هناء الحمراني
منذ سنوات مضت كنت أقضي وقتًا طويلاً ولذيذًا مع الكتب والأقلام والأوراق.. ولم أتذمّر من اتّساع مساحة الوقت التي أملكها.. ولم أكن أنزعج من كثرة القراءة والكتابة؛ لأنّني لم أكن أجد متعتي في سواهما..
ومنذ أن تزوّجت، وأصبحت مسؤولة عن أعباء جديدة ومختلفة، ولا يمكن لأحد القيام بها؛ لأنّها مسؤوليّتي وحدي.. وجدت نفسي أشبه بسندريلا التي تحاول إتمام جميع أعمالها المنزليّة حتى تتمكّن من الذّهاب لحفلة العمر.. ولقاء فارس الأحلام.
يبدو الأمر مضحكًا بعض الشّيء.. ففارسي المنتظر لم يكن سوى الكتاب.. آلة العزف كانت قلمي الأسود السّائل.. وكانت الأوراق بهو الحفل الذي لم أستطع ولزمن طويل الوصول إليه.
في بعض المرّات أكون سعيدة جدًا إلى الحدّ الذي يجعلني أغبط نفسي وأنا أرى عشرات الكتب التي قد أتممت قراءتها.. ثم تفارقني تلك السّعادة حين أكتشف أنّ الوقت أضيق من أن أشارك غيري متعة ما قرأته من كتب.
لقد فقدت ثلاثة أشياء بعد تحمّلي مسؤوليّاتي المعتادة كأيّ ربّة بيت.
القراءة الطّويلة والعميقة..
الكتابة الغزيرة..
والمشي لساعات طويلة في استراحة والدي -أطال الله عمره- ورحم الاستراحة..
ولعلّي كسبت في مقابل ذلك كنوزًا أكثر جمالاً وهي الأسرة.. ولا شيء يعدل جمال الأسرة وروعتها..
لم يهدأ حنيني إلى القلم يومًا.. و بعد ’’مسافات في أوطان الآخرين’’ لـ’’سمير عطا الله’’ أصبح الحنين أكثر إلحاحًا..
وصارت رائحة الحبر أشدّ جاذبيّة من رائحة الكلوركس والفيري..
كتاب ’’مسافات’’ ليس مجرّد حبر بارد على الورق.. بل هو روح متنقّلة.. تبعث في النّفس المتعة.. وتفتح الشّهيّة لقراءات أكثر.. وللولوج مجدّدًا إلى عالم الكتابة الحقيقيّ.
و هذه ’’المسافات’’ ليست في الأصل إلاّ مقالات يوميّة ينشرها كاتبنا المهاجر في صحيفة (الشرق الأوسط) منذ عقود.. ولا أخفيكم كم أغبط هؤلاء الكتاب.. ليس لأنّهم يكتبون في عمود ثابت في صحيفة مشهورة.. بل لأنّهم يجدون دافعًا قويًّا للكتابة، لا يسمح لهم بتأجيل حضور هذا المهرجان الاحتفاليّ كلّ ليلة.. كما يحدث مع سندريلا المسكينة.. ولأنّ الحياة مع فارس الأحلام ليست جميلة دائمًا.. فالالتزام الصحفيّ قد يجعل الأمر في بعض الأحيان أشبه بالجحيم حين لا يملك الكاتب ما يقوله لقُرّائه..
لقد تألّم الطنطاوي -رحمه الله- من ذلك وشكا إلى قرّائه ما يجده مَن تكون الكتابة مهنته.. فهو يضطرّ إلى أن يلازم القلم حتى في وقت النّوم.. لعلّ خاطرة تأتي فجأة فيسبقها بالتّسجيل قبل أن تسبقه بالرّحيل.
ويقول سمير عطا الله في مسافاته: ’’يحدث هذا غالبًا.. يحدث أن تبحث عن موضوع فيهرب منك، عن عنوان فتراه في كتاب آخر، عن سطر، مجرّد سطر، فيعصى عليك كما عصى الدّمعُ أبا فراس..
لا بد أن تكتب شيئًا ما.. مضحكًا..محزنًا.. لا فرق، الأفضل أن يكون مسلّيًا مثل بزر البطّيخ....’’.
وتتحوّل المقالة فعلاً إلى بذر بطّيخ وبعض الزّينات والحلوى والمحاشي.. لملء الصّفحة التي يجب أن لا تظهر أحد أعمدتها فارغة مهما كانت الأسباب.
وفي موضع آخر من مقال آخر يتحدّث عن عالم ابنه الملوّن وعالمه الرّمادي: ’’ويتركني مجدّدًا في عالم ’’رامبو’’ فيما يمضي في بناء الكون كما يطيب له، متّكلاً أحيانًا على مساعدة (والت ديزني)، ويقبّلنا ثم يذهب إلى الرّوضة، فيما أنصرف إلى قراءة المزيد من الصّحف، فمن لا يقرأ حبرًا كثيرًا لا يكتب حبرًا كثيرًا’’.
وعلى الرّغم من ذلك.. فالكتابة هي جنّة الكاتب التي لا يستطيب الحياة بدونها.. والقيمة تكمن فيما يكتبه والمبادئ التي يدافع عنها.. والتّضحيات التي يقدّمها، والحكمة التي يستصحبها عندما يقرّر بأنّ الكتابة مسؤوليّة قبل أن تكون مجرّد موهبة يستعرض فيها عضلاته الإنشائيّة.
مضى ما يقارب العقدين أو يزيد على كتابة هذه المسافات متفرّقة.. ومضت بضع سنوات على صدورها في كتاب يجمع شتاتها.. ولا تزال الطّرقات التي قطعها موجودة.. وما زال كثير من البشر يقطع ذات الطّريق.. ويعيش ذات التّجارب.. ويقرأ ويعايش ذات الآلام..
وقد يشعر المرء بشيء من الأسى وهو يرى أنّ الأوضاع في بعض البلدان لم تتغيّر منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا.. فلبنان العزيزة.. لا تزال تئنّ من المشكلات.. أو كما يقول سمير عطا الله: ’’سِلْمها بين حربين’’ فالسِّلم فيها استثناء.. والحرب هو القاعدة.
وفي مقاله ’’الجزّار’’ يتحدث عن الثّورة الفرنسيّة والطّاغية (روبسبيير) الذي حمل في عنقه ’’ثلاثة ملايين جمجمة’’، وستالين الذي حمل في عنقه ’’سبعة ملايين جمجمة’’ أيام الثّورة الرّوسيّة.
ويقول في حماسة مؤثّرة وكأنّه ينظر إلى هذه الأيام: ’’وإنّها الثّورة، تفجّر النّبل في النّبلاء والوحش في الوحش، وبعد (روبسبيير) سوف تفضّل فرنسا الرّؤساء الضّعفاء والمسيو (رينه كوتي) ’’والجمهورية الرابعة’’ على أن تتكرّر أمامها ذكريات الطّاغية الذي داوى الجوع بالقتل، والظّلم بالقتل، والمرض بالقتل، ورأى الإصلاح في القتل والعدل في القتل. وكان يقتل وهو نائم، وهو صاح، وهو مخدَّر. لم يكن لديه سوى القتل إلى أن جاء من يبشر القاتل بالقتل’’.
في الكتاب موضوعات أخرى لعلّها لفتت نظري، واستهوتني للاستمتاع بالقراءة، غير أن ألم هذه المقطوعة وحدها كان كافيًا لأن يستوقفني فأقرأها مرّة ومرّتين وثلاثًا..
التّاريخ يعيد نفسه مجدّدًا..ويعيد نفسه بمرارة تحت مسمّيات دوليّة لا تمتّ إلى الإنسانيّة بصلة.. وهي إعادة تثبت أنّ ما يجري على النّاس من بلايا ورزايا وحروب وإبادات لا علاقة له بدين أو عقيدة الضّحايا.. بل هو أمر قد أجراه الله على خلقه.. ولكن: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ).
اللهم بَشِّر بشار بِشَرِّ قِتلة.. واجعلْ قتلانا في الجنّة.. وقتلاهم في النّار.. وأنزل على إخوتنا المظلومين في كلّ مكان سكينتك وأمْنك وألهمْهم ذكرَك وشكرَك وحسن عبادتك..
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).
*نوافذ
منذ سنوات مضت كنت أقضي وقتًا طويلاً ولذيذًا مع الكتب والأقلام والأوراق.. ولم أتذمّر من اتّساع مساحة الوقت التي أملكها.. ولم أكن أنزعج من كثرة القراءة والكتابة؛ لأنّني لم أكن أجد متعتي في سواهما..
ومنذ أن تزوّجت، وأصبحت مسؤولة عن أعباء جديدة ومختلفة، ولا يمكن لأحد القيام بها؛ لأنّها مسؤوليّتي وحدي.. وجدت نفسي أشبه بسندريلا التي تحاول إتمام جميع أعمالها المنزليّة حتى تتمكّن من الذّهاب لحفلة العمر.. ولقاء فارس الأحلام.
يبدو الأمر مضحكًا بعض الشّيء.. ففارسي المنتظر لم يكن سوى الكتاب.. آلة العزف كانت قلمي الأسود السّائل.. وكانت الأوراق بهو الحفل الذي لم أستطع ولزمن طويل الوصول إليه.
في بعض المرّات أكون سعيدة جدًا إلى الحدّ الذي يجعلني أغبط نفسي وأنا أرى عشرات الكتب التي قد أتممت قراءتها.. ثم تفارقني تلك السّعادة حين أكتشف أنّ الوقت أضيق من أن أشارك غيري متعة ما قرأته من كتب.
لقد فقدت ثلاثة أشياء بعد تحمّلي مسؤوليّاتي المعتادة كأيّ ربّة بيت.
القراءة الطّويلة والعميقة..
الكتابة الغزيرة..
والمشي لساعات طويلة في استراحة والدي -أطال الله عمره- ورحم الاستراحة..
ولعلّي كسبت في مقابل ذلك كنوزًا أكثر جمالاً وهي الأسرة.. ولا شيء يعدل جمال الأسرة وروعتها..
لم يهدأ حنيني إلى القلم يومًا.. و بعد ’’مسافات في أوطان الآخرين’’ لـ’’سمير عطا الله’’ أصبح الحنين أكثر إلحاحًا..
وصارت رائحة الحبر أشدّ جاذبيّة من رائحة الكلوركس والفيري..
كتاب ’’مسافات’’ ليس مجرّد حبر بارد على الورق.. بل هو روح متنقّلة.. تبعث في النّفس المتعة.. وتفتح الشّهيّة لقراءات أكثر.. وللولوج مجدّدًا إلى عالم الكتابة الحقيقيّ.
و هذه ’’المسافات’’ ليست في الأصل إلاّ مقالات يوميّة ينشرها كاتبنا المهاجر في صحيفة (الشرق الأوسط) منذ عقود.. ولا أخفيكم كم أغبط هؤلاء الكتاب.. ليس لأنّهم يكتبون في عمود ثابت في صحيفة مشهورة.. بل لأنّهم يجدون دافعًا قويًّا للكتابة، لا يسمح لهم بتأجيل حضور هذا المهرجان الاحتفاليّ كلّ ليلة.. كما يحدث مع سندريلا المسكينة.. ولأنّ الحياة مع فارس الأحلام ليست جميلة دائمًا.. فالالتزام الصحفيّ قد يجعل الأمر في بعض الأحيان أشبه بالجحيم حين لا يملك الكاتب ما يقوله لقُرّائه..
لقد تألّم الطنطاوي -رحمه الله- من ذلك وشكا إلى قرّائه ما يجده مَن تكون الكتابة مهنته.. فهو يضطرّ إلى أن يلازم القلم حتى في وقت النّوم.. لعلّ خاطرة تأتي فجأة فيسبقها بالتّسجيل قبل أن تسبقه بالرّحيل.
ويقول سمير عطا الله في مسافاته: ’’يحدث هذا غالبًا.. يحدث أن تبحث عن موضوع فيهرب منك، عن عنوان فتراه في كتاب آخر، عن سطر، مجرّد سطر، فيعصى عليك كما عصى الدّمعُ أبا فراس..
لا بد أن تكتب شيئًا ما.. مضحكًا..محزنًا.. لا فرق، الأفضل أن يكون مسلّيًا مثل بزر البطّيخ....’’.
وتتحوّل المقالة فعلاً إلى بذر بطّيخ وبعض الزّينات والحلوى والمحاشي.. لملء الصّفحة التي يجب أن لا تظهر أحد أعمدتها فارغة مهما كانت الأسباب.
وفي موضع آخر من مقال آخر يتحدّث عن عالم ابنه الملوّن وعالمه الرّمادي: ’’ويتركني مجدّدًا في عالم ’’رامبو’’ فيما يمضي في بناء الكون كما يطيب له، متّكلاً أحيانًا على مساعدة (والت ديزني)، ويقبّلنا ثم يذهب إلى الرّوضة، فيما أنصرف إلى قراءة المزيد من الصّحف، فمن لا يقرأ حبرًا كثيرًا لا يكتب حبرًا كثيرًا’’.
وعلى الرّغم من ذلك.. فالكتابة هي جنّة الكاتب التي لا يستطيب الحياة بدونها.. والقيمة تكمن فيما يكتبه والمبادئ التي يدافع عنها.. والتّضحيات التي يقدّمها، والحكمة التي يستصحبها عندما يقرّر بأنّ الكتابة مسؤوليّة قبل أن تكون مجرّد موهبة يستعرض فيها عضلاته الإنشائيّة.
مضى ما يقارب العقدين أو يزيد على كتابة هذه المسافات متفرّقة.. ومضت بضع سنوات على صدورها في كتاب يجمع شتاتها.. ولا تزال الطّرقات التي قطعها موجودة.. وما زال كثير من البشر يقطع ذات الطّريق.. ويعيش ذات التّجارب.. ويقرأ ويعايش ذات الآلام..
وقد يشعر المرء بشيء من الأسى وهو يرى أنّ الأوضاع في بعض البلدان لم تتغيّر منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا.. فلبنان العزيزة.. لا تزال تئنّ من المشكلات.. أو كما يقول سمير عطا الله: ’’سِلْمها بين حربين’’ فالسِّلم فيها استثناء.. والحرب هو القاعدة.
وفي مقاله ’’الجزّار’’ يتحدث عن الثّورة الفرنسيّة والطّاغية (روبسبيير) الذي حمل في عنقه ’’ثلاثة ملايين جمجمة’’، وستالين الذي حمل في عنقه ’’سبعة ملايين جمجمة’’ أيام الثّورة الرّوسيّة.
ويقول في حماسة مؤثّرة وكأنّه ينظر إلى هذه الأيام: ’’وإنّها الثّورة، تفجّر النّبل في النّبلاء والوحش في الوحش، وبعد (روبسبيير) سوف تفضّل فرنسا الرّؤساء الضّعفاء والمسيو (رينه كوتي) ’’والجمهورية الرابعة’’ على أن تتكرّر أمامها ذكريات الطّاغية الذي داوى الجوع بالقتل، والظّلم بالقتل، والمرض بالقتل، ورأى الإصلاح في القتل والعدل في القتل. وكان يقتل وهو نائم، وهو صاح، وهو مخدَّر. لم يكن لديه سوى القتل إلى أن جاء من يبشر القاتل بالقتل’’.
في الكتاب موضوعات أخرى لعلّها لفتت نظري، واستهوتني للاستمتاع بالقراءة، غير أن ألم هذه المقطوعة وحدها كان كافيًا لأن يستوقفني فأقرأها مرّة ومرّتين وثلاثًا..
التّاريخ يعيد نفسه مجدّدًا..ويعيد نفسه بمرارة تحت مسمّيات دوليّة لا تمتّ إلى الإنسانيّة بصلة.. وهي إعادة تثبت أنّ ما يجري على النّاس من بلايا ورزايا وحروب وإبادات لا علاقة له بدين أو عقيدة الضّحايا.. بل هو أمر قد أجراه الله على خلقه.. ولكن: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ).
اللهم بَشِّر بشار بِشَرِّ قِتلة.. واجعلْ قتلانا في الجنّة.. وقتلاهم في النّار.. وأنزل على إخوتنا المظلومين في كلّ مكان سكينتك وأمْنك وألهمْهم ذكرَك وشكرَك وحسن عبادتك..
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).
*نوافذ