في البداية.. نجد أنفسنا ونحن بين يدي الإمام البوصيري رحمه الله، نقررحقيقة مؤداها أن:
قصيدة "بردة المديح" مازالت تحمل بين جوانحها تلك الروح الإيمانية التي دفعت بها إلى آفاق الزمان، فلا تزال تحيا بيننا شابة نضرة، رغم مرور الزمان، ولم نرَ أحدا من الشعراء حاول أن يتخطى بشعره آفاقها، إلا وردَّدته خلفها، فهي بمثابة السبق والإمام، لمن أراد أن يمدح خير الأنام، على مدار الزمان والأعوام. ولا عجب.. فنحن نذكر بيت "البوصيري" الذي عجز عن إكماله فجاءه الرسول الكريم في الرؤيا(1)، وقال له: اقرأها يا بوصيري!.. عندما توقف عن إتمام البيت قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل: (وأنه خير خلق الله كلهمِ).
فأصبح بيت البردة:
فمبلغُ العلمِ فيهِ أنهُ بشرٌ وأنهُ خيرُ خلقِ اللهِ كُلهِمِ
بمثابة الروح التي دبت في القصيدة، فمنحتها الحياة إلى الأبد، ولهذا.. نجد أن الشعراء الذين حاولوا مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بعد . لم يستطع أحدهم أن يجاوز ماقاله الإمام البوصيري، أويتفوق عليه.
فمنهم من عارض البردة كشوقي، ومنهم من قام بتشطيرها، أو تخميسها، أو تسبيعها ليستمد منها العطاء في مدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وظلت "بردة المديح" للإمام البوصيري هي النبع الصافي الذي يشرب منه المادحون لخير الأنام على الدوام.
ونحن هنا نقف أمام البردة المسماة "بالكواكب الدرية في مدح خير البرية" للإمام البوصيري وقصيدة: نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي، والتي تعتبر من أشهر القصائد التي تتبعت آثار "بردة المديح" حيث نحا شوقي نحوها وهو يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدبت فيها الروح، وذاع صيتها بين الناس، ومع هذا لم تجاوز بردة البوصيري باعترافه بنفسه في قصيدته حيث يقول:
المادحونَ وأربابُ الهوى تبعٌ لصاحبِ البُردةِ الفيحاءِ ذي القدَمِ
مديحُهُ فيكَ حبٌّ خالصٌ وهوى وصادقُ الحبِ يُمْلي صادقَ الكلمِ
اللهُ يشهدُ أني لا أعارضهُ مَنْ ذا يُعارضُ صوبَ العارضِ العرمِ
وإنما أنا بعضُ الغابطينَ ومَنْ يغبُطْ وليَّكَ لا يُذْمَمْ ولا يُلمِ
وفي هذه المقابلة بينهما نحاول أن نبرز كيف اقتفى أمير الشعراء أحمد شوقي أثر الإمام البوصيري وهو يكتب قصيدته: نهج البردة من حيث الشكل والموضوع.
أولا- الشكل:
فنجد أن البوصيري رحمه الله تعالى حين بدأ في كتابة قصيدته قد استأنسَ بميمية "ابن الفارض" شاعر الحب الإلهي، حيث يقول:
هلْ نارُ ليلى بَدَتْ ليلاً بذي سَلمِ أمْ بارقٌ لاحَ في الزوْراءِ فالعَلمِ
أرواحُ نَعْمانَ هلَّا نَسْمَةً سَحَراً وماءَ وَجْرَةَ هلَّا نهْلةً بفمِ
ومطلع قصيدة الإمام "البوصيري"..
أمنْ تذكُّرِ جيرانٍ بذي سَلمِ مزجْتَ دمْعاً جرى منْ مُقلةٍ بدَمِ
أمْ هبَّت الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ وأوْمَضَ البرْقُ في الظلماءِ منْ إضَمِ
حيث نجد أنه قد اختار بحر البسيط كما فعل ابن الفارض بتفعيلاته التامة:
( مستفعلنْ فاعلنْ مستفعلنْ فعِلُنْ ) في صدر البيت، وفي عجزه، وكذلك الرويْ، وهو الميم المكسورة المشبعة، ونجد أن شوقي قد اختار لقصيدته نفس البحر البسيط، ونفس الروي الميم المكسورة، حيث يقول:
ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلمِ أحلَّ سفْكَ دمي في الأشهرِ الحُرُمِ
رمى القضاءُ بعيْنيَ جؤذرٍ أسَدا يا ساكنَ القاعِ أدْرِكْ ساكنَ الأجمِ
وهو بهذا النحو يؤكد على أنه يقتفي أثر البوصيري رحمه الله تعالى في نظمه لبردته، ويعترف له بالسبق والإمامة في مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك نجد أن البوصيري قد فعل كما فعل ابن الفارض، حيث بدأ قصيدته بالنسيب، ثم دخل في موضوع القصيدة كما كان يفعل شعراء العرب قديماً، حين يبدأ الشاعر قصيدته بالنسيب أو الوقوف على الأطلال، أو وصف ناقته، أو غيرها لبيان قدرته الشعرية، وهذا نسق معماري للقصيدة العربية، فاختار البوصيري النسيب لأنه أنسب لموضوع القصيدة، حيث استخدم المتصوفة الغزل في كتاباتهم ليتواروا خلفه، وهم يقصدون به الحب الإلهي كما فعل ابن الفارض في شعره، كذلك فعل شوقي في مطلع قصيدته حيث يقول:
لمَّا رَنا حدَّثتني النفسُ قائلة يا ويحَ جنْبِكَ، بالسهمِ المصيبِ رُمِي
جَحَدْتُها ، وكَتمْتُ السهْمَ في كبدي جُرحُ الأحبةِ عندي غيرُ ذي ألمِ
ثانيا:- الموضوع:
أما من ناحية الموضوع في القصيدة، فنجد أن البوصيري رحمه الله تعالى قد تحدث في عشر موضوعات، وكذلك اقتفى شوقي أثره في كتابته لنهج البردة فجاءت المقاربة بينهما كما يأتي:
1ـ الغزل وشكوى الغرام:
بدأ البوصيري قصيدته بالنسيب، وهو نسق معماري في بناء القصيدة العربية حيث يقول:
أمنْ تذكرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ مَزَجْت دمْعاً جرى منْ مُقلةٍ بدَمِ
أمْ هبَّتْ الريحُ منْ تلقاءِ كاظمَةٍ وأوْمَضَ البرْقُ في الظلماءِ منْ إضَمِ
فما لعيْنيكَ إنْ قلتَ اكففا هَمَتا وما لقلبِكَ إنْ قلتَ استَفقْ يَهِمِ
ويقول شوقي:
ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلَمِ أحلَّ سَفكَ دمي في الأشهُرِ الحُرُمِ
رمى القضاءُ بعيْني جُؤذَرٍ أسَدا يا ساكنَ القاعِ أدْرِكْ ساكنَ الأجمِ
لما رنا حدَّثتني النفسُ قائلةً يا ويْحَ جنْبكَ بالسهْمِ المصيبِ رُمِي
ويقول البوصيري:
نَعَمْ سَرَى طيْفُ منْ أهوَىْ فأرَّقني والحبُّ يعترضُ اللذاتِ بالألمِ
يا لائمي في الهوى العذريِّ معذرةً مني إليْكَ ولو أنْصَفْتَ لمْ تَلُمِ
ويقول شوقي:
سَرى فَصَادَفَ جُرحاً دامَيَاً، فأسَا ورُبَّ فضلٍ على العشاقِ للحُلُمِ
يا لائمي في هواهُ، والهوى قدرٌ لو شفَّكَ الوجْدُ لم تعْذِلْ ولمْ تَلُمِ
2 ـ التحذير من هوى النفس:
نجد البوصيري بعدما انتهى من الغزل بدأ في تحذير نفسه من الهوى فيقول:
فإنَّ أمَّارتي بالسوء ما اتعظتْ منْ جهْلِها بنذيرِ الشيْبِ والهَرَمِ
ويقول شوقي:
يا نفسُ، دنياكِ تُخفي كلَّ مُبْكَيةٍ وإنْ بدا لكِ منها حُسْنُ مُبْتَسَمِ
ويقول البوصيري:
أمَرْتُكَ الخيرَ لكنْ ما ائتمرْتُ بهِ وما استقمْتُ فما قولي لكِ استقمِ
ويقول شوقي:
يا ويْلتاهُ لنفسي! راعَها وَدَهَا مُسْوَدَّةُ الصحْفِ في مُبْيَضَّةِ اللمَمِ
ويقول البوصيري:
ولا تزوَّدْتُ قبل الموتِ نافلةً ولم أصلِّ سوى فرضٍ ولمْ أصُمِ
ويقول شوقي:
ركضْتُها في مَريعِ المعصياتِ وما أخذتُ منْ حِمْيَةِ الطاعاتِ للتُخَمِ
ويقول البوصيري:
فلا ترُمْ بالمعاصي كسْرَ شهْوَتِها إن الطعامَ يُقوِّيْ شهْوَةَ النَهِمِ
ويقول شوقي:
هامَتْ على أثرِ اللذاتِ تطلبها والنفسُ إنْ يَدْعُها داعي الصبا يَهِمِ
صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مَرْجِعُهُ فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تسْتَقِمِ
والنفسُ منْ خيرِها في خيرِ عافيةٍ والنفسُ منْ شرِّها في مَرْتَعٍ وَخمِ
3 ـ مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
ونجد البوصيري رحمه الله تعالى يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
مُحمَّدٌ سيَّدُ الكوْنَيْنِ والثقليْـ ـنِ والفريقيْنِ منْ عُرْبٍ ومنْ عَجَمِ
فيقول شوقي:
مُحمَّدٌ صفوَةُ الباري، ورحمتُهُ وبُغْيةِ اللهِ من خلقٍ ومنْ نَسَمِ
ويقول البوصيري:
هوَ الحبيبُ الذي تُرْجى شفاعتُهُ لكل هَوْلٍ من الأهوالِ مُقتحمِ
فيقول شوقي:
أُلقي رجائي إذا عزَّ المُجيرُ على مُفرِّجِ الكرْبَ في الداريْنِ والغَمَمِ
إذا خفضْتُ جناحَ الذلِّ أسألهُ عِزَّ الشفاعةِ ، لمْ أسألْ سوىْ أمَمِ
ويقول البوصيري:
فاقَ النبيِّينَ في خَلْقٍ وفي خُلقٍ ولمْ يُدانوهُ في علمٍ ولا كَرَمِ
فيقول شوقي:
فاقَ البدورَ، وفاقَ الأنبياءَ فَكَمْ بالخُلْقِ والخَلْقِ منْ حُسْنٍ ومنْ عِظَمِ
ويقول البوصيري:
دعا إلى اللهِ فالمُستمْسكونَ بهِ مُسْتمْسكونَ بحبلٍ غيْرَ مُنْفصمِ
فيقول شوقي:
جاءَ النبيُّونَ بالآياتِ فانصرَمَتْ وجئْتنا بحكيمٍ غيرَ مُنْصَرِمِ
4 ـ مولده صلى الله عليه وسلم:
ثم تحدث البوصيري رحمه الله تعالى، عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أبانَ موْلدهُ عنْ طيبِ عُنصُرِهِ يا طيبَ مُبْتدإٍ منهُ ومُختتَمِ
يومٌ تفرَّسَ فيهِ الفرسُ أنهُمُ قدْ أنذِروا بحلولِ البؤسِ والنقَمِ
فيقول شوقي:
سَرَتْ بشائرُ بالهادي ومولدِهِ في الشرقِ والغربِ مَسْرَى النورِ في الظلَمِ
تَخطَّفتْ مُهَجَ الطاغينَ منْ عَرَبٍ واطَّيَّرتْ أنفسَ الباغينَ منْ عَجَمِ
ويقول البوصيري:
وباتَ إيوانُ كِسْرَىْ وهوَ مُنصَدَعٌ كشمْلِ أصحابِ كِسْرَىْ غيرَ مُلْتَئمِ
فيقول شوقي:
ريعَتْ لها شُرَفُ الإيوانِ فانصدَعَتْ منْ صَدْمَةِ الحقِ، لا منْ صَدْمَةِ القُدمِ
يقول البوصيري:
عَمُوا وصَمُّوا فإعلانُ البشائرِ لمْ تُسْمَعْ وبارقةُ الإنذارِ لمْ تُشَمِ
فيقول شوقي:
مُسيْطرُ الفرسِ يَبْغي في رَعيَّتِهِ وقيصرُ الرومِ منْ كبْرٍ أصمُّ عَمِ
5 ـ معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم:
ثم تحدث البوصيري في قصيدته بعد ذلك عن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
مثلَ الغمامةِ أنَّى سارَ سائرةً تقيهِ حرَّ وطيسٍ للهجيرِ حَمِيْ
فيقول شوقي:
وظلَّلتهُ، فصارتْ تستظلُّ بهِ غمامةٌ جذَبتْها خيْرَةُ الديَمِ
ويقول البوصيري:
وما حوَىْ الغارُ منْ خيْرٍ ومنْ كَرَمِ وكلُ طرفٍ من الكفارِ عنهُ عَمِيْ
فالصدْقُ في الغارِ ، والصدِّيقُ لمْ يَرِمَا وهُمْ يقولونَ ما بالغارِ منْ أرَمِ
ظنوا الحمامَ ، وظنوا العنكبوتَ على خيرِ البريَّةِ لم تُنْسَجْ ولمْ تَحُمِ
فيقول شوقي:
سَلْ عُصْبَةَ الشرْكِ حولَ الغارِ سائمةٌ لولا مُطاردةُ المختارِ لمْ تُسَمِ
هل أبصروا الأثرَ الوضاءَ، أمْ سمعوا هَمْسَ التسابيحِ والقرآنِ في أمَمِ؟
وهلْ تمثَّلَ نسْجُ العنكبوتِ لهمِ كالغابِ ، والحائماتُ الزغْبُ كالرَخمِ؟
6 ـ في شرف القرآن الكريم ومدحه:
ثم تحدث البوصيري رحمه الله تعالى في بردته المباركة عن شرف القرآن الكريم ومدحه فقال:
دعْني ووصْفَيَ آياتٍ لهُ ظهرَتْ ظهورَ نارِ القِرَىْ ليلا على عَلَمِ
فالدُرُ يزدادُ حُسْناً وهوَ مُنْتظمٌ وليْسَ ينقصُ قدْراً غيْرَ مُنْتظِمِ
آياتُ حقٍ من الرحمنِ مُحْدَثَةٌ قديمةٌ صفةُ الموْصُوفِ بالقِدَمِ
فيقول شوقي:
أو كابنِ عفانَ والقرآنَ في يدهِ يحنو عليهِ كما تحنو على الفُطُمِ
ويجمعُ الآيَ ترتيباً وينْظمُها عقداً بجيدِ الليالي غيرَ مُنْفصمِ
آياتُهُ كُلما طالَ المدى جُدُدٌ يُزيَّنهُنَّ جلالُ العتقِ والقِدَمِ
يكادُ في لفظةٍ منهُ مُشْرقةٍ يُوصيكَ بالحقِ، والتقوى، وبالرَحِمِ
حَلَّيْتَ من عَطَلٍ جيدَ البيانِ بهِ في كل منتشرٍ، في حُسْنِ مُنْتظِمِ
7 ـ رحلة الإسراء والمعراج:
ثم بدأ الأمام البوصيري في سرد رحلة الإسراء والمعراج حيث يقول:
سَرَيْتَ منْ حَرَمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ كما سَرَىْ البدرُ في داجٍ منَ الظُلَمِ
وبتَّ تَرْقىْ إلى أن نلْتَ منزلةً منْ قابِ قوْسَيْنِ لمْ تُدْرَكْ ولمْ تُرَمِ
وقدَّمَتْكَ جميعُ الأنبياءِ بها والرسلُ تقديمَ مخدومٍ على خَدَمِ
وأنتَ تخترقُ السبْعَ الطباقَ بهمْ في موكبٍ كُنتَ فيهِ صاحبَ العَلَمِ
فيقول شوقي:
أسْرىْ بكَ اللهُ ليلاً إذْ ملائكُهُ والرسْلُ في المسجدِ الأقصى على قَدَمِ
لمَّا خَطَرْتَ بهِ التفُّوا بسيَّدِهِمْ كالشُهْبِ بالبدرِ، أوْ كالجُنْدِ بالعَلَمِ
صلى وراءَكَ منهمْ كلُّ ذي خَطَرٍ ومنْ يفُزْ بحبيبِ اللهِ يأْتَمِمِ
جُبْتَ السماواتِ ، أوما فوْقهنَ بَهمْ على مُنوَّرةٍ دُرَّيَّة اللُجُمِ
8 ـ جهاد النبي صلى الله عليه وسلم:
ثم نجد الإمام البوصيري رحمه الله ينتقل إلى موضوع جهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:
يَجرُّ بحْرَ خميسٍ فوقَ سابحةٍ يرمي بموْجٍ منَ الأبطالِ مُلْتطِمِ
منْ كلِّ مُنْتَدِبٍ للهِ مُحْتَسِبٍ يَسْطو بمُسْتأصلٍ للكفْرِ مُصْطلِمِ
حتى غَدَتْ مِلَّةُ الإسلامِ وهَيَ بهمْ منْ بعْدِ غُرْبَتِها موْصُولةَ الرَحمِ
فيقول شوقي:
طريدةُ الشرْكِ، يؤذيها ويوسَعُها في كلِ حينٍ قتالاً ساطعَ الحَدَمِ
لولا حُماةٌ لها هبُّوا لنصرتِها بالسيفِ ، ما انتفعَتْ بالرفْقِ والرُّحَمِ
ويقول البوصيري:
رَاعَتْ قلوبَ العدَا أنباءُ بعْثَتِهِ كنبْأةٍ أجْفَلَتْ غُفْلاً منَ الغنَمِ
مازالَ يلْقاهُمُ في كلِ مُعْتَرَكٍ حتى حَكَوْا بالقنا لحْمَاً على وَضَمِ
وَدُّوا الفرَارَ فكادُوا يَغْبطونَ بهِ أشلاءَ شالتْ معَ العقْبانِ والرَخَمِ
فيقول شوقي:
مَهْما دُعِيتَ إلى الهيْجاءِ قُمْتَ لها ترمِي بأسْدٍ ويرْمِي اللهُ بالرُجَمِ
على لوائكَ منهُمْ كلُّ مُنتقمٍ للهِ ، مُسْتقْتَلٍ في اللهِ، مُعْتَزِمِ
لوْ صادَفَ الدهْرَ يبْغي نقْلَةً، فَرَمَىْ بعزْمِهِ في رحالِ الدهْرِ لمْ يَرَمِ
بيضٌ، مفاليلُ منْ فعْلِ الحروبِ بهمْ مِنْ أسْيُفِ اللهِ، لا الهنْديَّةِ الخُدَمِ
9 ـ التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم:
ثم يتوسل الإمام البوصيري بالرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
خَدَمْتُهُ بمديحٍ أسْتَقيلُ بهِ ذُنوبَ عُمرٍ مضى في الشعرِ والخدَمِ
إذْ قلَّدانَيََ ما تُخشى عواقبُهُ كأنني بهما هَدْيٌ منَ النَعَمِ
أطعْتُ غيَّ الصبا في الحالتينِ وما حَصَلْتُ إلا على الآثامِ والنَدَمِ
إنْ آتِ ذنباً فما عهْدِي بمُنْتَقضٍ من النبيِّ ولا حبْلي بمُنْصَرِمِ
إنْ لمْ أكنْ في مَعادِي آخذاً بيدِيْ فضْلاً وإلا فقُلْ يا زلَّةَ القَدَمِ
حاشاهُ أنْ يحْرَمَ الراجي مكارمَهُ أو يرجعَ الجارُ منهُ غيْرَ مُحترَمِ
فيقول شوقي:
إنْ جلَّ ذنبي عن الغُفْرانِ لي أملٌ في اللهِ يجعلني في خيرِ مُعْتَصِمِ
أُلقي رجائي إذا عزَّ المُجيرُ على مُفرِّجِ الكرْبَ في الداريْنِ والغَنَمِ
إذا خَفضْتُ جناحَ الذلِّ أسْألُهُ عِزَّ الشفاعةِ ، ولم أسْألْ سوَىْ أمَمِ
وإنْ تقدَّمَ ذو تقوَىْ بصالحَةٍ قدَّمْتُ بيْنَ يديْهِ عَبْرَةَ النَدَمِ
لزِمْتُ بابَ أميرَ الأنبياءِ ، ومَنْ يُمْسِكْ بمفْتاحِ باب اللهِ يَغْتَنمِ
عَلَّقْتُ منْ مدْحهِ حبْلاً أعزُّ بهِ في يومِ لاعِزَّ بالأنْسابِ واللُحَمِ
ويقول الإمام البوصيري:
فإنَ لي ذمَّةٌ منهُ بتسْمَيَتِي مُحمَّداً وهوَ أوْفَى الخلْقِ بالذَمَمِ
فيقولُ شوقي:
يا أحمدَ الخيْرِ، لي جاهٌ بتسْمَيَتِي وكيفَ لا يتسامَى بالرسولِ سَمِي؟
ويقول الإمام البوصيري:
ولمْ أرَدْ زهرةَ الدنيا التي اقتطفتْ يدا زُهَيْرٍ بما أثنى على هَرمِ
فيقول شوقي:
يُزْرِي قريضي زهَيْرَاً حينَ أمْدَحُهُ ولا يُقاسُ إلى جُود لدَى هَرِمِ
10 ـ في المناجاة وعرض الحاجات:
ثم يختتم الإمام البوصيري قصيدته بالمناجاة وعرض الحاجات حيث يقول:
يا أكرَمَ الخلْقِ مالي منْ ألوذُ بهِ سوَاكَ عندَ حلولِ الحادثِ العَمِمِ
فيقول شوقي:
إنْ جلَّ ذنْبي عنِ الغفرانِ لي أمَلٌ في اللهِ يجعَلُني في خيرِ مُعْتَصِمِ
ويقول الإمام البوصيري:
يا نفْسُ لا تقْنَطِي منْ زلةٍ عَظُمَتْ إنّ الكبائرَ في الغفرانِ كاللمَمِ
فيقول شوقي:
لا تحْفَلِي بجَناها أو جنايتِها الموتُ بالزهْرِ مثلَ الموتِ بالفحَمِ
ويقول الإمام البوصيري:
ثم الرضا عنْ أبي بكرٍ وعنْ عُمَرٍ وعنْ عليٍّ وعنْ عثمانَ ذي الكَرَمِ
والآلِ والصحْبِ ثم التابعينَ فَهُمْ أهلُ التقى والنقا والحلْمِ والكَرَمِ
فيقول شوقي:
وصلِّ ربي على آلٍ لهُ نُخُبٍ جَعَلْتَ فيهمْ لواءَ البيتِ والحَرَمِ
ويقول الإمام البوصيري:
والطُفْ بعبْدِكَ في الدارَيْنِ إنْ لهُ صبْراً متى تدُّعُهُ الأهوالُ ينْهَزِمِ
فيقول شوقي:
فالطفْ لأجلِ رسول العالمينَ بنا ولا تزدْ قوْمَهُ خسْفَاً ولا تُسِمِ
وبعد.. فيجدر بنا في هذا المقام أن نذكر بعض الملحوظات بعد هذه المقابلة بين القصيدتين، حيث وجدنا الآتي:
1 ـ أن روح بردة البوصيري دبت في قصيدة شوقي نتيجة لتأثر الأخير بالبردة، فجاءت نهج البردة مفعمة بتلك الروح الإيمانية التي سرت فيها، وجعلتها ذائعة الصيت بين الناس، ومع هذا لم تتخط بردة المديح للبوصيري.
2 ـ أن ترتيب الموضوعات جاء موازيا لترتيب الأبيات في قصيدة الإمام البوصيري حيث انتقل البوصيري في قصيدته من موضوع إلى آخر طبقا لهذا الترتيب من أول بيت إلى آخر بيت.
3 ـ لم يلتزم شوقي بترتيب موضوعات القصيدة كما بالبردة المباركة، فرأيناه يقدم موضوعا على آخر، وإن كان قد أتى بكل موضوعات البردة.
4 ـ إن الإمام البوصيري كان يأتي بالمعنى في بيت واحد، ونجد شوقي يأتي به في عدة أبيات، ولهذا زادت أبيات شوقي في نهج البردة عن عدد أبيات الإمام البوصيري في بردته بقرابة ثلاثين بيتا.
رحم الله الإمام البوصيري، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وجزاهما خيرا على مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم.