كفروع تلك الشجرة التي تضمُّ تحت ظلِّها الوارف الذكريات الجميلة، والرسائل الملفوفة بشرائط الحياة المتلوِّنة بألوان الطبيعة، والكلمات المعلقة على عروشها ..
وما أجمل الحاضر.. حين تمتدُّ تلك الفروع إلى شرفة البيت لتحدِّت ساكنيها عن أخبار الأرض، كأنها تعلم ما كان يجولُ بخواطرهم من أشواق تؤْنِسُهم ..
وما أجمل الحاضر .. حين تشرق فيه شمس الصباح بعد غيابٍ طويل، وقد ملأ السَّماء بغمامٍ يرتدي لون السَّواد كأنه في حداد ينْعي الضوء الذي خبا في سرج الليل، وذاك القرص القمري يراقص المُقَل فتلبِّي العيون المُسْهَدة نداء التكبير، فتصحو من رقادها حاملةً على أكتافها أحلام العابرين والمكدودين والمجاهدين في الحياة، وتلهج الألسنة بكلماتٍ تشقُّ طريق السَّالكين، وتصدح على أعناقهم بنشيد الكفاح، فتهزُّ الخطى لتمضي في طريقها المستقيم على الثبات، لا يثنيها عن غاياتها النبيلة الشُّرودُ في مراتع اللَّهوِ والملذَّات، كأن لهذا النُّور أسرارٌ يبثُّها في أنفاسِ الخلائق حتى لا تتوقف النبضات عن الخفقان ..
وما أحلاه من سفرٍ .. تتنفس فيه الأماني شهقاتِ الروح الطَّاهرة النقية، حين ترسل شدوها في الفضاء، وتسبح في الأكوان وتتأمل وتتدبر، وتستنشق نسائم الحرية في حبات التراب، وفي ذرات الهواء، في أوراق الورد والأغصان، في العشب الأخضر حين يهيج في الحقول والبساتين، وفي قطرات السواقي والأنهار والجداول، وفي تمتمات الطيور ولغاتِ الحيوان، وفي معادن البشر ..
ليظل بين الأمس والحاضر حكاياتٌ لا تنتهي عند حدِّ السُّطور والرَّغبة في البوحِ بالأسرار لفكِّ عقدة اللسان ..
ليظلَّ ذاك القلب الطفولي .. يحملُ في عيونه نجماتٌ تغازل الفرح وتطفئ جمرة الحزن، وعلى ضفاف الثغر الباسِم تغاريد صادِحة تحرِّك مجرى الدم السَّاكن كسكون تلك الأوراق التي ترْمقُ بطيفها الأبيض، وتستجدي القلم ليكتب على سطورها ما حواه الصدر الخامد خمود النار المنطفئة بعد انِصهارٍ أذاب جليد الأحزان ..
موقع*المسلم*