مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
غزة وموت النظام العربي
لم يزل صدى كلمات رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين، تلك التي تمنى فيها أن يصحو ويجد غزة وقد ابتلعها البحر، يتناثر في تاريخ ووجدان الإسرائيليين، ذلك أن غزة لم تكن في تاريخها، بالنسبة لإسرائيل، سوى كتلة ديمغرافية هائلة لا يصلح معها الاستعمار ولا الاستثمار، وبالتالي فالخلاص منها والابتعاد عنها يبقى أسلم الحلول وأقلها كلفة.
’’
غزة مرشحة لأن تتحول إلى أكبر مصدر لإنتاج خطاب سياسي معارض داخل الدول العربية كلها، يشكل إحراجا سياسيا للأنظمة الحاكمة، ويتعداه إلى تشكيل نمط جديد من الحركات السياسية
’’
لكن من الواضح أنه ليس إسرائيل وحدها من يتمنى غياب غزة عن خارطة المنطقة، فالعرب بدورهم ليسوا أكثر رحمة من إسرائيل بغزة، فهي في الذهنية السياسية العربية ليست سوى آلة ضخمة لإنتاج البشر، فضلا عما تكدس فيها من لاجئين، كذلك هي المجهر الكاشف للانكسار العربي بصمودها وجوعها وموت أطفالها وصراخ نسائها.
ثم إن غزة -وهو الأهم من كل ذلك- باتت أو هي مرشحة لأن تتحول إلى أكبر مصدر لإنتاج خطاب سياسي معارض داخل الدول العربية كلها، يشكل إحراجا سياسيا للأنظمة الحاكمة، ويتعداه إلى تشكيل نمط جديد من الحركات السياسية تحت عناوين ’’الكرامة العربية’’ و’’الثأر لغزة’’ وسواها مما باتت تظهر ملامحه في الشارع السياسي العربي من مشرقه إلى مغربه.
هذا كله والأنظمة العربية، تتحسس قلبها صباحا ومساء، من اتساع مد الظاهرة الإسلامية، سواء في شوارعها أو في برلماناتها وأطرها السياسية المختلفة، والتي ما تنفك الأوضاع الغزاوية تزيد في بلورتها وتقويتها.
ربما من سوء حظ غزة وحظ عربانها أنها أنتجت أحلامها الكبرى في الاستقلال والكرامة في زمن كان فيه النظام العربي يتقهقر، ويشهد تراجعا كبيرا في قدرته على التعامل مع تطورات القضايا الإستراتيجية على ساحة المنطقة، وذلك بسبب الانقسام الداخلي الذي يعاني منه، نتيجة انتماء أطرافه إلى تحالفات متعارضة، أو نتيجة الضغوط الأجنبية التي تمارس عليه -عبر دوله- لاتخاذ مواقف في اتجاه أو آخر لخدمة مصالح غير عربية، فضلا عن تعدد الأزمات التي تطارده في وقت واحد مع عدم قدرته على مواجهتها من واقع عجزه عن اتخاذ قرارات واضحة أو مواقف حاسمة.
واليوم، وغزة تذبح وعيون العرب شاخصة تشاهد موتها، يعلن النظام العربي إفلاسه صراحة وتآكل دوره وشلل قدرته على الحركة فهو لا يستطيع وقف هذا العدوان السافر ولا التدخل في المعركة، ولم يجد هذا النظام حرجا من اللجوء إلى تركيا وغيرها، لإيجاد مخرج غير عربي لحل أزمة إقليمية هي من صميم اختصاصه بالدرجة الأولى.
أليس الأولى أن يكون هو صاحب المبادرة والحضور في قلب الحدث وتداعياته؟ أليس هو المسؤول عن وجود دور وقرار له؟ وهو المسؤول الأول عن مصالح الأمة وأمنها وحجم مجالها الحيوي في العالم واستكشاف مستقبلها في ضوء المعطيات والمتغيرات الدولية؟ ألم تشكل أحداث غزة فرصة لهذا النظام لكي يكون حاضرا وبقوة في مفاصل السياسة الدولية؟
’’
عودة النظام العربي إلى موقع القرار وموقع الدور الحاسم وموقع حساب المصالح القومية، ليست بالأمر السهل، فهناك فشل واضح لمشروع السلام العربي، وهناك عدم جدية في التعامل الأميركي مع مشروع السلام العربي، وهناك دائما اختراقات في هيكل النظام الإقليمي العربي
’’
لقد تغير مفهوم الدور العربي بتغير المعطيات الإستراتيجية على ساحة المنطقة، ولم يعد يدور حول المقولات التقليدية للقيادة والريادة، وإنما أصبح يرتبط بقدرة المنظومة الإقليمية على التعامل الإيجابي في المجالات السياسية والاقتصادية بوتيرة ومنهجية وإيقاع متصاعد، لخلق نمط للعمل المشترك يقوم على أساس تنسيق المواقف وتراكم المصالح وليس التركيز على الجانب الصراعي الذي يحكم المفهوم التقليدي، فإن المعتقد هو أن القيام بهذا الدور لم يعد من مهمة أو من قدرة دولة عربية واحدة، وإنما يتطلب أن تضطلع به مجموعة من الدول العربية الرئيسية والفاعلة التي تمتلك تصورا أساسيا مشتركا لوظيفة المنطقة ولدورها على ساحتها، مما يجعل مهمتها أشبه بـ’’القاطرة’’ التي تشد النظام العربي وتوجه حركته.
ولا شك أن عودة النظام العربي إلى موقع القرار وموقع الدور الحاسم وموقع حساب المصالح القومية، ليست بالأمر السهل، فهناك فشل واضح لمشروع السلام العربي، وهناك عدم جدية في التعامل الأميركي مع مشروع السلام العربي، وهناك دائما اختراقات في هيكل النظام الإقليمي العربي، وهي اختراقات عميقة جدا وتحتاج إلى حكمة وشجاعة في التعامل معها.
ربما لا يكون بمقدور غزة المثقلة بأوجاعها، ولا من مهمتها، تصويب مسار النظام العربي أو ترميمه، لكنها بأحداثها الموجعة لا شك ستدفع هذا النظام إلى الاستقالة علنا ونهائيا معترفا بعجزه المطلق، أو تدفع بحراك سياسي على مستويات أخرى (شعبية ونقابية) إلى البحث عن إطار آخر يستطيع تخليص الشعوب العربية من وجع الإحساس بالعجز وربما المشاركة في عملية الذبح العظمى.
ذلك مشهود له في تاريخ غزة السياسي، فذلك الحيز الجغرافي الذي يضيق بناسه، أول من ابتدأ في تغيير قومييه إلى إسلاميين وذلك في وقت مبكر من انكسار المشروع العربي بعد حرب عام 1967، حين كان الشارع العربي لا يزال مخمورا بالشعارات القومية التي تعلن قدرتها على تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وستلتقط الشوارع العربية ذاك التحول الغزاوي لتنسج على منواله تحولات قريبة في الشكل والمضمون.
’’
غزة اليوم، وبرغم كل وجعها وفقرها، تفتح أعين العرب على حقائق ربما شغلتهم الأيام والهموم عنها، وهي أن الدولة العربية التي انزاحت عن وظيفتها ودورها الأساسي، لتتحول إلى مزرعة، لم يعد بمقدورها الانتصار لغزة فحسب، ولكنها أيضا غير قادرة على حماية مواطنيها وحفظ كرامتهم
’’
وغزة ذاتها هي التي اجترحت حلا تاريخيا لأزمة المقاومة بعد إبعاد المقاتلين الفلسطينيين إلى تونس حيث كشفت غزة في انتفاضاتها المتتالية عن آليات وأدوات جديدة للنضال من الحجر والبشر وحتى الأسنان.
وغزة أيضا وأيضا، هي التي ستنهض من بين الجموع العربية لتعلن أن ’’الملك عار’’، يوم توجه العرب بقضهم وقضيضهم ينشدون السلام، ويطلبون من إسرائيل حفظ دمائهم وماء وجوههم، ويمنون أنفسهم بالرخاء والطمأنينة، حينها ستعلن غزة أن هذا السلام ناقص ناقص ما لم تعد الحدود والحقوق والسيادة، وستصر غزة على مقولاتها برغم كل أنواع العقوبات التي ستطالها.
وغزة اليوم، وبرغم كل وجعها وفقرها، تفتح أعين العرب على حقائق ربما شغلتهم الأيام والهموم عنها، وهي أن الدولة العربية التي انزاحت عن وظيفتها ودورها الأساسي كحاضنة للمواطن، ومحققة لآماله في العيش الكريم والآمن، لتتحول إلى مزرعة، لم يعد بمقدورها الانتصار لغزة فحسب، ولكنها أيضا غير قادرة على حماية مواطنيها وحفظ كرامتهم، وهذا النمط من الدول بات ملحا التفكير في مساراته ومصائره، قبل أن يتحول أهلوها إلى غزاويين آخرين.
ياليت غزة تكتفي ببعض الطحين وتغلق فاها، ويا ليت غزة ترتقي إلى مستوى عال من الإدراك وتقدر عجزنا، بل ياليتها تعتبر النار الإسرائيلية عليها مجرد ألعاب نارية كتلك التي نطلقها في المناسبات لدينا، ويا ليتنا نصحو ونجد غزة وقد أغرقت نفسها في البحر لترتاح وتريح، وإن لم تفعل فيا ليتها ابتلعها البحر.. آمين آمين (ملاحظة: هذه أدعية خاصة بالأنظمة العربية في هذه الأوقات).
ـــــــــ
كاتب فلسطيني
* عن الجزيرة نت
أضافة تعليق