مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2023/10/23 22:02
سورة الإسراء وخطة التحرير

مقدمة:

قال تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} (الإسراء:1) 

افتتحت سورة الإسراء بالتسبيح، ثم ذكرت معجزة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، ثم بينت فساد بني إسرائيل وما وعدوا به من وعدي الأولى والاخرة، ثم ذكرت خطة العمل لتحقيق العبودية، التي بها يتنزل وعد الاخرة على أيدي عباد الله.

وختمت بالحمد والتكبير . قال تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} ( الإسراء 111)

افتتاحها بالتسبيح فيه إشارة إلى عجيب ما سيأتي بعده مما يدل على عظيم قدرة الله تعالى وكمال حكمته وعلمه المطلق الذي وسع كل شيء. من ذاك معجزة الإسراء والمعراج والإخبار عن الغيب الماضي والمستقبلي. وفيه إفساد بني إسرائيل وهلاكهم. ومن ذاك أيضا الإرشاد إلى المنهاج الأقوم للتحرير والنصر كل ذاك يستدعي تسبيحا لله وتنزيها له وتمجيدا ثم تختم بالحمد والتكبير وكأنه حمد لله على أن بين العدو وكشف أمره وفصل شروط النصر ووفق وكأنه تكبير كتكبيرات النصر بعد التحرير ودخول المسجد الأقصى .

أولا: مكانة المسجد الأقصى المبارك في السورة:

تتجلى مكانة المسجد الأقصى في السورة في أمور منها:

1 –  الله جعله مسرى نبيه صلى الله عليه وسلم فما من مكان ولا زمان ولا عمل خص به صلى الله عليه وسلم إلا نال ذاك المكان والزمان والعمل من التشريف قدرا كبيرا.

2 – جمع الله بينه وبين المسجد الحرام وفي هذا إشارة إلى أن هذه الأمة هي وارثة الأنبياء جميعا وهي المؤتمنة على إرثهم. فالمسجد الحرام بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام والمسجد الأقصى هاجر إليه جل الأنبياء وها هو خاتمهم صلى الله عليه وسلم يجمع بين المسجدين في مسراه ومعراجه ويصلي في الأقصى إماما بالأنبياء عليهم السلام.

3 – الله تعالى بارك فيه وما حوله بركة دائمة متجددة. بركة تظهر علاماتها في أهله المرابطين الذين هم على الحق إلى قيام الساعة. وبركة في أن جعل قلوب المسلمين تهوي إليه. وبركة في الجهاد حيث ثمة فئة قليلة ثابتة صابرة لا تنكص ولا تستكين. وبركة في الصلاة فيه فهي مضاعفة.

4 – جعله الله محل آياته التي شاء أن يطلع عليها نبيه صلى الله عليه وسلم ” لنريه من آياتنا”

5 – وحد الله به الأمة، وجعله مهيجا لها على الجهاد موقظا لها من السبات.

ثانيا: وعد الأولى ووعد الآخرة:

أخبر المولى سبحانه بما سبق في علمه الأزلي عن إفساد بني إسرائيل في الأرض وعلوهم العلو الكبير. وبشر سبحانه أن مع كل مرة يفسدون فيها يبعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب نكالا منه بما كسبت أيديهم فقال عز وجل: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} ( الإسراء. 4.5)

كثيرة هي الآثار التي تثبت أن وعد الأولى المذكور في هذه الآية كان حين دخل ملك فارس بختنصر بيت المقدس. ثم قال سبحانه مخبرا عن وعد الاخرة: { ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الاخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا } ( الإسراء. 6.7)

ذهب بعض المفسرين إلى أن وعد الاخرة هو أيضا سبق قبل البعثة وذاك حين هموا بقتل عيسى عليه السلام.

لكن الظاهر والله أعلم أن الإفساد الثاني هو ما حصل في عصرنا باحتلالهم الأرض المباركة وقتل أهلها وتهجيرهم. وأن وعد الاخرة هو ما ظهرت إرهاصاته الآن بما سلط الله عليهم من رجال المقاومة والجهاد. ومما يدل على هذا في الآية قوله سبحانه:{ ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا} ( الإسراء. 6) فها نحن نرى أنهم يسيطرون على أموال العالم ويتحكمون في ثرواته وها نحن نراهم أكثر نفيرا، يستنفرون دول العالم فتنفر معهم. قال البقاعي: (نفيرا)؛ أيْ: ناسًا يَنْفِرُونَ مَعَكُمْ؛ إذا استنفرتموهم للقتال؛ ونحوه من المهمات. [1]

ومن دلائل ذلك أيضا قوله تعالى: {وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا} ( الإسراء.104)

قَالَ الْكَلْبِيُّ: “جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا” أَيِ: النُّزَّاعُ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا لُفُّوا جَمِيعًا.[2]

 قلت: لقد جاؤوا من كل بلاد العالم من أجناس شتى ليتحقق وعد الله فيهم . ومهما يكن من كلام حول وعدي الأولى والآخرة ووقتيهما فإن الله سبحانه بين أن الأمر ليس محصورا بعدد وإنما هو سنة ثابتة فيهم متى أفسدوا كان العقاب.قال تعالى: { عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} ( الإسراء. 8)

ثالثا: العبودية لله شرط تحقيق النصر: 

تقدم سورة الإسراء الخطة اللازمة لتحقيق النصر تلك الخطة هي الكفيلة وحدها بتكوين العباد ( عبادا لنا) الذين ينالون شرف أن يبعثهم الله على المجرمين فيسوء وجوههم بهم. الخطة غايتها تحقيق العبودية لله رب العالمين مقدمة نموذج العبد الكامل في عبوديته صلى الله عليه وسلم ومفتتحة السورة به وبإسرائه إلى الأرض المباركة واصفة إياه بالعبد ” أسرى بعبده ” ” والإضافَةُ إضافَةُ تَشْرِيفٍ لا إضافَةُ تَعْرِيفٍ؛ لِأنَّ وصْفَ العُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مُتَحَقِّقٌ لِسائِرِ المَخْلُوقاتِ فَلا تُفِيدُ إضافَتُهُ تَعْرِيفًا.”[3]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” حقق الله له نعت العبودية في أرفع مقاماته حيث قال (سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا) (الإسراء: 1)، وقال تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) (النجم: 10)، وقال تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدًا) (الجن: 9 )[4]

وقال القرطبي: “قال العلماء: لو كان للنبي ﷺ اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية[5].

فما السبيل إلى هذه العبودية وما أعمالها وشرائطها؟

قال تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} ( الإسراء.9)

بعد ذكر فساد بني إسرائيل وما وعدوا به من وعدي الأولى والآخرة جاءت هذه الآية كأنها تشير إلى أن الخطة الأقوم للنصر هي في هذا القرآن ولذلك تلتها أعمال كثيرة أرشدت إليها السورة لتحقيق العبودية لله هي كالتالي:

1 – حفظ النية وإخلاص الوجه لله:

قال تعالى: { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها نذموما مدحورا ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيكم مشكورا } ( الإسراء. 18.19)

2 – حفظ حقوق الوالدين وذوي الرحم والمحتاج:

قال تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } ( الإسراء. 23)

وقال سبحانه: { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } ( الإسراء.26)

3 – حفظ المال وحسن تدبيره:

قال تعالى: { ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} ( الإسراء. 26.29)

4 – حفظ العرض والقيام بحقوق الأبناء:

قال تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} ( الإسراء. 31.32)

5 –  حفظ الأنفس:

قال تعالى: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطنا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} ( الإسراء.33)

6 – حفظ الجوارح:

قال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} ( الإسراء. 36)

7 –  حفظ الأخوة الإيمانية:

قال سبحانه: { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} ( الإسراء. 53)

8 – حفظ الصلاة فرضها ومسنونها:

قال تعالى: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} ( الإسراء. 78.79)

9 – حفظ الدعاء:

قال تعالى: { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي مكن لدنك سلطانا نصيرا} ( الإسراء. 80)

يظهر مما سبق أن أعمال العبودية تستغرق حياة الفرد والأسرة والمجتمع طولا وعرضا. فمنها ما يتعلق بعلاقة العبد بربه إخلاصا له وخضوعا وتذللا ومنها ما يتعلق بعلاقته بنفسه وأسرته ومنها ما يتعلق بالاقتصاد والمال ومنها ما يتعلق بعلاقته بالمجتمع والإنسانية جمعاء.


الهوامش:

 [1]- نظم الدرر للبقاعي — البقاعي (885 هـ)

[2]  – تفسير البغوي — البغوي (516 هـ)

[3]  – التحرير والتنوير – ابن عاشور ج 15/‏ص 12 (  1393)

[4]  – قَطْعُ العَلائِقِ للتَّفَكُرِ فِي عُبُودِيَّةِ الخَلائِقِ-  ص 35- عرفة بن طنطاوي. الناشر: مركز تأصيل علوم التنزيل للبحوث العلمية والدراسات القرآنية، القاهرة – مصر

[5]  – تفسير القرطبي – القرطبي (671 هـ)
*نقلاً عن موقع منار الإسلام للأبحاث والدراسات*

أضافة تعليق