مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
رمضان محطة للمراجعة والتجديد
رمضان محطة للمراجعة والتجديد

الشيخ ابو جرة سلطاني

تهانينا بحلول الشهر الكريم، ويا سعادة من فهم عنّا والتزم معنا، وبعد:

دوائر التنظيم:

الإسلام مرادف للنظام القائم على الدوائر الأربعة المعروفة:

1- دائرة الإسلام الكبرى: الشهادتان ومقتضياتهما، من إقام الصلاة، إلى إيتاء الزكاة، فصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.

2- دائرة الإيمان الأوسع: بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر.

3- دائرة الإحسان: بعبادة الله من مقام المراقبة، فإن لم يكن فمن موقع المحاسبة كأنك تراه، فإن لم تراه فإنه يراك.

4- دائرة انتظار الجزاء: باعتقاد أن ما يزرعه الإنسان في الدنيا يجني حصاده يوم القيامة، وأن الجزاء سيكون من جنس العمل، إلاّ من تغمّده الله برحمته.

لطائف رمضانية:
ومن لطائف شهر رمضان الفضيل أن أيامه ولياليه تمثل عيّنة نموذجية تنشر ظلالها على الناس لتغطي هذه الدوائر الأربع: فالصائم المحتسب يستشعر –خلال كل أيام رمضان ولياليه وهو صائم قائم ذاكر شاكر- أنه يغوص كل لحظة في معاني الإسلام ويرتشف لطائف الإيمان، ويستشعر شفافية الإحسان وينتظر رحمة الله يوم لا ينفع مال ولا بنون.

المحطات الكبرى:
للمسلم الملتزم رسالة واضحة في هذه الحياة، وهي تحويل كل حياته إلى لحظة طاعة يتجسد فيها قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون والعبادة هنا معناها مطابقة الحال للأمر والنهي، أي تطويع رغبات النفس لأوامر الشرع ونواهيه على منهج إبراهيم الخليل عليه السلام المعبر عنه بإيجاز القرآن بقوله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت.. }

هذا نظريا، وأما عمليا فيمكن ترجمة: بتحويل كل الوسائل المشروعة لخدمة هدف واحد وهو مرضاة الله تعالى. بحيث تستفرغ كل الجهود في هذا الهدف النبيل عبر سلسلة من المحطات الترويضية لجموح الشهوات ونوازع الشبهات بقصد تأطير النفس وتربيتها على طاعة الله تعالى وتحقيق نية الاستثمار في اليوم الأخر.

وفي سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل أقترح عليك المخطط التربوي التالي كمشروع للتدريب المكثف (والتربص المغلق) الذي سوف يكون له هدفان واضحان:

1- إعادة تنظيم الحياة الفردية لكل راغب في أن يكون إيجابيا وفعالا ونافعا لنفسه ومفيدا لغيره وطامعا في الفوز بالجنة إن شاء الله.

2- تدريب النفس على التخلص من العادات السيئة وتخليصها من ذنوب العام الماضي وما قبله وترويضها على طلب المعالي والتطلع إلى الهمم العالية بتجاوز المظاهر السلبية والطاقات المعطلة وكل أشكال الهوان وجميع ملهيات النفوس بما هو من مظاهر تضييع الوقت في الاشتغال بالدون من مزجيات الفراغ.

ولكي أكون واضحا أكثر وعمليا أقترح عليكم خطة واقعية إيجابية ليوم واحد (24 ساعة) من أيام شهر رمضان المعظم كعينة نموذجية يتم إنجازها وتعميمها على 30 يوما بنفس الوتيرة، مقسمة إلى أربع مجموعات على (أربعة أسابيع) تبدأ يوم أول رمضان وتختتم يوم عيد الفطر المبارك.. على النحو التالي:

- الليلة الأولى من رمضان يغتنمها كل فرد فرصة للتحضير النفسي والفكري والجسدي والروحي تأهبا للانخراط في مدرسة الصوم بنية تحقيق سبعة أهداف جوهرية تسخّر لها كل الطاقات وترصد لها جميع القدرات والإمكانيات لتحصيلها جميعا، أي 7 على 7، وهي:

1- التوبة النصوح بإقلاع عن كل ما كان يشغلك عن طاعة الله تعالى، فما فات قد يكون مهما، وإنما الأهم منه ما بقي من حياتك والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

2- التخلص من السلبيات: بترك التردد والعزم على بداية جديدة هي بداية صفحة مهمة في حياتك، فأنت طاقة جبارة مطمورة تحت مشاعر التواضع أو هي إمكانيات إيمانية وفكرية مخبوءة بين طيات مخاوفك.

3- توسيع نظرتك للحياة، فأنت أكبر من حيز البلدية وأوسع من جغرافية الولاية والعين التي كنت تقدر بها الأمور بالأمس هي بحاجة اليوم إلى استشراف المستقبل بأن تتطلع إلى المعالي وتتحرر من كل مشاعر البكاء على الأطلال والتحسر على الماضي.

4- تجديد علاقتك بالله، والنفس، وعالم القيم وعالم الأشياء: فالتجديد سنة إلهية، وما أبهى أن يكون هذا العزم على التجديد في شهر فيه ليلة خير من آلف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيامه تطوعا، كما جعل الفريضة فيه بسبعين فريضة فيما سواه والنافلة كأنها فريضة فيما سواه.

5- تقييم مسار حياتك بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات وعوائق، والعزم على تثمين الإيجابيات وتقوية المحاسن وشطب السلبيات والتخلص من الانهزامية، وطي صفحة الأمس والشروع في كتابة صفحة جديدة عنوانها إلاّ من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات...

6- حدد لنفسك قضية أو رسالة أو هدفا كبيرا واضحا تعيش من أجله وتسخر كل حياتك وجهدك ووقتك ومالك لخدمته، فالأهداف المشتتة تربك المسار وتبدد العزائم، وما أعظم أن تكون الغاية من كل حياتك مرضاة الله تعالى: الله غايتنا.

7- تجديد العهد بإعادة مراجعة الأصول والتدقيق في معاني ومقتضيات الأركان، فإن العهد مع الله التزام وانضباط، والأمانة ثقيلة ولا يقوى على حملها إلاّ من قيّد نفسه بإيمان عميق وفهم دقيق.. وألزم نفسه بعهد لا يخلعه إلاّ ناقض شرعي: ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما.

الطريق من هنا:

إذا كنت مقتنعا بهذا فاعزم وتوكل على الله واتبع الخطوات التالية:

أولا، يستحب أن تكون البداية ليلة الجمعة –قبل بداية شهر رمضان المعظم- فإذا تعذر ذلك فليلة أول رمضان ويتم فيها التحضير المعنوي بالنية الصادقة، وتهيئة النفس بأربع خطوات مهمة:

- غسل بنية استقبال رمضان (طهارة حسية ومعنوية).

- قيام ليل خفيف بذكر ودعاء وتوسل وجؤار وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .. الخ.

- شطب كل ما كان يشغلك من هموم صغيرة والتفرغ لشأن كبير ليلة تفتح فيها أبواب الجنان وتغلق فيها أبواب النيران، وتصفد الشياطين.. وينادي المنادي يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أدبر..

- العزم على لجم اللسان بالذكر والشكر، والصوم عن أمراض اللسان العشر ( الكذب، اللغو، الغيبة، النميمة، شهادة الزور، الجدل، الرفث، الفسوق، القيل والقال، وكثرة السؤال) وتدريب اللسان على أن يكون رطبا بذكر الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وذكر محاسن الناس، وكثرة الاستغفار والدعاء وقراءة القرآن والمأثور من الأدعية والأذكار..

والاستمرار على ذلك إلى غاية ليلة الصيام، حيث، بمجرد التأكد من رؤية الهلال، تبدأ رحلة الولوج إلى ملكوت السماوات بكثرة النوافل والأدعية المأثورة، وبعدها يتم عقد النية (على صيام الشهر كله وقيام لياليه والاجتهاد في التقرب إلى الله تعالى) وسؤاله سبحانه العون والتوفيق والقبول ويستحب أن يكون ذلك جماعيا (مع الأسرة أو مع بعض الإخوان أو الأقارب وسواهم من موقع: وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

- الاجتهاد في أداء صلاة التراويح جماعيا.

- الحرص على إحياء سنة السحور: ما تزال أمتي بخير ما عجلت الفطر وأخرت السحور.

- الحرص على صلاة الفجر في جماعة، وإيقاظ الأهل والأبناء لتحصيل بركات هذا الأجر العظيم حيث تشهده الملائكة عليها السلام: إن قرآن الفجر كان مشهودا.

المحطات الكبرى:

أنت الآن طالب أجر في مدرسة الصيام، وعليك أن تتبع الخطوات المؤدية إلى تحصيل المقاصد الكبرى التي جمعتها كلمة واحدة هي قوله تعالى: لعلكم تتقون، والتقوى هي السلاح الأقوى.

وها قد جاءتك الفرصة السنوية، وبدأ أول يوم من أيام رمضان الكريم، وأنت قد سجلت نفسك متربصا (متدربا) في مدرسة الصبر والاحتساب: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه فإليك هذا النموذج المثالي ليوم واحد من حياة عباد الرحمن، اليوم = 24 ساعة اضبطها كالآتي:

- في أول أيام رمضان، استيقظ ساعة قبل الإمساك (استعن بمنبه إذا كان نومك ثقيلا) وليكن لسانك سباقا بمأثور دعاء الاستيقاظ من النوم، يليه الوضوء، فركعتان خفيفتان، ثم جلوس لقراءة شيء من كتاب الله تعالى أو من الذكر أو الأدعية بانتظار إعداد وجبة السحور ( ولو كانت تمرة أو مشروبات أو فواكه أو ماء.. مع استحسان تجديد نية صوم اليوم).

- الاجتهاد لتأدية صلاة الفجر في جماعة.

- المحافظة على الورد اليومي من كتاب الله تعالى.

- المحافظة على الورد اليومي من الأدعية المأثورة، مع تحبيذ إشراك غيرك معك التماساَ لأجر الجماعة (الأهل، أو بعض المؤمنين.. الخ).

- الاستعداد للعمل أو الدراسة أو سواهما.. (العمل عبادة).

- المحافظة على تأدية نافلة الضحى، وسائر الرواتب والنوافل المسنونة.

- المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة (وفي المسجد أولى).

- الحرص على فعل الخير، دون الزهد في أي فضل حتى الكلمة الطيبة وإفشاء السلام: الكلمة الطيبة صدقة.

- الوضوء قبل آذان المغرب والجلوس إلى الإفطار مع العائلة أو مع بعض أهل الإيمان، واغتنام فرصة الانتظار لتعلم من معك دعاء الإفطار أو أي شيء نافع (ولو كلمات لتطييب القلوب وطمأنة النفوس).

- الإفطار على ما تتم به السنة: ثم الدعاء المأثور.

- تأدية صلاة المغرب جماعة، والحرص على ذلك ثم شكر الله على نعمه، ودعوات بالخير للجميع.

- استكمال وجبة الإفطار، وبعد الفراغ والدعاء اجعل لنفسك فترة راحة قصيرة: (فترة راحة اجعلها نافعة لك بما يعينك على صلاة القيام (التراويح) مع إمكانية توجيه موعظة للعائلة أو مع من أفطر معك من المؤمنين).

- تجديد الوضوء والذهاب إلى المسجد لتأدية صلاة العشاء والتراويح (وحضور بعض الدروس الرمضانية). مع المحافظة على الآداب والاجتهاد في تحصيل الأجر.

- السهر بعد التراويح ليس محبذا إلا إذا كان محسوبا للطاعة، أو مخططا له بنية العبادة (كصلة الأرحام وإصلاح ذات البين.. الخ) أو كان عرضا لا يتحول إلى عادة، ويحبذ قضاء بعض الوقت مع ذوي الأرحام في سهرات ليالي رمضان الفضيل.

- الإيواء إلى الراحة (النوم)، بعد محاسبة النفس، على وضوء وتعويد النفس على الذكر والشكر والطاعة قبل النوم وعند الاستيقاظ.

ملاحظة:

صمت الصائم تسبيح ونومه – خارج أوقات العمل- عبادة، لذلك يمكن أن يستعين الصائم، عند الحاجة، بقسط من النوم نهارا (في وقت مناسب) بنية الاستقواء بالقيلولة على تأدية العبادات (الصيام والقيام والتلاوات والذكر..) دون أن يكون ذلك على حساب العمل أو الدراسة.. مع استحضار نية الطاعة في كل حركة وسكنة..



وأخيراَ، دعوة لتحسين الرصيد: رمضان فرصة لتحسين الرصيد، وتحويل السيئات إلى حسنات.

أخي الصائم:

هذه فرصة سنوية استثنائية - تشبه التخفيضات السنوية - يمنحها لك الله تعالى بمنه وفضله وكرمه.. جعلها لك، ولكل مسلم، محطة مهمة في مسار حياتك، تستطيع أن تحسّن فيها رصيدك من الحسنات إذا التزمت بالخطة التي عرضناها عليك، ثم إذا وفرت لذلك شرطين لازمين:

- الإيمان المستوعب لرسالتك في الوجود.

- الاحتساب الذي تفوّض به - بعد الإخلاص والصواب - كل تعب ونصب لله رب العالمين: ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) .

موقع إسلاميات
أضافة تعليق