مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الفخ الخليجي أمام مرسي
ناصر يحيى
(1)
ظلت السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة طوال عقود أنموذجا للسياسة الهادئة، الحريصة على الابتعاد عن استفزاز الآخرين، وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية، والنأي عن تصعيد أي توتر قد يطرأ في مسألة ما. وعلى سبيل المثال؛ فعلى الرغم من أن (الإمارات) تعد قضية احتلال إيران للجزر الثلاث (طنب الكبرى، طنب الصغرى، وأبو موسى) أبرز قضاياها الوطنية؛ إلا أن الأمر لم يصل يوما إلى مستوى إعلان العداء الصارخ، وقطع العلاقات الدبلوماسية، فضلا عن الإساءة للجالية الإيرانية الضخمة التي تعيش في الإمارات. وقد ظلت هذه السياسة الخارجية كذلك حتى رغم وجود تمايزات في بعض السياسات الداخلية بين تلك الإمارة أو تلك؛ فقد ترك حكام الإمارات شؤون السياسة الخارجية للحكومة الاتحادية مع احتفاظهم لأنفسهم بهامش في التحرك وفق مصالح كل عائلة حاكمة، وحتى لو كان ذلك التحرك قد لا يتفق مع مصالح إمارة أخرى في بعض الجوانب.
مناسبة هذه المقدمة ما صدر خلال الفترة الماضية عن قائد شرطة دبي (ضاحي خلفان) من تصريحات نارية تجاه بعض قضايا السياسة الخارجية؛ أو التي لها علاقة ما بها وألقت بظلال سوداء على بعض مواقف دولة الإمارات وخاصة تجاه تطورات الأحداث في مصر؛ فقد بدا الأمر – رغم الطابع المسرحي للتصريحات الخلفانية!- وكأنه طفرة درامية صادمة غير مفهومة في السياسة الخارجية والإعلامية الإماراتية؛ فالرجل ليس مواطنا عاديا ولا من الشبان هواة الإنترنت لقضاء وقت الفراغ حتى يقول ما يشاء وفي مجال ليس من اختصاصه أصلا. خلفان هذا كما هو معروف يتولى مسؤولية داخلية رفيعة المستوى في شرطة إمارة دبي.. لكن ذلك لا يؤهله للحديث في مواضيع سياسية خارجية بهذه الحساسية تصنع للإمارات أعداء من بيتها العربي في وقت هي في أشد الحاجة لكسب قلوب أبناء الأمة العربية.. وكما أن تصريحاته تتناقض تماما مع الأساليب الهادئة غير الصدامية المعروفة عن القادة الإماراتيين سواء في الحكومة الاتحادية أو في الإمارات المنضوية تحتها؛ فهي كذلك تتناقض مع الموقف الإماراتي الإيجابي المعلن تجاه الانتخابات الرئاسية المصرية التي انتهت بفوز د. محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة الذراع السياسي لحركة الإخوان المسلمين.
ولكل ما سبق؛ فالراجح أن تصريحات (خلفان) السياسية الشاذة المتكررة هذه لا توحي بأنها مجرد قناعات شخصية، وخاصة أنها أساءت لبلد بحجم مصر، وشعب كالشعب المصري له تاريخ عظيم في دعم أشقائه العرب والخليجيين. كذلك كان غريبا أن تتورط دولة مثل الإمارات العربية – أو بالأصح يورطها رجل شرطة في إحدى إماراتها- في خوض معركة إعلامية مع حركة سياسية عالمية مثل الإخوان المسلمين ربما كان لديها من الأعضاء ما يفوق سكان الدولة كلها.. كل ذلك غريب؛ فالإمارات دولة مهمة في المنطقة العربية، وهي ليست من نمط دولة القذافي، ولا هي محكومة بمجموعة من العصابات أو العشائر البدائية المتنافرة حتى يجعل شخص مثل (خلفان) من نفسه بديلا للدولة، ويمنح نفسه حرية في أن يقول ما يقول ولو كان فيه إساءة للآخرين.. نقول هذا من باب حسن الظن بأشقائنا الإماراتيين لكن الراجح أن (خلفان) تمادى في تصريحاته لأنه يؤدي دورا معينا ليس بالضرورة أن تكون الدولة موافقة عليه بقدر ما هو تعبير عن توجهات مجموعات مصالح معقدة يمثل أنصار المخلوع مبارك ضلعا مهما فيها
(2)

برز قائد شرطة دبي في الإعلام عندما ظهر في مسرح الأحداث في أعقاب اغتيال القيادي الفلسطيني (الحمساوي) محمود المبحوح في أحد فنادق دبي من قبل مجموعة من رجال المخابرات الصهيونية الذين دخلوا دبي ونفذوا جريمتهم ثم خرجوا بهدوء. ويومها لفت انتباه العالم سرعة حصول شرطة دبي على المعلومات الأولية عن الصهاينة القتلة وكيف دخلوا وكيف خرجوا، ومن أين جاؤوا وإلى أين غادروا.. ومن الطبيعي أن نكون نحن اليمنيين أكثر الناس انبهارا بما حدث؛ فاليمنيون متعودون على أن الجرائم لا تنكشف أبدا في بلادهم إلا إذا عجز الجناة عن الفرار أو إخفاء أنفسهم لأمر ما مثل الموت أو كانوا رعية تدافع عما تظنه حقوقا مغتصبة من متنفذين.. أما في العادة فالذي يحدث عندنا هو إلقاء القبض على المجني عليهم وفرار الجناة ومن قلب العاصمة والمدن الكبرى!
ومن الواضح الآن أن نجاح شرطة دبي في الكشف عن المعلومات المشار إليها كان يعود فضله في الدرجة الأولى إلى شبكة الكاميرات المنتشرة في المطارات والفنادق، وقادت بسهولة إلى استنتاج هوية الجناة من أقسام الجوازات في المطارات. وإلى هنا توقف النجاح على حد علمنا، وماتت القضية ولم يكن ممكنا إحضار قاتل واحد للتحقيق معه ومحاكمته رغم معرفة أسمائهم ونشر صورهم على العالم كله.. فكل بلد في هذا العالم له مقام معلوم، وما يصلح الصراخ به داخل بلد لا يعني أن أصحابه قادرون على أن يجيبوا الذئب من ذيله!
وفيما بعد؛ طفا اسم (خلفان) في وسائل الإعلام على خلفية تصريحات نارية أعلنها على خلفية بعض الأحداث العربية؛ مثل الثورة الشبابية في اليمن، وأحداث مصر، وتجاه حركة الإخوان المسلمين.. وصولا إلى ما نسب إليه مؤخرا من تصريحات مهينة بعد فوز المرشح الإسلامي د. محمد مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية. وفيما يتعلق بمصر فالثابت أن (الإمارات) كانت تحتفظ بعلاقات قوية جدا وخاصة مع نظام المخلوع حسني مبارك ورموزه، وكانت هي الدولة الوحيدة التي أرسلت أحد مسؤوليها إليه في أيامه الأخيرة تعرض عليه استضافته إن أراد الخروج من مصر. وكذلك كشفت أحداث ما بعد سقوط مبارك عن تميز تلك العلاقة؛ فعدد من كبار رجال مبارك: سياسيين ورجال أعمال غادروا مصر إلى الإمارات واستقروا فيها، وكذلك فعل المرشح الخاسر/ أحمد شفيق بعد أيام قليلة من فشله عندما غادر القاهرة وتوجه إلى الإمارات دون أن ينسى أنصاره أن يعلنوا أنه غادر مصر لأداء العمرة! ومن قبله قيل إن عائلة نائب مبارك/ (عمر سليمان) غادرت إلى الإمارات قبيل ساعات من إعلان النتيجة النهائية للانتخابات (استنتج البعض يومها من ذلك فوز مرسي وخسارة شفيق).. وفي الشارع المصري أخبار عديدة عن دعم سخي حصل عليه (شفيق) من داخل الإمارات بالذات!
(3)
ليس في متانة العلاقات بين الإمارات ومصر أيام مبارك شيء غريب ولا خطأ؛ وإن كان من الواضح أنها علاقات بنيت على أساس جرف غير متين؛ لأنها قامت – على العادة العربية الشهيرة- على علاقات شخصية بين الحكام وليس مصالح الشعوب الثابتة، وربما يجد هذا التوصيف تأييدا له من خلال تصريحات خلفان المسيئة لمصر وقيادتها في العهد الجديد دون مراعاة سوء انعكاس ذلك على البلدين طالما أن عهد مبارك قد انتهى!
والخشية الآن أن تكون تصريحات خلفان الغريبة مقدمة لما هو أسوأ، ويبدأ نوع من المواجهة المعادية للعهد الجديد في مصر بإثارة عدد من الأزمات الخارجية؛ حيث يتم استدراج المصريين إليها عبر توجيه الإهانات الإعلامية، وتنفيذ سلسلة من ممارسات الإذلال للمغتربين المصريين في أكثر من بلد خليجي تؤدي إلى توتير العلاقات المصرية الخليجية، ويكون ثمنها الفادح هو طرد أو الاستغناء عن بضعة ملايين من العمالة المصرية، وإعادتهم إلى بلادهم المثقلة بتركة مبارك من الفساد، البطالة، والفقر، والأزمات المعيشية في تكرار مؤسف لما حدث عقب الاحتلال العراقي للكويت بالنسبة لليمن.
تبدو هناك فوارق بين الحالتين: اليمنية (1990) والمصرية (2012) قد لا تسمح بتكرار الأزمة.. ففي الحالة اليمنية كان المجتمع اليمني يومها قد حقق أحد أعظم أهدافه الوطنية بإعادة توحيد شطري اليمن، الأمر الذي تسبب يومها في ارتفاع الحالة الحماسية والاعتزاز الوطني إلى درجة غير متحكم بها، بل لم يكن أحد – إلا القلة- قادرا على مواجهة أخطائها وعنترياتها.. وانعكست حالة المزايدات تلك حتى على قيادة اليمن (الائتلافية) فحدث نوع من التسابق على التهييج الإعلامي وعدم تقدير العواقب من الجميع. وفي المقابل يبدو الأمر في مصر أكثر انضباطا إلى حد كبير؛ سواء من القيادة العسكرية والمدنية أو من الأحزاب الكبيرة التي يأتي الإسلاميون في مقدمتها. وعندما أقفلت السعودية سفارتها وقنصلياتها في مصر احتجاجا على تعرض متظاهرين لها تضامنا مع محام مصري اعتقل في جدة بتهمة تهريب أدوية ممنوعة؛ حينها سارع الإسلامي (سعد الكتاتني) رئيس مجلس الشعب المصري إلى رئاسة وفد برلماني وشعبي كبير (شارك فيه ماركسيون مثل أبو العز الحريري وفنانون ورموز مجتمع مدني) ذهب إلى السعودية وقابل الملك عبدالله لوأد الفتنة في مهدها. ونجحت تلك الخطوة بصورة مدهشة في تحقيق أهدافها، وعكست وعيا مصريا مسؤولا في الحفاظ على مصالح البلد العليا، وعدم ترك الساحة للمهووسين بتحويل العلاقات بين الشعوب إلى كرة يتقاذفونها دون أي إحساس بمسؤولية. (كالعادة لم ينج الإسلاميون من الاتهام بهدر كرامة مصر من أجل 3 ملايين عامل مصري في السعودية.. وروج خصوم الإسلاميين لأكذوبة أن الملك عبدالله طلب اعتذارا من الوفد المصري وبيانا يدين إيران لحساب السعودية! والمثير للدهشة أن الذين يثيرون في مصر الدنيا ضد العلاقات مع دول الخليج وخاصة السعودية كانوا هم أقوى مؤيدي مرشح نظام مبارك المدعوم خليجيا وفاء للمخلوع مبارك!).
(4)

وبالنظر إلى موقع مصر الجغرافي، ومكانتها الإقليمية، وأهميتها الدولية، وإمكانياتها المادية والبشرية؛ فإنه من الصعب تكرار الأنموذج الإجرامي في حصار غزة.. لكن اللعبة المتوقعة ؛في حالة الإصرار على إفشال العهد الجديد؛ ستقوم على إثارة الأزمات الأمنية والمعيشية في الداخل في وجه الرئيس الجديد (يمكن القول إن ذلك قد بدأ منذ شهور طويلة لتخويف المصريين وإقناعهم بأن الثورة لم يأت منها إلا الفوضى والتأزم الاقتصادي وهروب السياح والاستثمارات الأجنبية، وأن الحل هو في رئيس من العسكر يعيد الأمن المفقود!).. ومن الخارج سيعملون على تفجير العلاقات المصرية مع دول الخليج خاصة.. ولعل تصريحات خلفان مؤشر مبكر على نوعية الأساليب التي سوف تستخدم للإضرار بمصر الجديدة
يبقى أن هناك أمل كبير أن تتنبه القيادة الإماراتية الاتحادية وفي إمارة دبي لخطورة الدور الذي يؤديه الفندم خلفان، فمن المعيب أن بعض العرب في الوقت يبدون متلهفين على مراعاة دول معادية لهم مثل إسرائيل يهرولون لتقطيع أواصرهم مع بلدان عربية نجحت شعوبها في خلع زعاماتها الفاسدة وتعمل لتأسيس بداية سليمة لمستقبلها.
وعلى رأي فنان الثورة/ محمد الأضرعي: فيها شيء؟ لا ما فيها!
* المصدر: أسبوعية الناس
أضافة تعليق