مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
بين الشّعر الجاهليّ والنّبطيّ
سعاد العنزي

الأدب الشّعبيّ هو أحد وجوه ثقافتنا الإنسانيّة التي تعكس جانبًا هامًا من حياتنا، ويرتبط بصور حيويّة دقيقة تختزل فكر الجماعة الإنسانيّة وآمالها وطموحاتها، وتكون مزامنة وناقلة حيويّة ونشطة تنقل الفكر الآنيّ للمجتمعات الإنسانيّة، وهذه الثّقافة الشّعبيّة تحتاج منّا وعيًا وإدراكًا كاملاً وتحليلاً مصاحبًا لها، وإلاّ لتركنا كثيرًا من القيم والأفكار والتّصوّرات متروكة في ذاكرة قابلة للنّسيان أوّلاً، ولأهملنا جانبًا مهمًّا في فهم تطلّعات الأجيال والتّصورات والفكر والقيم المتبنّاة من قبل الجماعة الإنسانيّة في تلك الفترة. ومن المهمّ أيضًا أن نربط الأدب الشّعبيّ مع أدبنا المكتوب بالفصحى من حيث المضامين الفكريّة ومن حيث القيمة الاجتماعيّة، وألاّ يعلو طرف على آخر .. ولا أن يُعامل أحد الأدبين بدونيّة أو تعالٍ؛ فليس هناك أدب أعلى قيمة من الآخر أو أكثر نفعًا .. فكلاهما يرصد معطيات حياتنا الاجتماعيّة بصورها المتعدّدة ..ومن هنا تأتي أهمّيّة التفاتة الغرب للأساطير والأدب الشّعبيّ التي هي جزء هامّ من أرض الأمّة وحامل لقيم الشّعوب من الماضي؛ فهويّة الماضي تُختزل بالأدب الشّعبيّ، والشّعر النّبطيّ أحد من أشكالها‫.

وهذا يتّضح في تجربة الدكتور مرسل العجمي أستاذ النّقد الأدبيّ في جامعة الكويت، الذي انتقل من الانحصار في دائرة ثقافة النّخبة إلى الجمع بين الثّقافتين النّخبويّة والشّعبيّة، والاعتدال في النّظر إليهما ككلّ متكامل من دون الفصل بينهما، أو إحلال شيء محلّ آخر كما يقول الغذامي بمصطلح ‫’’سقوط النّخبة‫’’؛ إذ أرى أنّ النّخبة لا تسقط بشكل كامل بل يكون هناك مزامن ومحايث لها شيء شعبويّ لا ينافسها بل يكمّلها، بمضمون فكريّ يعكس هموم الأمّة وأشكالاً فكريّة مختلفة ومغايرة.. جميعها تتزامن وتشكّل فسيفساء الخارطة الثّقافية للأمّة‫. كذلك ينبثق هذا العمل من النّظرة النّقديّة الحديثة للنّص، وفقًا لرولان بارت ومن هم بعده؛ إذ هم يسائلون جميع أنساق المجتمع وعلاماتها المختلفة لفهم الثّقافة بمستوياتها المتعدّدة، ومنها الأدب الشّعبيّ، والأسطورة، وغيرهما‫.

كتاب ‫’’النخلة والجمل‫’’ ‫(١ ‫) يجمع بين شكلين من أشكال الشّعر الذي نتعاطاه منذ العصر الجاهليّ حتى العصر الحاليّ.. عصر الثّقافة الإلكترونيّة والمثقّف ذي السّلطة العابرة فضاء الإعلام الرّسميّ والشّعبيّ؛ إذ يحاول الدّكتور مرسل هنا إثبات ارتباط العلاقة بين هذين النّوعين من الشّعر: الشّعر الجاهليّ والشّعر النّبطيّ من حيث المضمون والشّكل، بل يفترض أنّ ‫’’الشّعر النّبطيّ هو شعر جاهليّ، ولكن بلغة ملحونة‫’’.

ويبرز هنا المؤلّف والقلائل من الباحثين، مثل د‫. سعد عبدالله الصّويان، فيعطون الشّعر العاميّ أو النّبطيّ شيئًا من المشروعيّة والمكانة الاعتباريّة، التي أفقدته إيّاها الدّراسات النّقديّة الأدبيّة، التي تعتني بأشكال الفصيح كافّة، وتخرج ما هو غير فصيح إلى هامش الاهتمام والنّسيان‫.

يقول المؤلّف في مقدّمة الكتاب شارحًا حيثيّات الدّراسة ومحفّزاتها‫: ‫’’ما بين الإفراط في تناول الشّعر الجاهليّ من الخارج، بوصفه من الخارج، بوصفه أرضًا مشاعًا، وبين الإفراط في إقصاء الشّعر النّبطيّ من الدّاخل بوصفه نصًّا منبوذًا، يجب أن ‫’’تنقذ منه الشّعوب‫’’ غاب وغيّب الشّعر العربيّ‫: جاهليًّا كان أم نبطيًّا من دائرة اهتمام البحث المحايث الذي يتوفّر على دراسة هذا الشّعر من الدّاخل وفي ذاته ولذاته في مرحلة أولى، ووضعه في سياقه الحضاريّ في مرحلة أخيرة‫’’. ‫(الكتاب، ص١٨‫)

في النّص السّابق، يشير الدّكتور مرسل العجمي، إلى عدّة نقاط‫: أهمّها النّظرة الدّونيّة التي يُنظر إلى الشّعر النّبطيّ من خلالها، كما يشير أيضًا إلى تلاشي الاهتمام بالشّعر الجاهليّ من دائرة الاهتمام الأكاديميّ، ممّا يعني تحوّلاً أو تخلّيًا عن شكل من أشكال الأدب، وهذا خلل في التّفكير المنهجيّ عند العرب، في بساطة التّخلّي عن جذورهم الثّقافيّة، والأشكال الأبويّة المولّدة للقصيدة العربيّة، فيما نجد في الغرب أيّ باحث ينطلق في مشروعه النّقديّ من دراسة الماضي الأدبيّ، وصولاً إلى الظّاهرة الحاليّة، كما تتوافر هناك حقول معرفيّة ثابتة، تُفرد لدراسات شكسبير وغيره من الشّعر اء الأوائل‫. وهذا القول أيضًا يثير قضيّة أخرى حديثة جدًّا، وهي تحوّل المبدعين من الشّعراء لكتابة الرّواية، و تواري القصيدة الشّعر ية الفصحى تدريجيًّا من عالم الإبداع المعاصر، ممّا يجلعنا في خوف وقلق مستمرّ على مستقبل القصيدة العربيّة الحديثة، والتّساؤل إلى أين هي ذاهبة، وما هو الشّكل الهجينيّ الجديد الذي ستظهر به، ممّا يؤدّي إلى اختفاء شكل من أشكال القصيدة، بعدما فقد الشّعر العموديّ أيضًا سلطته على كلٍّ من الشّاعر والقارئ‫. وهذا يحثّنا إلى إعادة النّظر ورصد الظّاهرة بشكل واضح، والتّحقّق من دور الشّعر لدى الأجيال المعاصرة شعراء ونقَّادًا وقرّاءً‫.

على ضفّة أخرى يقف الشّاعر البحرينيّ الكبير قاسم حداد، و يرفض القول بهزيمة الشّعر أمام الرّواية بقوله في واحدة من محاضراته الأخيرة‫: ‫(٢ ‫)

’’الفنون ليست أحصنة سباق، تعاظم عدد الرّوايات وكتّابها ليس علامة دالّة على انتصار الرّواية وهزيمة سواها من الأشكال والأنواع، مثل الشّعر وغيره’’، مشيرًا إلى أنّ هذا المنطق ليس سوى خضوع لعقليّة فاشية تمجّد شيئًا وتقصي غيره بوهم الفتك حسب الأهواء، وهو سلوك نقيض لروح الدّيموقراطيّة، التي تجعل الحياة تسع كلّ أنواع التّعبير’’.

وهو كلام فكريًّا سليم ومنطقيّ، ويؤكّد رفض الفكرة التي تقول بسقوط النّخبة؛ إذ هناك تنوّع وتواجد لجميع أشكال العطاء الإنسانيّ، ولكنّه في نفس الوقت لا يعني ألاّ نبحث بعمق حول أسباب خفوت هذه القصيدة؛ فحضور القصيدة الحالي المتناقص تدريجيًّا يدعونا إلى التّساؤل بحذر: ماذا بعد هذا التّحوّل والتّغيّر والتّبدّل، وإلى أين سترسو أشرعة الشّعر العربيّ‫.

كما يجعلنا نلتفت بوعي إلى تدفّق القصيدة النّبطيّة في مجتمعاتنا الخليجيّة، وكثرة توارد الشّعراء بشكل حيويّ وفعّال، يغطي جزءًا هامًّا من هموم الشّعوب الخليجيّة في جوانب عديدة، وهذا ما يولّد أهمّيّة دراسة هذا الشّعر فكريًّا وأخلاقيًّا وفنّيًّا، لنرى كيف قدّم الشّاعر قصيدته بشكل مطابق لفنّيات الشّعر، و لنضع سؤال النّقد أمام الشّعراء يكتسحون ثقافتنا الشّعبيّة بثقافتهم الضّحلة والهزيلة؛ فالشّاعر النّبطيّ لابدّ أن يكون أيضا شاعرًا مثقّفًا حذقًا ينطلق من رؤى عميقة تقدّم شيئًا لهذا الوجود‫.

فنقد الشّعر الشّعبيّ نقدًا أدبيًّا يتّكئ على المضامين والأشكال بدا ضرورة ملحّة أمام هذا السّيل الشّعري المتدفّق‫؛ فكتاب ‫’’النّخلة والجمل‫’’ يجمع بين شكلين من أشكال الشّعر الذي نتعاطاه منذ العصر الجاهليّ حتى العصر الحاليّ، عصر الثّقافة الإلكترونيّة والمثقّف ذي السّلطة العابرة فضاء الإعلام الرّسميّ والشّعبيّ؛ إذ يحاول الدّكتور مرسل هنا إثبات ارتباط العلاقة بين هذين النّوعين من الشّعر: الشّعر الجاهليّ والشّعر النّبطيّ من حيث المضمون والشّكل؛ إذ هنا هو والقلائل من الباحثين يعطون الشّعر العاميّ أو النّبطيّ شيئًا من المشروعيّة والمكانة الاعتباريّة له التي أفقدته إيّاها الدّراسات النّقديّة الأدبيّة التي تعتني بأشكال الفصيح كافّة، وتخرج ما هو غير فصيح إلى هامش الاهتمام والنّسيان‫.

‎‫ (١ ‫) د‫.مرسل العجمي، ‫’’النخلة والجمل‫’’، مكتبة آفاق،الطبعة الأولى ٢٠١٢م‫

‎‫ (٢ ‫) قاسم حداد، قاسم حداد:الفنون ليست أحــصنة سباق

http://www.emaratalyoum.com/life/four-sides/2013-02-06-1.547228
مقالات اخرى
أضافة تعليق