مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
وآخرون ببطن الأرض أحياء
وآخرون ببطن الأرض أحياء

بقلم / محمد حامد عليوة

الحمد لله المتفرد بالجلال ، المحمود علي كل حال ، المعبود بالغدو والآصال ، والصلاة والسلام علي محمد وصحبه والآل وبعد ، فقد أكرمنا سبحانه وتعالي بنعمة الإيمان ، ومن علينا بنعمة الإسلام ، وأرسل فينا خير رسول أرسل وأنزل لنا خير كتاب أنزل ، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر ، وقد أعزنا الله بالدعوة إليه والعمل لدينه في زمن قل فيه العاملون وكثر فيه القاعدون عن نصرة الدين والدعوة إليه بإحسان ، ونعمة الدعوة فضل من الله واصطفاء منه سبحانه لبعض عباده رغم أنها واجب علي الجميع كل في ميدانه ومجاله امتثالا لقوله تعالي ( قل هذه سبيلي أدعوا إلي الله علي بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) .

ولأن الدعوة الي الله شرف وعز لنا ، فقد نقلنا الله بسببها من دائرة السكون والهزل إلي ميدان الحركة والجد ، ومن دائرة الانشغال بالنفس الي ميدان الاهتمام بالغير من غير إهمال للنفس ، ومن دائرة السلبية والعجز إلي ميدان الإيجابية والبذل ، ومن دائرة الهمل إلي ميدان العطاء والأثر .

فبارك الله بها الأعمار والأوقات ورفع بها الدرجات وأعطي بها الأجر وأحسن بها الذكر .

ما أروع الحياة في كنف الله :

kon-maa-.gifإن الحياة الحقيقية ما كانت في كنف الله و طاعته والعمل لدعوته والتضحية في سبيله وفي السعي لقضاء حاجات عباده ، أما من حرم هذه النعم وعاش بعيدا عن ربه منشغلا بنفسه غير نافعا لغيره فهو في عداد الأموات وإن كان يأكل ويشرب ويمشي بين الناس .

قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام 122.

بل إن عباد الله الصالحين العاملين الذين ضحوا من أجل دعوتهم ودينهم تمتد حياتهم بعد موتهم ، في الوقت الذي يحيا فيه أناس يأكلون ويشربون ولكن لا أثر لحياتهم فيمن حولهم .

والسبب في امتداد حياة المجاهدين العاملين هو ما قدموه مخلصين لله فيه ، وما بذلوه يرجون من وراءه الأجر لا الذكر فيحي الله أعمالهم وتظل آثارهم الطيبة تتحدث عنهم ، وتبقي أخلاقهم وأعمالهم ومواقفهم يقتدي بها الناس فيؤجرون بذلك وكأنهم أحياء يعملون الصالحات وينالون الحسنات ورحم الله من قال :

الناس صنفان موتي في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء من أصناف الناس في الحياة :

(1) صنف يعيش لنفسه :

هو صنف من الناس يولد بميلاده لكنه يموت بموته ، قد يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض لكنه طول حياته لا ينشغل إلا بنفسه ولا يهتم بما يدور حوله ، حريصا علي كل شيء يخصه ، تجده سعيدا فرحا لأن خيرا عاد عليه ، وتراه مهموما حزينا لأن مصابا ألم به .

هذا الصنف من الناس تنقضي حياته بمجرد موته ، لأن أثره الإيجابي فيمن حوله محدود ، لا يمتلك رصيدا في قلوب الناس ، لأنه لم يشاركهم أحوالهم ولم يحسن التواصل معهم ، ولذلك سرعان ما ينسي ، فلا أثر له ولا ذكر له .

والمسلم الحق مطالب أن يحسن معاملة الناس والتواصل معهم ، والتحرك بالخير بينهم ، بل مأمور بحسن التعامل مع جميع الخلق حتى مع الحيوانات ، ألم تدخل امرأة مؤمنة النار في هرة حبستها لاهي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ؟ ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال (عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار ، لاهي أطعمتها وسقتها إذا هي حبستها ولاهي تركتها تأكل من خشاش الأرض) أخرجه الشيخان .

والمسلم الحق هو من تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر بمعني أن يكون لهذه العبادة وغيرها أثر في حركته بين الناس وعلاقاته معهم وإلا قد لا تقبل صلاته وعبادته إذا لم يستقيم سلوكه (يقول الله تعالى في حديث قدسي : إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي و لم يستطل على خلقي و لم يبت مصراً على معصيتي و قطع نهاره في ذكرى و رحم المسكين و ابن السبيل و الأرملة و رحم المصاب ذلك نوره كنور الشمس ، أكلؤه بعزتي ، و أستحفظه بملائكتى ، أجعل له فى الظلمة نوراً و في الجهالة حلماً ، و مثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة ) رواه ابن عباس .

(2) صنف يعيش لغيره :

هو صنف من الناس لم يهمل نفس ويهتم بشئون الآخرين ، ولكنه مع انشغاله بنفسه اهتم كثيرا بمن حوله ، ولذلك يولد بميلاده لكنه لا يموت بموته ، لأن أفعاله وأعماله الصالحة التي أخلص فيها لله أحسنت ذكراه في العالمين ، ويتقدم هذا الصنف من الناس أنبياء الله ورسله ومن سار علي نهجهم من المصلحين والدعاة إلي يوم القيامة .

فجميع الأنبياء والرسل بعثهم الله من أجل تبليغ دعوة الله إلي الناس ، وإرشادهم إلي طريق الهداية والصلاح ، فقوبلوا بتعنت من أقوامهم فصبروا علي أذاهم من أجل صلاحهم وهدايتهم ، فمنهم من سجن من أجل قومه ومنهم من عذب وشرد ، بل منهم من قتل وهو يدعو قومه الي الله .

وعلي هذا الدرب سار صحابة رسول الله ، فأحسن الله ذكرهم في العالمين .

فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه كان قبل إسلامه يرعي بضع غنمات لسيده في البادية ، فهو مملوك لسيده مع ما يرعي من أغنام ، وبالتالي ماذا إن مات وهو يرعي الأغنام ؟ هل كنا سنعرفه ؟ بل ما هو وزنه في حسابات سيده ؟ وما وزنه في تاريخ البشرية إذا مات في هذه الحالة ؟ ولكنه بإسلامه وصبره وجهاده وتضحيته في سبيل دعوته خلد الله ذكره في العالمين ، فتسأل الآن ونحن في القرن الخامس عشر الهجري طفلا صغيرا في إحدى جزر إندونيسيا ، هل تعرف بلالا ؟ يقول نعم ! هو مؤذن النبي .

وتسأل عجوزا مسلما في أدغال إفريقيا ، هل تعرف بلالا ؟ يقول أجل ! هو ذاك العبد الحبشي الذي كان يعذبه سيده فيقول أحدٌ أحدٌ .

وتسأل طفلة في أحد نجوع مصر وتقول لها ، هل تعرفين بلالا ؟ فترد عليك نعم ! هو كذا وكذا ....

والسؤال : من الذي خلد ذكره وأبقي أثره في العالمين ؟؟ إنه جهاده وتضحيته ، إنها حياته التي لم يعشها لنفسه بل عاشها لدعوته ودينه ونصرة نبيه .

وهذا ما كان عليه صحابة رسول الله والتابعين وتابعيهم بإحسان ، فكانوا مصابيحاً للهدى في كل زمان ومكان .

وعلي درب العمل لدين الله يسير الدعاة العاملون ، فهذا الإمام البنا وهو بن الثانية والعشرين يفكر في أمر دعوته ودينه ، ينشغل بحال أمته ، ويؤسس لحركة تسعي الي التمكين لدينه وتحقيق الأستاذية للإسلام والمسلمين في هذه الحياة ( لتكون كلمة الله هي العليا ) ، وينذر لذلك حياته فيجوب القرى والنجوع والبلدان يدعو للإسلام ويربي الناس عليه حتي أنه قال : [ وددت أن أبلغ هذه الدعوة للطفل في بطن أمه ] فبسبب إخلاصه وجهاده وتضحيته ( ولا نزكي علي الله أحدا ) أنتشر الخير في الدنيا مع هذه الحركة ، وأصبح رجالها في ربوع الأرض يدعون إلي الإسلام بشموله ووسطيته ، ومع هذا الفتح تربي الناس علي أفكاره ومنهجه ، فأحسن الله ذكره في العاملين .

ورحم الله الشهيد سيد قطب حين قال : (إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة..)

أهل الدعوة يكرهون السكون والعجز :

وهكذا يكون الدعاه والعاملون ، تراهم يكرهون السكون والعجز ، يحرصون علي العلاقة بربهم ومنها ينطلقون بين عباده ينشرون الخير بينهم ، يفرحون لفرح الناس ويحزنون لحزنهم ، أفضل أيامهم يوم أطاعوا الله فيه بصلاة مقبولة ، وتضحية مبذولة ، وعون مشكور ، واقتراب نصر مأمول ، وحاجة عبد من عباد الله يقضيها ، وراية في ميدان للدعوة يعليها ........ .

يقول الشيخ محمد عبد الله الخطيب : ( إن الأخ الصادق يجب أن يشعر بأن دعوته حية في أعصابه ، متوهجة في ضميره ، تجرى في دمائه ، وتنقله من الراحة والدعة إلى الحركة والعمل ، وتشغله بها عن نفسه وولده وماله ، وهذا هو الأخ المؤمن الذي تحس إيمانه بدعوته في النظرة والحركة والإشارة وفى البسمة التي تختلط بماء الوجه ، وهو الأخ الذي ينفذ كلامه إلى قلوب الناس فيحرك عواطفهم إلى ما يريد من أمر الدعوة ) مفاهيم تربوية ج4 ص 58.

يقول الإمام الشافعي : إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وان لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب والشمس لو وقفت فى الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عـــرب ندعو الله أن يجعلنا من عباده الصالحين ومن جنده المخلصين العاملين ، وأن يجعلنا من عباده الذين يذكرون بالخير بعد موتهم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .

والحمد لله رب العالمين.
*
مدير مركز الاستشارات والتنمية الإدارية جامعة العلوم والتكنولوجيا
.ينابيع
أضافة تعليق