د.عبد الرحمن البر
30/08/2014م
الموافق : 5/11/1435 هـ بعد العدوان الأخير علي غزة هاشم , وتآمر الأعداء وتخاذل الأشقاء , بقي المجاهدون وحدهم في الميدان دون سند أو ظهير من قوي الأرض .
إلا أننا سمعنا القائد أبا عبيدة – حفظه الله – يقول - : نحن نثق أن الله معنا .....
كلمة فهمها ووعاها الذين يؤمنون بها , وأهملها واستخف بها الذين لا يؤمنون بها , حتي رأينا وعد يتحقق , فنصر عبده , وأعز حنده , وهزم العدو والمتآمرين معه , والمتخاذلين والمتواطئين وحده , وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين .
نصر الله المجاهدين بما كانوا عليه من إيمان صادق , وهمة عالية , وغاية بعيدة , وعزيمة صادقة ,
وهزم الأحزاب بما اقترفوا من ذنوب كانت تنخر في صفوفهم , إضافة إلي تآمرهم وكيدهم لأهل الحق والإيمان , وفي سورة العنكبوت بيان ذلك ,
فقد بدأت بالحديث عن الإيمان والفتنة , وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس .
وتستعرض بعد ذلك قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب , وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان , استعراضا سريعا يصور ألوانا من الذنوب والموبقات التي اقترفوها وكانت سببا في هلاكهم , وهي في نفس الوقت تمثل ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان على امتداد الأجيال , والتهوين من شأنها في النهاية حين تقاس إلى قوة الله .
ثم يعقب على هذا القصص وما تكشف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى , بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها , وقد أخذها الله جميعا :
(فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) ) – العنكبوت –
ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسم وهنها وتفاهتها :
( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) ) – العنكبوت –
فهؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة , قد أخذهم الله جميعا . بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلا ,
أبادهم الله وتنوع في عذابهم وأخذهم بالإنتقام منهم ,
- فعاد قوم هود عليه السلام :
كانوا يسكنون الأحقاف وهى قريبة من حضرموت بلاد اليمن ,
وذلك أنهم (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد عاتية شديدة الهبوب جدا تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء ثم تنكسه على أم راسه فتشدخه فيبقى بدنا بلا رأس ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ)
- وثمود قوم صالح عليه السلام :
كانوا يسكنون الحجر قريبا من وادى القرى وكانت العرب تعرف مساكنها جيدا وتمر عليها كثيرا , ولقد قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة مثل ما سألوا سواء بسواء , ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم , وتهددوا نبي الله صالحا ومن آمن معه , وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم , فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات (إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ )
- وقارون :
صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة ,
وهو الذي طغى وبغى وعتا وعصى الرب الأعلى ومشى في الأرض مرحا وفرح ومرح وتاه بنفسه واعتقد أنه أفضل من غيره واختال في مشيته فخسف الله به وبداره الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) ) – القصص -
- وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان :
القبطيان الكافران بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وجنودهما اغرقوا عن آخرهم في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر , (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى اليَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) ) – الذاريات -
- وقبلهم كان قوم لوط عليه السلام :
و قد استشرى الفساد فيهم بكل ألوانه . فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين:
يأتون الرجال . وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها .
ويقطعون السبيل , فينهبون المال , ويروعون المارة , ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرها . وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى , إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض . .
ويأتون في ناديهم المنكر . يأتونه جهارا وفي شكل جماعي متفق عليه , لا يخجل بعضهم من بعض . وهي درجة أبعد في الفحش , وفساد الفطرة , والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح !
فكان الجزاء أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض ثم رفعها إلى عنان السماء ثم قلبها عليهم وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد وجعل الله مكانها بحيرة خبيثة منتنه وجعلهم عبرة إلى يوم التناد وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد
وما تزال آثار هذا التدمير باقية تحدث عن آيات الله لمن يعقلها ويتدبرها من القرون:
(وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)). .
وكان هذا هو المصير الطبيعي لهذه الشجرة الخبيثة التي فسدت وأنتنت , فلم تعد صالحة للإثمار وللحياة . ولم تعد تصلح إلا للاجتثاث والتحطيم .
- ثم إشارة إلى قصة شعيب عليه السلام ومدين:
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37).
وهي إشارة تبين وحدة الدعوة , ولباب العقيدة: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) , وعبادة الله الواحد هي قاعدة العقيدة , ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام بالتطفيف في الكيل والميزان , وغصب المارين بطريقهم للتجارة , وبخس الناس أشياءهم , والإفساد في الأرض , والاستطالة على الخلق .
وفي اختصار يذكر انتهاء أمرهم إلى تكذيب رسولهم ; وأخذهم بالهلاك والتدمير , على سنة الله في أخذ المكذبين .
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)..
تلك الرجفة التي زلزلت عليهم بلادهم ورجتها بعد الصيحة المدوية التي أسقطت قلوبهم وتركتهم مصعوقين حيث كانوا في دارهم لا يتحركون , فأصبحوا فيها جاثمين , جزاء ما كانوا يروعون الناس وهم يخرجون عليهم مغيرين صائحين !
- والجميع اقترف ما اقترف , وأتي ما أتي من ذنوب ومنكرات رغم ما كان لهم مدارك وعقول وهبهم الله إياها , لم يستخدموها في الهداية :
(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38).
فقد كانت لهم عقول , وكانت أمامهم دلائل الهدى ; ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم . وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة , وهي غرورهم بأنفسهم , وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال , وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع .
(فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الهدى الواحد المؤدي إلى الإيمان . وضيع عليهم الفرصة (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) يملكون التبصر , وفيهم مدارك ولهم عقول .
- والقاعدة العامة :
( فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ) أي كانت عقوبته بما يناسبه .....
( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ) فيما فعل بهم ( وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم ,
وهذا مصير من اقترف هذه المعاصي , وصد الناس عن سبيل الله , وأراد لهم سبيلا غير سبيل المؤمنين ,
- حقيقة القوى المتصارعة :
( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) )
والآن .. وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون . . والآن .. وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء . . الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال . .
إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله , وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن , من تعلق به أو احتمى , فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية , فهي وما تحتمي به سواء:
إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود , الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا , فيسوء تقديرهم لجميع القيم , ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات , وتختل في أيديهم جميع الموازين , ولا يعرفون إلى أين يتوجهون ؟ وماذا يأخذون ؟ وماذا يدعون ?
- وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان ( فرعون وهامان ) :
يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض , فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم , ويخشونها ويفزعون منها , ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها , أو يضمنوا لأنفسهم حماها !
- وتخدعهم قوة المال ( قارون ) :
يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة . ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ; ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون !
- وتخدعهم قوة العلم ( عادا وثمود ) :
يحسبونها أصل القوة وأصل المال , وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول , ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب !
- وتخدعهم هذه القوى الظاهرة :
تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول , فيدورون حولها , ويتهافتون عليها , كما يدور الفراش على المصباح , وكما يتهافت الفراش على النار !
- وينسون :
القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة , وتملكها , وتمنحها , وتوجهها , وتسخرها كما تريد , حيثما تريد ,
- وينسون أن :
الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد , أو الجماعات , أو الدول . . كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت . . . حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو , ولا وقاية لها من بيتها الواهن .
إنها العنكبوت:
وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
وليس هنالك إلا حماية الله , وإلا حماه , وإلا ركنه القوي الركين .
هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة , فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها ; وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون .
فقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس , وعمرت كل قلب , واختلطت بالدم , وجرت معه في العروق , ولم تعد كملة تقال باللسان , ولا قضية تحتاج إلى جدل . بل بديهة مستقرة في النفس , لا يجول غيرها في حس ولا خيال .
و لن يثمر لنا عمل حتى تكون هذه الحقيقة الضخمة كذلك عندنا :
قوة الله وحدها هي القوة . وولاية الله وحدها هي الولاية . وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل ; مهما علا واستطال , ومهما تجبر وطغى , ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل .
وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى , وللإغراء والإغواء, لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة , وهم يواجهون القوى المختلفة .
هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم . ...
وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم . ...
وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله , وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة , وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير .
( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) – العنكبوت –
وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم *ينابيع
الموافق : 5/11/1435 هـ بعد العدوان الأخير علي غزة هاشم , وتآمر الأعداء وتخاذل الأشقاء , بقي المجاهدون وحدهم في الميدان دون سند أو ظهير من قوي الأرض .
إلا أننا سمعنا القائد أبا عبيدة – حفظه الله – يقول - : نحن نثق أن الله معنا .....
كلمة فهمها ووعاها الذين يؤمنون بها , وأهملها واستخف بها الذين لا يؤمنون بها , حتي رأينا وعد يتحقق , فنصر عبده , وأعز حنده , وهزم العدو والمتآمرين معه , والمتخاذلين والمتواطئين وحده , وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين .
نصر الله المجاهدين بما كانوا عليه من إيمان صادق , وهمة عالية , وغاية بعيدة , وعزيمة صادقة ,
وهزم الأحزاب بما اقترفوا من ذنوب كانت تنخر في صفوفهم , إضافة إلي تآمرهم وكيدهم لأهل الحق والإيمان , وفي سورة العنكبوت بيان ذلك ,
فقد بدأت بالحديث عن الإيمان والفتنة , وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس .
وتستعرض بعد ذلك قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب , وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان , استعراضا سريعا يصور ألوانا من الذنوب والموبقات التي اقترفوها وكانت سببا في هلاكهم , وهي في نفس الوقت تمثل ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان على امتداد الأجيال , والتهوين من شأنها في النهاية حين تقاس إلى قوة الله .
ثم يعقب على هذا القصص وما تكشف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى , بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها , وقد أخذها الله جميعا :
(فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) ) – العنكبوت –
ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسم وهنها وتفاهتها :
( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) ) – العنكبوت –
فهؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة , قد أخذهم الله جميعا . بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلا ,
أبادهم الله وتنوع في عذابهم وأخذهم بالإنتقام منهم ,
- فعاد قوم هود عليه السلام :
كانوا يسكنون الأحقاف وهى قريبة من حضرموت بلاد اليمن ,
وذلك أنهم (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد عاتية شديدة الهبوب جدا تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء ثم تنكسه على أم راسه فتشدخه فيبقى بدنا بلا رأس ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ)
- وثمود قوم صالح عليه السلام :
كانوا يسكنون الحجر قريبا من وادى القرى وكانت العرب تعرف مساكنها جيدا وتمر عليها كثيرا , ولقد قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة مثل ما سألوا سواء بسواء , ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم , وتهددوا نبي الله صالحا ومن آمن معه , وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم , فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات (إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ )
- وقارون :
صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة ,
وهو الذي طغى وبغى وعتا وعصى الرب الأعلى ومشى في الأرض مرحا وفرح ومرح وتاه بنفسه واعتقد أنه أفضل من غيره واختال في مشيته فخسف الله به وبداره الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) ) – القصص -
- وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان :
القبطيان الكافران بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وجنودهما اغرقوا عن آخرهم في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر , (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى اليَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) ) – الذاريات -
- وقبلهم كان قوم لوط عليه السلام :
و قد استشرى الفساد فيهم بكل ألوانه . فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين:
يأتون الرجال . وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها .
ويقطعون السبيل , فينهبون المال , ويروعون المارة , ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرها . وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى , إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض . .
ويأتون في ناديهم المنكر . يأتونه جهارا وفي شكل جماعي متفق عليه , لا يخجل بعضهم من بعض . وهي درجة أبعد في الفحش , وفساد الفطرة , والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح !
فكان الجزاء أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض ثم رفعها إلى عنان السماء ثم قلبها عليهم وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد وجعل الله مكانها بحيرة خبيثة منتنه وجعلهم عبرة إلى يوم التناد وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد
وما تزال آثار هذا التدمير باقية تحدث عن آيات الله لمن يعقلها ويتدبرها من القرون:
(وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)). .
وكان هذا هو المصير الطبيعي لهذه الشجرة الخبيثة التي فسدت وأنتنت , فلم تعد صالحة للإثمار وللحياة . ولم تعد تصلح إلا للاجتثاث والتحطيم .
- ثم إشارة إلى قصة شعيب عليه السلام ومدين:
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37).
وهي إشارة تبين وحدة الدعوة , ولباب العقيدة: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) , وعبادة الله الواحد هي قاعدة العقيدة , ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام بالتطفيف في الكيل والميزان , وغصب المارين بطريقهم للتجارة , وبخس الناس أشياءهم , والإفساد في الأرض , والاستطالة على الخلق .
وفي اختصار يذكر انتهاء أمرهم إلى تكذيب رسولهم ; وأخذهم بالهلاك والتدمير , على سنة الله في أخذ المكذبين .
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)..
تلك الرجفة التي زلزلت عليهم بلادهم ورجتها بعد الصيحة المدوية التي أسقطت قلوبهم وتركتهم مصعوقين حيث كانوا في دارهم لا يتحركون , فأصبحوا فيها جاثمين , جزاء ما كانوا يروعون الناس وهم يخرجون عليهم مغيرين صائحين !
- والجميع اقترف ما اقترف , وأتي ما أتي من ذنوب ومنكرات رغم ما كان لهم مدارك وعقول وهبهم الله إياها , لم يستخدموها في الهداية :
(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38).
فقد كانت لهم عقول , وكانت أمامهم دلائل الهدى ; ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم . وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة , وهي غرورهم بأنفسهم , وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال , وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع .
(فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الهدى الواحد المؤدي إلى الإيمان . وضيع عليهم الفرصة (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) يملكون التبصر , وفيهم مدارك ولهم عقول .
- والقاعدة العامة :
( فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ) أي كانت عقوبته بما يناسبه .....
( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ) فيما فعل بهم ( وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم ,
وهذا مصير من اقترف هذه المعاصي , وصد الناس عن سبيل الله , وأراد لهم سبيلا غير سبيل المؤمنين ,
- حقيقة القوى المتصارعة :
( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) )
والآن .. وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون . . والآن .. وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء . . الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال . .
إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله , وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن , من تعلق به أو احتمى , فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية , فهي وما تحتمي به سواء:
إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود , الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا , فيسوء تقديرهم لجميع القيم , ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات , وتختل في أيديهم جميع الموازين , ولا يعرفون إلى أين يتوجهون ؟ وماذا يأخذون ؟ وماذا يدعون ?
- وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان ( فرعون وهامان ) :
يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض , فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم , ويخشونها ويفزعون منها , ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها , أو يضمنوا لأنفسهم حماها !
- وتخدعهم قوة المال ( قارون ) :
يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة . ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ; ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون !
- وتخدعهم قوة العلم ( عادا وثمود ) :
يحسبونها أصل القوة وأصل المال , وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول , ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب !
- وتخدعهم هذه القوى الظاهرة :
تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول , فيدورون حولها , ويتهافتون عليها , كما يدور الفراش على المصباح , وكما يتهافت الفراش على النار !
- وينسون :
القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة , وتملكها , وتمنحها , وتوجهها , وتسخرها كما تريد , حيثما تريد ,
- وينسون أن :
الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد , أو الجماعات , أو الدول . . كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت . . . حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو , ولا وقاية لها من بيتها الواهن .
إنها العنكبوت:
وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
وليس هنالك إلا حماية الله , وإلا حماه , وإلا ركنه القوي الركين .
هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة , فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها ; وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون .
فقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس , وعمرت كل قلب , واختلطت بالدم , وجرت معه في العروق , ولم تعد كملة تقال باللسان , ولا قضية تحتاج إلى جدل . بل بديهة مستقرة في النفس , لا يجول غيرها في حس ولا خيال .
و لن يثمر لنا عمل حتى تكون هذه الحقيقة الضخمة كذلك عندنا :
قوة الله وحدها هي القوة . وولاية الله وحدها هي الولاية . وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل ; مهما علا واستطال , ومهما تجبر وطغى , ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل .
وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى , وللإغراء والإغواء, لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة , وهم يواجهون القوى المختلفة .
هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم . ...
وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم . ...
وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله , وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة , وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير .
( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) – العنكبوت –
وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم *ينابيع