مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
آفة استهلاك النفس
يتعجب المرء من قدرتنا الفائقة على استهلاك الجوارح والحواس والنفس في معارك فارغة المضمون والهدف، بدرجة تنفي عن هذه المدارك معاني النبل والسمو التي خلقت من أجلها، فبدلاً من إعمار الأرض والنفوس بما يضيف إليها ويجملها ويزينها؛ تجد هذه المدارك وقد شُحذت وسُنّت رماحها فتخوض في التافه من القول والمنبت من الأثر. وأعجب - لحد الصدمة - عندما لا يقف المرء مع نفسه لبرهة وهو يستهلكها، فيزن ما يفعله بميزان العقل أو المنطق أو الشرع حتى يميز المعركة الحقة التي يمكنه فيها أن يستغل ما وهبه الله تعالى من جوارح ومواهب. وأزعم أن آفة استهلاك النفس في غير طائل قد تشعبت وتحوصلت في كل أركان المجتمع، فتجدها في محيط الأسرة والمنتديات والمقاهي والصحف والإعلام، حتى اختلطت الأوراق، ارتفع الصخب وعمّ الدخان.. ففي الأسرة، تأسف حين لا نولي اهتمامنا لتنشئة أفراد صالحين مزودين بالمقومات التي يواجهون بها معترك الحياة بجدية وثبات، بينما تراق الجوارح والحواس أمام شاشات التلفاز مع برامج رثة تبث السموم والخنا في نفوس الصغار والكبار.. وفي المنتديات والتجمعات، تجد الأوقات التي تهدر بغير حساب والحناجر التي تتجشأ - دون تحقيق - ما يردده الآخرون في تطبيق متقن لمنهج القطيع الذي يثور إذا ثار فلان لا يدرون فيما كانت ثورته. وفي مجال الإعلام - وآه ثم آه منه - تتناهى كبار الأمور وعظائمها إلى غمز ولمز وتصريح فج ينضح بالتوافه من الموضوعات التي انفصمت معها علاقات الإعلام مع المجتمع وحاجات المواطن وأمل الوطن. وهكذا دواليك في كل مناحي الحياة، ترى منطق استهلاك النفوس مهيمناً يحطم في طريقه بنياناً كان ينبغي له أن يقام، أو نفساً كان ينبغي لها أن ترقى أو مجتمعاً كان ينبغي له أن يتآلف، حتى تكاد تجزم أن النفس تخلو عما حباها الله من جوارح ومدارك وبيان ليتحولوا إلى فصائل متناحرة في أرجاء غابة، فكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون، متناحرون ومنتحرون. وما يحزنك أن هاتيك الجوارح والحواس والنفس التي وهبها الله للإنسان كانت وما تزال مناط اهتمام وحي السماء وسُنة العدنان، ونهج الصالحين، فكفانا أن نقرأ: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ”36’’}(الإسراء). وما هكذا تنهض الأمم، وما هكذا نهضت، وقديماً قال أبو تمام: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم فالأحرى بنا وقد شحت الموارد وضاقت المعايش أن نتوقف عن استهلاك النفس في الترهات، ونوجه الجوارح والحواس للنهضة بالأرض وبالناس، وألا نترك أنفسنا يأكلنا ليل التفاهات وجدل النهار العقيم، وقديماً قال عمر بن عبدالعزيز: «إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما». فلله در من زين جوارحه بمعاني البناء الحسي والمعنوي؛ فارتقى بها من رث القول وسفاسف الأمور إلى سمو الكلمة ومعالي الهمم والغايات.

*مجلة المجتمع
أضافة تعليق