مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
إعادة صياغة المفاهيم في عالم متعدد الأقطاب
د.يوسف مكي
انقسم العالم، بحدة بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، إلى معسكرين رئيسين، معسكر رأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، ومعسكر اشتراكي يقوده الإتحاد السوفييتي. وهناك كتلة يمكن أن يطلق عليها مجازاً، إلى ما قبل مؤتمر باندونغ، الكتلة الصامتة. وشكلت هذه الكتلة لاحقاً ما عرف بمجموعة عدم الانحياز، أخذ بعضها موقفاً ملتزماً، عرف بالحياد الإيجابي.



كتلة عدم الانحياز، اختارت طريقاً ثالثاً، رافضة الالتحاق بحلفي الناتو ووارسو العسكريين. وكان الدافع لذلك هو ما شهده العالم من ويلات وكوارث ودمار خلفتها الحرب العالمية الثانية. وقد وجدت أن من مصلحة شعوبها، ألا تنحاز لأي من الكتلتين المتصارعتين.

مفهوم عدم الانحياز إذا، هو مفهوم مرتبط بالصراع بين كتلتين، وهو صراع متعدد الأبعاد، من حيث أنه صراع سياسي واقتصادي وعقائدي وعسكري. انتفاء أحد الكتلتين، يستوجب بالضرورة، انتفاء الكتلة الثالثة، لأن مبرر وجودها هو الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي. لكن التصنيف بقي قائماً، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحقبة الاشتراكية، بالطريقة التي تحققت فيها بعد قسمة يالطه.

الموقف ذاته ينسحب على تعبير العالم الثالث، الذي يحمل هو الآخر معنى متضمناً، بوجود مجموعة عوالم، تعدادهم في أقل تقدير ثلاثة عوالم، طالما أن ليس في القاموس السياسي تسمية لعالم رابع. ومنطقياً فإن ترتيب الثالث، يحمل أرجحية وثقلاً مادياً ومعنوياً، لما قبله من العوالم. بمعنى آخر، يقتضي هذا التصنيف اختلافاً في درجة النمو والتطور الاجتماعي، وشكل الأنظمة السياسية والاقتصادية بين العوالم الثلاثة.

حمل تصنيف العالم الثالث، أيضاً، نوازع عرقية، وتمييزاً بين الشمال والجنوب. فالتفوق، وفقاً للمركزية الأوروبية، كما عبّرت عنها النازية الهتلرية، في صورتها الكاريكاتورية، هو للجنس الآري. ومن أجل تثبيت مقولات زائفة كهذه، جرى حرف العلم، عن وظائفه الرئيسة. فقيل عن جينات متطورة للجنس الأبيض وأخرى متخلّفة للجنس الملون والأسود. وقيل أيضاً، عن ثقافات وأديان، يحرض بعضها على الكد والعمل والفكر والإبداع، وثقافة التسامح. أما البعض الآخر، فإن ثقافته ومعتقداته، بيئة ملائمة للخمول والكسل، والأوهام والخرافة والجهل.

استخدم المدلول في صيغته المعاصرة، للقول بوجود عالم لا ينتمي لأي من الكتلتين المتصارعتين أثناء الحرب الباردة. بمعنى أنه ليس رأسمالياً وليس اشتراكياً، رغم وجود جدل، بأنه في بنائه الاقتصادي امتداد للمنظومتين الغربية والشرقية.

في ظل الأحادية القطبية، غدا الموجود قطباً أوحد، هو النظام الرأسمالي، يحكم الغرب والشرق على السواء. ومع ذلك بقي توصيف العالم الثالث، ومبرر بقائه الوحيد، هو التمييز بين الجنوب والشمال، بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة، واستمراره بهذا المعنى، هو تكريس للتصنيفات العرقية والدينية. واقع الحال أن ما تبقى من عوالم بعد سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، هو عالم الغنى وعالم الفقر.

خلال مرحلة الثنائية القطبية، تمكنت دول العالم الثالث من المناورة بين قطبين، تبعاً لمصالحها الوطنية. ومع الاستقطاب الحاد، من قبل المعسكرين لكسب ود دول العالم الثالث، فإن بعضاً من حرية الاختيار أصبح متاحاً، للالتحاق بأحد المعسكرين. وقد أسهم ذلك في ترصين السياسات الدولية، وتنشيط المنظمات الأممية، وفي مقدمتها الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، التي غدا منبرها وتوصياتها، لما يربو على أربعة عقود حكراً على دول العالم الثالث. أثناءها، حرصت الدول الرأسمالية، بزعامة أمريكا على خلق نماذج باهرة في دول العالم الثالث، كما في هونغ كونغ وجزيرة فرموزا، بهدف إقناع شعوب العالم، بمزايا النظام الرأسمالي، وحيويته، وتحقيقه للرخاء الاقتصادي.

وبالمثل، كانت قدرة أي من المعسكرين، على حسم الحروب لمصلحته، محدودة جداً. فسلاح الرعب النووي المتكدس بترسانة المعسكرين، حجب عنهما الدخول في حروب مباشرة. فكان أن تم الاستعاضة عن ذلك بالحروب بالوكالة. وكانت الحرب الكورية، أولى تلك الحروب، لتتبعها حروب أمريكا في الهند الصينية، في فيتنام ولاوس وكمبوديا، فحرب السوفييت في أفغانستان. وفي حروب كهذه، لا تتمكن الدول الكبرى من تحقيق أهدافها، بل الأقرب أن تنتهي بهزيمتها، كما حدث لفرنسا والولايات المتحدة بكوريا والهند الصينية، وأيضاً كما حدث للاتحاد السوفييتي، بعد غزوه لأفغانستان، مناصراً للنظام الشيوعي القائم آنذاك في تلك البلاد.

سقوط الكتلة الاشتراكية،جعل من الولايات المتحدة إمبراطوراً متوجاً، من غير منازع، على سائر أرجاء كوكبنا الأرضي. لم تعد هناك حاجة لخشية سلاح الرعب النووي، فالشرق، أغمد سيفه، ولم تعد لقوته أنياب. والغرب لم يعد يخشى أحداً، يحول بينه وبين استخدامه لليورانيوم غير المنضب، ولأسلحة الدمار الشامل. ولم تكن أية قوة، تحول بينه وبين احتلال العراق وأفغانستان. وكانت العربدة “الإسرائيلية” على أشدها، حيث لا مسؤولية ولا رقابة ولا عقاب. وكان تفرد الولايات المتحدة على صناعة القرار الأممي، وعدم تجرؤ أي من الدول الكبرى، على استخدام حق النقض، أثناء حقبة الأحادية القطبية، قد جعل القرارات الدولية رهينة، بيد قطب أوحد.

عودة التعددية القطبية مجدداً، لن تكون استنساخاً، لحقبة الحرب الباردة. فالتنافس سوف تتداخل فيه مفاهيم الشراكة. وهو ما يصرح به المسؤولون الأمريكيون والروس على السواء. والولايات المتحدة ستبقى، على الأقل خلال عقد من الزمن، القطب الرئيس في عالم متعدد الأقطاب، كما أشار إلى ذلك الكاتب الأمريكي الشهير، صامويل هانتغتون. لكن هذه الحقبة لن تستمر طويلاً، فالقانون التاريخي، منذ نشأ اجتماع البشر، وتأسست الإمبراطوريات هو الصراع والتنافس، وليس الشراكة والتكاتف.

المؤكد أن التعددية القطبية الجديدة لن تحمل أبعاداً أيديولوجية، وتسود البراغماتية، بديلاً عن الدوغمائية، وسيتصدر قانون المنفعة، كل الشعارات. وستسود ثقافة السوق، إلى مدى غير منظور. وما دام قانون السوق، هو الحاكم بأمره، فإن ذلك سيضيّق دائرة الرقابة ومنع استيراد التكنولوجيا للبلدان النامية، بما يوسع فرص دول العالم الثالث، من الدخول بقوة في هذا العصر. والحال هذا سوف ينسحب على القضايا السياسية، حيث سيتاح للمظلومين إيجاد ظهير لهم ضمن دول العالم المتقدم، بما يخدم قضايا الحرية وحق تقرير المصير. لكن حروب الوكالة سوف تعاود حضورها بقوة، لأنها ملجأ الكبار الوحيد، لفرض سياساتهم واستراتيجياتهم، بما يستدعي تقوية القدرات الذاتية لبلدان العالم الثالث، للدفاع عن استقلالها، والتصدي لمختلف أشكال العدوان، وتلك هي المرحلة الأولى في إعادة صياغة المفاهيم.

*******

[email protected]
*التجديد العربي
أضافة تعليق