أحد أصدقائي القدامى تغيَّر عليَّ أو تغيَّرت عليه، ولعل كلاً منا تغيَّر على الآخر فصار يتحاشى مصافحتي!
لعله مجتهد مأجور ولو أخطأ!
وهجر المخالف مسألة فقهية مبسوطة في ثنايا كتب العلماء، وأطال فيها النفس "ابن تيمية"، وصنَّف فيها علماء من أمثال العلامة "بكر أبوزيد" رحمه الله.
والذي يظهر لي أن الهجر بابه المصلحة؛ سواء كانت التأديب أو ردع المخطئ أو منع انتشار الانحراف ..
فحين لا يكون ثمَّ مصلحة من الهجر فإنه يرجع إلى أصل الحكم وهو المنع والتحريم، « وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ »، ومن حق المسلم على أخيه رد السلام، وتشميت العاطس.. إلخ
ولم يثبت في الشرع -فيما أعلم- هجر الكافر؛ سواء كان وثنياً أو كتابياً، ولا المنافق.
تكمن الخطورة حين أستشعر أنني أفضل من الآخرين وأطهر، أو أعتقد أنهم رجس من عمل الشيطان لا ينبغي أن أمسهم فأتلوث بهم، وهذا شعور قد يلقيه الشيطان على المؤمن أو توسوس به النفس الأمارة بالسوء.
وهنا يصبح الحجاب الذي ضربته بيني وبين أخي المؤمن حجاباً عن الله، ولذا ورد منع المغفرة عن المتشاحنين إذا كان تشاحنهم لأمر دنيوي، ومن باب أولى إن كان على سبيل الاستعلاء، والاستكبار، واحتقار الآخرين، واستبطان طهورية النفس وسموها عن فلان وفلان.
وما أدق مسارب التعاظم الخفية حتى حين يلبس المرء الصوف، ويقنع باليسير من الطعام، ويجاهد نفسه في ميادين كثيرة، ولكنها تتفلت عليه في باب من الأبواب فتضره إلا من عصم الله ورحم.
ولذا كان من دعاء الصالحين: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
ويطّرد هذا في عموم أبواب الدعوة في العمليات والفرعيات، فهو مدعاة أن يشعر الداعية أو المحتسب بتفوقه على الآخر فيلح عليه حظ النفس، وقد يبدأ العمل بنية حسنة ثم يطرأ ما يغيرها، وخاصة إذا عرف بهذا واشتهر، فيفضي الأمر إلى اعتقاد نبل النفس واصطفائها، وأن الناس قد خلطوا وغيَّروا وبدَّلوا وآثروا الحياة الدنيا وأنت أنت!
وهذا ليس مدعاة للقعود وترك الدعوة والحسبة بل لمجاهدة النفس والتيقظ لدوافعها الخفية، والانكسار بين يدي الله؛ ذلاً وافتقاراً واضطراراً، والحذر من الغفلة عن تهذيب النفوس وإلجامها بزمام المراقبة والخوف من طغيانها.
وربما غفل المرء عن ذاته فتحول الباب عنده إلى نوع من الرياء والسمعة..
وهنا معنى لطيف تحسن الإشارة إليه في التفريق بين مقصد شريف وآخر مذموم.. حين دعا إبراهيم ربه: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (84الشعراء)، كان معبراً عن احترام الصدق وتعظيمه، وتوقير الصادقين، وحب الانضمام في سلكهم.. فمن حقنا إذاً أن نحب الصفات الجميلة وأهلها، وأن نُعرف بها بين الناس.
هذا لون ونمط ربَّاني كريم يقابله أؤلئك الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وأن يُمدحوا بالصفات الحسنة؛ لتسويق أنفسهم عند الناس، وهم في قرارة نفوسهم لا يحبون تلك الصفات ولا يحاولونها، ولكنهم يتزينون بها أمام الملأ؛ حفظاً لجاههم الاجتماعي، ومكانتهم، ووظيفتهم العاجلة.
إنهم العبيد الأقنان؛ الذين جمعوا بين المهانة والحقارة، وبين الدوران والتمحور حول الذات وجلب مصالحها العاجلة، وربما رأوا في تلونهم وخداعهم ذكاءً وفطنة ووصولية يعجز عنها غيرهم، وهم أحق الناس بوصف القرآن: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (188 آل عمران)
ما أعظم الفرق بين المهانة وبين ما يسميه أهل السلوك (تصفير الذات)، ويعنون به: الانعتاق من سلطة النفس ورؤيتها صفراً، وبعضهم يقول: رؤيتها صفراً عربياً كالنقطة، وليس صفراً إنجليزياً يشبه الرقم خمسة!
وذلك مبالغة منهم في دحر الأنانية، والخلاص من سطوتها، والتجرد التام منها أو محاولة التجرد..
ولذا يقول عبد القادر الجيلاني: كن مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ. وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ.
فَمَا أَجَلَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ وَمَا أَجْمَعَهُمَا لِقَوَاعِدِ السُّلُوكِ وَلِكُلِّ خُلُقٍ جميل فمتى عَزَلْتَ الْخَلْقَ- حَالَ كَوْنِكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى- وَعَزَلْتَ النَّفْسَ- حَالَ كَوْنِكَ مَعَ الْخَلْقِ- فَقَدْ فُزْتَ بِكُلِّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ. وَشَمَّرُوا إِلَيْهِ. وَحَامُوا حَوْلَهُ..
*ينابيع تربويه