مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الانقطاع التاريخي والحضاري في فكر النهضة
الانقطاع التاريخي والحضاري في فكر النهضة

بقلم د. محمد عادل شريح

يمثل سؤال النهضة سؤلاً مركزياً في الفكر العربي الحديث، فقد ظل هذا السؤال على مدار ما يزيد عن المائة و خمسين عاماً المنصرمة هماً جامعاً للنخب الفكرية و السياسية العربية و الإسلامية.

وعلى الرغم من فشل كل المشاريع النهضوية الفكرية منها و السياسية يبقى هذا السؤال معاصراً و ملحاً و يحتل ذات المكانة و يثير ذات الاهتمام.

قد يعتقد البعض أن مفهوم النهضة يشير إلى مرحلة قد انقضت و أن الحالة العربية الإسلامية قد تجاوزتها إلى مراحل جديدة و خطاب جديد تلا خطاب النهضة (خطاب الثورة و خطاب الهوية مثلاً). و قد يرى البعض أن خطاب النهضة المجهض يستدعي التأسيس لنهضة ثانية أو ثالثة كما يراها البعض.

لكن بعيداً عن كل هذه التنظيرات نحن نصر على مركزية سؤال النهضة لأننا نرى أن المحددات الفكرية التي تم إنتاجها في عصر النهضة و التي تبلورت مع بداية القرن العشرين، لا تزال هي المتحكمة في الحياة الفكرية العربية حتى يومنا هذا على الرغم من كل التغيرات و التبدلات في شكل المصطلح و منهجية الطرح و الظروف الموضوعية المتغيرة.

بالتالي فإن الوقوف على حقيقة الواقع الثقافي العربي الإسلامي في وقتنا الحالي تقتضي إدراك و معرفة المبادئ المؤسسة للمرحلة و التي تم إرسائها في ما يسمى عصر النهضة.

لكن مما يثير الاهتمام أيضاً و يستدعي قرع ناقوس الخطر هو ذلك الانحطاط في الأدب النقدي لفكر النهضة و مقولاتها و رموزها، ذلك أن فشل مشروع النهضة يستدعي قيام عمليات مراجعة و نقد موضوعي علمي يستخلص الدروس الفكرية و العبر المستفادة و يؤسس لمرحلة جديدة تدفع الأمة و فكرها و ممارستها نحو أفق نهضوي حقيقي.

لو تصفحنا ما ينشر على صفحات الجرائد و المجلات حول النهضة و فكرها و رموزها و تتبعنا كذلك ما يلقى في المؤتمرات و الندوات المتخصصة لوجدنا نوعاً من التكرار المقيت لمقولات معادة وأفكار مستهلكة سواء منها ما يمجد هذا الماضي النهضوي ويتحسر على رموزه المؤسسين، أو ما كان منها ما يبكي على ضياع تلك الأحلام الوردية أمام طغيان الأصولية و التشدد.

ولا نزال نسمع إلى يومنا هذا من لا يمل الحديث عن صدمة الحداثة و أثر الحملة الفرنسية في إطلاق مارد النهضة من قمقمه و آخر يستعيد لنا ذكريات الرحلة المجيدة لرفاعة الطهطاوي إلى فرنسا وكأنها الرحلة الجديدة لغلغامش و التي منها يبدأ سفر المعرفة.

حتى تلك الدراسات النقدية لهذه الفترة نراها لا تتجاوز في نقدها بعض الظواهر السطحية و التفرعات النهائية و القضايا الجزئية للمرحلة. و كأن الأدب النهضوي قد دخل في حلقة مفرغة يدور فيها منذ عقود دون أن يكون قادراً على الخروج الحقيقي من دائرة الأزمة التي لحقت به، على الرغم من أن الظروف قد نضجت تماماً لمراجعة جدية و حقيقية.

إن من شروط هذه المراجعة أن تكون عميقة و شاملة، أن تكون عملية تفكيك حقيقية لمقولات النهضة العربية، و لا أقصد بالتفكيك مرجعية فكرية أو تياراً فكرياً معلوماً، أنما أقصد أن هذا النقد يجب أن يتجاوز تفرعات الثقافة العربية النهضوية الحديثة، و أن يهدم القوالب الفكرية المهيمنة و الأفكار النمطية التي طرحت في إطارها هذه القضية و يذهب عميقاً إلى المقدمات التي تأسست عليها هذه الثقافة ليخضعها لعملية نقد شامل.

فكر النهضة و الزمان العربي الجديد. عندما طرح مفهوم النهضة كمفهوم أساسي و عنوان لمرحلة جديدة في الحياة العربية الإسلامية يؤرخ لها بعام 1789 (عام الحملة الفرنسية على مصر) امتزج هذا الطرح في بنيته و مضمونه بنموذج مستبطن يرى في النهضة عملية انقلاب فكري شمولي في الحياة العربية و الإسلامية، وسواء حمل هذا الانقلاب الصيغة المخففة والتي دعيت بالإصلاح ومن ثم حديثاً بالتجديد، أو أنه عبر عن نفسه بدعوات معلنة لتجاوز الثقافة العربية و الإسلامية نحو ثقافة جديدة بمكونات ورؤية شمولية جديدة، كما هو حال الدعوات العلمانية و الليبرالية على اختلاف مشاربها، يبقى النموذج الانقلابي الشامل هو النموذج المهيمن على فكر النهضة.

والسؤال الأعمق من مجرد انتقاد الدعوات الفكرية المختلفة التي أنتجتها هذه الرؤية يتمثل في تحليل الخلفيات الفكرية و المنظورات المعرفية التي أنتجت هذا النموذج المهيمن للنهضة.

إذا ما هي حقيقة تلك البنية الفكرية المستبطنة و التي جعلت من عملية النهضة تبدو و كأنها عملية انقلاب فكري شمولي في الحياة العربية، في حين أن مفهوم النهضة يفترض منطقياً أساساً قائماً يمثل نقطة ارتكاز تاريخية و حضارية تنهض الأمة على قاعدتها بما يفيد نوعاً من الاستمرارية التاريخية والحضارية.

ليس الحديث عن تبني النموذج التاريخي الغربي للنهضة و ما نتج عن هذا التبني من نتائج حديثاً جديداً، وليس الحديث عن الاعتقاد السائد بنمو ثقافة عالمية جديدة سمتها الأساسية أنها غير دينية كأساس للمدنية الحديثة و ما افرزه هذا المعتقد من إجحاف بحق الثقافة العربية ذات الأصول الدينية المتجذرة هو الجديد أيضاً.

إن ما سنتوقف أمامه هو المنظور الذي أنتج الشروط المعرفية لولادة مثل هذه القناعات و الممارسات.

تستند كل ممارسة فكرية إلى مقومات رؤية شمولية معلنة أو مستبطنة تعطي هذه الممارسة الفكرية حس الاكتمال كمنظومة تمتلك رؤية كونية خاصة أو فهماً معيناً للحياة. و سواء كانت هذه الرؤية مدركة شعورياً أو أنها غير ذلك فهي قائمة و فاعلة و مؤثرة في توجيه هذه الممارسة الفكرية.

من هذه المقومات رؤية الزمان أو الفهم التاريخي كمكون أساسي من مكونات أي رؤية وجودية، فالوجود هو امتداد في الزمان والمكان و رؤية الزمان و المكان هما ركيزتا الرؤية الفلسفية و عنصرا التكامل في أي منظومة فلسفية فكرية.

إن الذي حصل في القرن التاسع عشر و أسس لنموذج النهضة الذي تحدثنا عنه بكل سماته التي أشبعت مدحاً و ذماً هو انكسار نظام الزمان العربي الإسلامي و دخول مفهوم جديد للزمان و فلسفة جديدة للتاريخ، و هذا هو جوهر الانقلاب الذي حصل في حياتنا الفكرية العربية و أسست لكل ما أنتجته المرحلة التالية من تقلبات فكرية و تيارات سياسية وثورات اجتماعية.

من بين كل مقومات الحداثة الغربية التي أفرزت ما اصطلح على تسميته في أدبنا النهضوي بصدمة الحداثة، هذه الصدمة التي أسست بحق لمرحلة ’’ النهضة’’ لم ينفذ إلى المنظومة الفكرية العربية الإسلامية و يستقر بها سوى مفهوم مركزي واحد هو مفهوم التقدم.

لقد قامت الحضارة الغربية الحديثة على منظومة من القيم الفكرية و المعرفية المكونة التي أسست للعالم الحديث، و معنى أنها منظومة من القيم المكونة هو أن بعضها ينتج بعضها الآخر و يتكامل معه، وأن أي منها سيقود بالمحصلة إلى كلها.

وقد كان من أبرز هذه القيم المؤسسة الفردية و الإنسانوية التي ترى في الإنسان مبدأ للوجود و قيمة عليا مطلقة، فالمركزية الإنسانية في السياق الفكري الحداثي هي بديل المركزية الإلهية في الحضارات التقليدية.

ومنها كذلك العقلانية القائمة على أساس من هذه الفردية الإنسانية (أنا أفكر إذاً أنا موجود)، و منها الطبيعية التي ترى في نظام الوجود الطبيعي الذي تبلور مع نيوتن و غيره من العلماء نظاماً ميكانيكياً مغلقاً يكفي نفسه بنفسه و يتحرك في إطار من القوانين الكلية الصارمة.

لقد جرت محاولات عديدة لإدخال هذه القيم الفكرية في المنظومة الإسلامية لكن السياق المتعارض مع الدين عموماً و الإسلام خصوصاً لهذه القيم الفكرية كانت حائلاً دون تمكن و تجذّر هذه القيم المعرفية في المنظومة العربية الإسلامية.

لكن فكرة أخرى من الأفكار المكونة للمنظومة الغربية كانت تمتلك من الجاذبية حظاً كبيراً و لا تبدو متعارضة بفظاظة مع الثقافة العربية الإسلامية تمكنت من الدخول و التجذّر في قلب الرؤية الثقافية الجديدة، هذه الفكرة هي فكرة التقدم.

لم يكن دخول فكرة التقدم إلى المنظومة العربية الإسلامية هو مجرد دخول لفكرة جزئية، إنما هو دخول لقيمة معرفية بنيوية أسست لمجموعة من المتغيرا ت الجذرية التي عملت على التأسيس لعملية التحول الكبير التي حصلت في الفكر العربي الحديث.

إن الذي تغير في منظومة الفكر و الثقافة العربية الإسلامية منذ عام 1789 و عمل على تغير الثقافة العربية و دفعها في اتجاهات جديدة هو تغير نظام الزمان على المستوى التاريخي و انعكاسات هذا التغير على بلورة زمن ثقافي جديد له سمات نوعية جديدة لقد تم إدخال مفهوم الزمن التقدمي إلى بنية الوعي العربي الإسلامي، و قد تكفل هذا المفهوم بالباقي و أسس لثورته المعرفية على نظام الزمان الإسلامي الذي يربط الحقيقة بما هو فوق التاريخ، بعالم الكمال و الثبات، فجعل الحقيقة صنو الصيرورة و رديفاً لحركة التغير و نقل مركز الثقل القيمي من الحقيقة التقليدية التي تستمد مقوماتها من مصادر هي وراء الزمان و المكان، و ألقى هذا المركز في قلب المستقبل، الذي تحول إلى قيمة معرفية بحد ذاته، فالحقيقة و الكمال في الرؤية التقدمية هي عمليات تركيبية تتحقق في ما هو آت.

لقد كان لهذا الدخول الكاسح لفكرة التقدم نتائج مصيرية بالنسبة لتحديد مسارات الفكر العربي النهضوي عموماً، و قد كان من أهمها فيما يتعلق بموضوعنا التأسيس لإستراتيجية النهضة كحالة من الانقطاع و إعادة التأسيس، الانقطاع عن الماضي الذي صار في الميزان التقدمي يمثل عصر الانحطاط، و التأسيس للمستقبل التقدمي الذي صار كذلك يتمثل في نموذج الحداثي المهيمن الذي هو الثمرة التاريخية المتحققة للتقدم.

من رحم هذه اللحظة المؤسسة ولد الفكر النهضوي العربي الحديث و هو لا يزال إلى حد كبير محكوم لمحددات هذه اللحظة و لم يخرج من أسرها.

مفهوم ’’التقدم ’’ و التحولات البنيوية في فكر النهضة أن التغير الأهم و الأعمق الذي أصاب الفكر العربي و أسس لمفهوم النهضة كمفهوم انقلابي شامل هو الدخول القوي لفكرة التقدم و استقرارها في الوعي العربي الإسلامي، و قد تلمس هذه الحقيقة عدد من المفكرين و الباحثين في هذه المرحلة. لقد كتب ألبرت حوراني في كتابه الشهير (الفكر العربي في عصر النهضة) يصف جيل المثقفين من أبناء عصر النهضة بقوله أنهم: ’’ تأثروا بنمط التفكير الذي عبر عنه كل من كونت، و رينان، و مل، و سبنسر، و دركهايم، الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه، بحكم سنة التقدم الذي لا يعكس و لا يقاوم، نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل، و اتساع أفق الحرية الفردية و ازدياد التخصص و التشابك’’ ويرى الدكتور فهمي جدعان في كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) أن قضية التقدم أو الترقي هي أهم القضايا التي شغلت الفكر العربي الحديث و أخطرها، وهي إن تبدوا لأول وهلة واحدة من القضايا الكثيرة التي يحفل بها الفكر العربي الحديث، فهي في حقيقة الأمر ’’ المسألة الوحيدة التي تستقطب تجليات الفكر العربي الحديث كافةً و تثوي وراء جلّ الفعاليات النظرية و العملية التي حملت المثقفين العرب، على تباين مواردهم و مقاصدهم، على أن يسهموا في عمليات الهدم و البناء في العالم العربي الحديث ’’. و نستطيع كذلك أن نجد معنى ’’ التقدم ’’ بمحتواه الفلسفي و التاريخي خلف مفهوم السنن في منظومة محمد عبده الاصطلاحية، فمفهوم السنن القرآني الأصل، يمتلئ بمضامين جديدة تجعل منه مرادفاً لمفهوم التقدم.

وقد تداخل مفهوم التقدم مع مفهوم التطورية داروين و سبنسر و لقي بعض الرواج في الثقافة العربية مع البدايات الأولى للفكر النهضوي. مع الوقت تحولت الفكرة التقدمية في سياق الفكر الحداثي العربي إلى منظومة فلسفية حضارية، وقد تبلورت كمفهوم نظري مركزي يقوم على أساسه مشروع النهضة الحضارية، وقد عبر المفكر القومي قسطنطين زريق عن هذا التصور أفضل تعبير.

يوصّف زريق الواقع العربي فيراه واقعاً متخلفاً من كل النواحي، وهو يعرّف التخلف بمعناه الشمولي على أنه عكس التحضر و أما مفهوم التحضر فهو يطابقه مع مفهوم التقدم، يقول في كتابه الشهير كذلك (في معركة الحضارة) ’’ إن مفهومنا للتقدم لا يختلف أساساً عن مفهوم التحضر، فالظاهرتان هما عندنا وجهان لحقيقة واحدة، ذلك أن كل تحضر ينطوي في نظرنا على تقدم عن وضع سابق، وبالعكس إن كل تقدم يؤدي إلى مزيد من التحضر ’’. و على هذا الأساس يقدم لنا قسطنطين زريق معادلة النهضة في القانون لتالي: التقدم = التحضر، و التحضر بدوره = الحداثة الغربية، و الحداثة الغربية = العقلانية (الغربية الديكارتية طبعاً).

لقد دخلت الفكرة التقدمية إلى صلب الرؤية النهضوية العربية، و التقدمية في تعريف مبسط، هي رؤية فلسفية تاريخية ترى في حركة التاريخ حركة خطية مستقيمة تسير نحو الأمام و من الأدنى إلى الأرقى معرفياً و حضارياً، و هي تمتلك نماذج تاريخية متعاقبة تمثل الحداثة الغربية ذروتها و نموذجها المتحقق في الواقع.

وقد كان هذا الدخول كما قلنا هو دخول لقيمة معرفية بنيوية و سيترتب عليه بالتالي تحولات معرفية بنيوية في الثقافة العربية الحديثة عموماً و النهضوية منها على وجه الخصوص و قد كان من أهمها:

أولاً: إن هذا الربط بين خطاب النهضة و عقيدة التقدم التي هي من الأفكار المكونة لأيديولوجية الحداثة الغربية، سيؤدي حتماً إلى ربط الصيرورة التاريخية و الحضارية للفكر العربي الحديث بأفق النموذج الحضاري الذي أنتج هذه الأيديولوجية، أي الحضارة الغربية الحديثة، و هذا ما قد حصل حيث نرى كافة المشاريع الحضارية التي تم تداولها كبديل للحالة التاريخية و الحضارية الإسلامية كانت تستبطن نموذجاً غربياً حتى لو اختلفت هذه المشاريع في منطلقاتها وغاياتها)الماركسية و القومية مثلاً)، لقد صارت النهضة في الثقافة العربية مرادفاً للسير على طريق المدنية الغربية و تحول مشروع النهضة إلى مشروع إلحاق واستتباع حضاري.

ثانياً: إن الطبيعة المعيارية للزمن التقدمي تملي على الثقافة العربية شروطاً معرفية ونفسية تجعل مفاهيم من نوع الإصلاح و التجديد و التحديث و التطوير و التثوير، قضايا مرغوبة تحظى بقابلية كبيرة لدى المثقفين العرب، وتحمل في طياتها مضموناً إيجابياً و هي قضايا رابحة من حيث المبدأ في الساحة الثقافية العربية و ذلك لارتباطها بالزمن التقدمي.

ففي النظرة التقدمية ينتقل مفهوم الحقيقة ليصبح مجموعة من الحقائق الجزئية التي تتركب في إطار الصيرورة التي تتجسد داخل التاريخ، بذلك يتحول الثقل القيمي للتاريخ من الماضي إلى المستقبل و تصير الحقيقة هي ما ستنجلي عنه الصيرورة، فيصير المستقبل صنو الحقيقة و يصير السعي إلى الحقيقة متمثلاً بقطع العلائق مع الماضي والنهوض نحو المستقبل و يصبح التجديد والتطوير والتحديث والإبداع قيماً بحد ذاتها بغض النظر عن محتوياتها.

وفي المقابل يصبح الماضي والقديم والتقليد و التراث والإتباع قيماً سلبية مرفوضة نفسياً و معرفياً و تفرض ثقلاً على نفس المثقف العربي و هي قضايا خاسرة من حيث المبدأ في الأوساط الثقافية العربية.

ثالثاً: إن تبنّي هذه الرؤية الثقافية ذات الوجه الواحدة نحو الحداثة سوف يستتبع محاولات إدخال كل المقدمات المعرفية الحداثية و تفرعاتها المختلفة، إلى بنية الثقافة العربية، ونقصد بهذه المقدمات و التفرعات كل الأفكار الفلسفية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و كل القيم و المسلكيات وحتى الأزياء و الأعياد و الفنون.

لم تدخل الأفكار و النظريات الغربية الحداثية كترجمات، إنما دخلت كمنظومات فكرية لها حاكمية نظرية، و هذه قضية في غاية الخطورة، فالتراث العربي الإسلامي صار يقاس و يقيم من خلال منظور ماركسي طبقي، كما رأينا في أمثلة عديدة عند حسين مروة في كتابه) النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) أو عند الطيب تيزيني في مشروعه لدراسة التراث.

كذلك فإن المجتمع العربي و الثقافة العربية و الشخصية العربية صارت تدرس استناداً إلى مرجعيات غربية حداثية، فقد درس هشام شرابي المجتمع العربي و الشخصية العربية و القيم التربوية و الاجتماعية العربية استناداً إلى الفرويدية الممزوجة بالرؤية الطبقية الماركسية، ولنا أن نتخيل ما هي النتائج التي ستترتب على مثل هذه الدراسة.

رابعاً: لقد حصل انقسام غريب في ثقافتنا العربية بين جموع الأمة و بين ثقافة النخبة، فجماهير الأمة تعيش في عالمها الثقافي الخاص المستمد من مرجعياتها الدينية و التي يعبر عنها على مستوى العقيدة بالخالق واجب الوجود و كلي القدرة و العلم، وبالمخلوق الذي يتردد بين الوجود و العدم، بين القدرة و العجز وبين العلم و الجهل. و يعبر عنها على المستوى القانوني بحاكمية الشريعة و المذاهب الفقهية الأربعة و إجماع الأمة و آراء السلف الصالح.

أما على المستوى الأخلاقي فيُعَبر عنه بمفردات الحلال و الحرام و الصدق و النفاق و الكفر و الإيمان و الدنيا و الآخرة و الثواب و العقاب و الخير و الشر. أما كل ذلك فهو يستند إلى منهج معرفي يبدأ دائماً بقال الله و قال رسول الله.

لقد تحولت هذه المنظومة الاصطلاحية، و كل ما تحمله من دلائل في ظل الانقسام الثقافي الحاصل، إلى مفردات تشير، في عرف المثقف التقدمي، إلى ثقافة بائدة تنتمي إلى زمن قديم، على الرغم من أنها تمثل الثقافة الاجتماعية العريضة. في حين أن الثقافة الجديدة كمنظومة انعزالية بدأت تطور مفاهيمها و مصطلحاتها الخاصة المستمدة من مرجعيات علمانية وضعية، فعوضاً عن ’’الأصول’’ صار هناك ’’منهج’’ و عوضاً عن العقيدة صار هناك فلسفة، وعوضاً عن الإيمان صار هناك شك ديكارتي منهجي، و عوضاً عن البخاري و مسلم صار هناك ’’ داروين و سبنسر و أوغسط كونت ’’. و هكذا تطور نسقان معرفيان أحدهما نسق فوقي مهيمن يمثل الثقافة العالمة، لكنه معزول و ضعيف التأثير في ثقافة الجماهير، ونسق منتشر يعبر عن الثقافة الاجتماعية، لكنه مغيّب و غير معترف به و ينظر إليه كثقافة شعبية فلكلورية تسير نحو الزوال.

خامساً: لقد هيمنت رؤية واحدة على الثقافة العربية هي الرؤية (النهضوية) كما تجلت تاريخياً و معرفياً خلال قرن و نصف من الزمان. لكن هيمنة هذه الرؤية لم يكن يعنى غياب الرؤى الأخرى و البديلة في الثقافة العربية، و بالتحديد الرؤية التأصيلية التي تؤكد على أهمية الفعل الثقافي كحالة من الاستمرارية و التكامل، وتؤكد على مقولات الهوية الفاعلة و الخصوصية الحضارية.

لقد قفزت الثقافة العربية الحديثة من فوق رموز كبيرة كان لها جهود عظيمة في إثراء الثقافة العربية و العمل على فتح آفاق جديدة أمامها، لكن هذه الجهود أهملت، و هذه الأسماء الكبيرة غيّبت تحت سلطان المعتقد الفكري والثقافي الذي أسمه التقدم.

سادساً: لقد أنتجت الرؤية التقدمية مجموعة من المنظورات المعرفية الكبرى للتاريخ و الثقافة العربية، عملت هذه المنظورات (البراديمات) على تكريس القطيعة التاريخية و المعرفية و التأسيس للنهضة كعملية انقلاب شاملة و كحالة انقطاع و إعادة تأسيس.

وقد كان من أهم هذه المنظورات ثنائية الانحطاط و النهضة كجدار تاريخي و معرفي بين زمنين في الثقافة العربية.

الانقطاع التاريخي و الحضاري في فكر النهضة لقد أنتجت الرؤية التقدمية للفكر والتاريخ مجموعة من المنظورات المعرفية الكبرى في الثقافة العربية الحديثة، عملت هذه المنظورات (البراديمات) على تكريس القطيعة التاريخية و المعرفية و التأسيس للنهضة كعملية انقلاب شاملة و كحالة انقطاع و إعادة تأسيس.

وقد كان من أهم هذه المنظورات ثنائية الانحطاط و النهضة كجدار تاريخي و معرفي بين زمنين في الثقافة العربية شرخ الوعي العربي و أسس لحالة من الاستتباع الفكري و الحضاري و شل قدرة الثقافة العربية على الإبداع و كرس عجزها عن رؤية حقيقة ما وصلت إليه أحوالها.

لقد أدى هذا الشرخ في الثقافة العربية الحديثة إلى شرخ آخر أصاب النخبة الفكرية العربية فانقسمت إلى قسمين، يمثل أحدهما النخبة التقليدية من علماء في مختلف مجالات العلوم الدينية و الدنيوية، مقابل شريحة جديدة ناشئة هي شريحة المثقفين التي ولدت في إطار المفاهيم الغربية الحداثية التي حددت توجهات هذه الشريحة وحددت أفكارها و دورها و نفسيتها.

لقد صار ممثلي النخبة التقليدية هم ممثلي الانحطاط في الوعي التقدمي الانقطاعي، و صار المثقف الحداثي هو صانع المستقبل و صانع الوعي الجماهيري الجديد، لكن هذا المثقف الذي استبدل النخبة الفكرية التقليدية كان عاجزاً عن القيام بدورها فعاش في عزلة عن ثقافته أمته و هويتها متعالياً على الجماهير مبتعداً عنها مستلباً لنموذج حضاري نموذج الحداثة الغربية - أثبتت التجربة عدم إمكانية تكراراه في الحياة العربية.

وسوف نتوقف أمام هذين المفهومين: ثنائية الانحطاط و النهضة، و المثقف كممثل للنخبة الفكرية الجديدة.



ثنائية الانحطاط و النهضة:

أطلق المفكرون العرب اسم النهضة على التحولات الفكرية التي حصلت بعد الحملة الفرنسية على مصر، و هم إلى يومنا هذا لم يعرّفوا هذه النهضة ولا من أين تستمد هذه التحولات مسماها، وما هي الانجازات التي تحققت من خلالها. إن الشرط الوحيد الذي يبدو كأنه يعطي هذه التحولات مشروعية المسمى الذي حملته، هو الإقرار الجماعي بأن هناك مرحلة انحطاط كانت مخيمة على المنطقة العربية طوال عقود طويلة انتهت مع البدايات الجديدة التي حملت اسم النهضة.

هكذا تحولت قضية عصور الانحطاط إلى مسلمة لم يناقشها أحد، في حين لا يزال مشروع النهضة يستمد مشروعيته المتجددة مع تحولات الحياة العربية خلال القرنين الأخيرين، وبشكل أساسي، من هذه المسلمة القديمة.

إذا كان هناك من يجادل اليوم في حقيقة النهضة وانجازاتها، فأعتقد أن أحداً لم يناقش بجدية قضية الانحطاط، بالرغم من أن مقولة عصور الانحطاط هي مقولة أيديولوجية بكل المقاييس، وهي لا تبدو في سياقات السرد سوى ذلك النقيض الذي تستمد منه النهضة مشروعيتها التاريخية والمعرفية.

واعتقد أنه قد آن الأوان لنطرح وبجدية تامة اليوم، قضية الانحطاط على بساط البحث، ونجيب علمياً لا أيديولوجياً عن هذا السؤال.

لقد دخل مفهوم الانحطاط حيز التداول بشكل رئيسي من خلال الدراسات الأدبية التي قام بها المستشرقون في القرن التاسع عشر، وتابعهم فيها الباحثون العرب في دراساتهم عن الأدب العربي.

وعمد الباحثون العرب الأوائل في تاريخ الأدب العربي ممن كان لهم دور كبير في صناعة مناهج التعليم في مصر ومن بعدها الدول العربية، أمثال: حسن توفيق العدل، وأحمد الإسكندري، وأحمد حسن الزيات، ومحمد نائل المرصفي وغيرهم، إلى تكريس نظرية تقسيم العصور الأدبية العربية الخماسي المراحل: عصر الجاهلية، فعصر ابتداء الإسلام، ثم عصر الدولة العباسية والأندلس ثم عصر المماليك والعثمانيين الذي يمثل عصر الانحطاط وأخيراً عصر النهضة.

يُذكر أن مفهوم الأدب كان يشير في الفترة التي تم فيها التأريخ للأدب العربي، أي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إلى ما هو أوسع من مفهوم الأدب كما هو مستخدم في الوقت الحالي، إذ كان يعني أنواعاً من الفنون كالشعر والرواية والمسرحية، ويشمل كذلك العلوم الإنسانية من فلسفية وتاريخية وأفكار اجتماعية، وهي أقرب ما يكون إلى ما نعنيه اليوم بالثقافة، فالأدب العربي هو الثقافة العربية.

وعلى ذلك فإن أدب الانحطاط - كما يقصد مؤرخو الأدب - يعني ثقافة الانحطاط الشاملة التي هيمنت على الحياة العربية خلال تلك الفترة. وعندما ننظر إلى المدة الزمنية لعصر الانحطاط وأدب الانحطاط، سنذهل ربما عندما نجد أن هذه الفترة تغطي - تبعاً لهذا التصنيف - ما يزيد على خمسة قرون ونصف القرن، كما قرر ذلك أحد أهم المراجع في تاريخ الأدب العربي لحنا الفاخوري. فعصر الانحطاط يمتد منذ سقوط بغداد على يد المغول عام 1258 م / 656 هـ حتى عام 1798 م 1213 هـ، عندما رست سفن نابليون على شواطئ مصر مدشّنةً بداية عصر جديد هو عصر النهضة.

إن ما يذهل في هذه المقولة ليس مجرد العمر الزمني المديد الذي تقرره للانحطاط فقط، بل حقيقة أن جل المكتبة التراثية العربية التي نفخر بها اليوم تعود إلى رجال عاشوا هذا الانحطاط المزعوم، كالقلقشندي وابن منظور والفيروز آبادي والمرتضى الزبيدي وابن تيمية والسيوطي وابن قيم الجوزية وابن خلكان وابن خلدون والقزويني والمقريزي وحاجي خليفة وعشرات غيرهم من كبار العلماء وذلك قبل أن ندخل في مجال العلوم البحتة والتطبيقية فنذكر ابن النفيس واحمد ابن ماجد وعلي ابن الشاطر والجزري بديع الزمان ومدين القوصوني وحسن الجبرتي وبهاء الدين العاملي وغيرهم ممن قد ينوف عددهم على الألف عالم ممن تركوا لنا أثاراً علمية لا يزال معظمها مخطوطاً لم يدرس بعد.

لقد قدم الفكر العربي الحديث المستند إلى ثنائية الانحطاط والنهضة عدداً من نماذج الانحطاط تمثلت في «الانحطاط كمفهوم سياسي» وهو يستند أساساً إلى سقوط دولة الخلافة العباسية متجاهلاً حقيقة أن الدولة الزنكية والأيوبية ودولة المماليك ومن بعدهم الدولة العثمانية لم يكونوا مجرد فقاعات جوفاء فارغة على سطح التاريخ العربي والعالمي. وقد أشرنا إلى نموذج«الانحطاط كمفهوم أدبي» ويمكن أن نلحق به مقولة «الانحطاط كمفهوم علمي» وهناك النموذج الأخير لمقولة الانحطاط وهو «الانحطاط كمفهوم فلسفي - عقلي -» وهو النموذج الذي نجده في الدراسات الحديثة كما عند الجابري مثلاً والمتمثل في حالة التوافق التلفيقي الذي وصلت إليه الثقافة العربية عموماً، بين منظومات معرفية متباينة - بيانية وبرهانية وعرفانية - أدت في النتيجة إلى انتصار «العقل المستقيل» كما يسميه، وهو يتمثل خير تمثيل في نموذج الغزالي الذي يبدو في هذه الدراسات نقطة تحول نحو عصور الانحطاط.

لايسعنا في هذه المقالة أن نتوقف أمام هذه النماذج تفصيلياً لنوضحها ونفندها، وقد فعلنا ذلك في كتابنا (ثقافة في الأسر، نحو تفكيك المقولات النهضوية)، لكننا نستطيع أن نؤكد أن هذه المقولات جميعها تبدو مقارنة بالواقع التاريخي والفكري الفعلي، مقولات أيديولوجية تهدف إلى تكريس «براديما» ظالمة ومجحفة قد صرنا نحتكم إليها في رؤيتنا لتاريخنا الفكري والمعرفي وهي ثنائية الانحطاط والنهضة التي صارت عامل انقطاع تاريخي ومعرفي فصلت الأمة عن تاريخها وعن تراثها وكرست منهجية الانقطاع وإعادة التأسيس كنموذج وحيد لتحقيق النهضة، هذا النموذج الذي لم يكن سوى محاولة كسولة عقلياً ومغتربة معرفياً ومستتبعة نفسياً للنموذج الحداثي الغربي.



المثقف ممثل النخبة الفكرية الجديدة:

لم يكن هناك في الثقافة العربية الإسلامية مثقفون، بل كان هناك علماء يمثلون شريحة النخبة الفكرية، و لذلك فإن مفهوم المثقف هو نتاج للفكر النهضوي الحداثي و شريحة المثقفين هم ممثلي النخبة الجديدة التي نشأت و توسعت على حساب ممثلي النخبة القديمة.

أن المثقفين كمصطلح هو ترجمة للكلمة الإنكليزية (Intelligentsia) وهي مصطلح حداثي دخل في حيز التداول في القرن التاسع عشر، بعد أن تم اقتباسه وتعميمه من الأدب الروسي الذي أنتج هذه الصيغة الاصطلاحية ليدل على نمط جديد من أنماط الوعي والممارسة الثقافية المغايرة لبنية وتكوين الثقافة الروسية التقليدية، فالمثقفون- Intelligentsia هم شريحة من شباب الجيل الجديد في روسيا التي تتوحد لا على أساس الطبقة الاجتماعية ولا على أساس المصلحة الاقتصادية أو المعتقد الديني، إنما على أساس اعتناقها منظومة جديدة من الأفكار والقيم التي كانت في معظمها ليبرالية واشتراكية ولا دينية، أي مغايرة لثقافة المجتمع السائد.

فهي التي رأى فيها الكاتب الروسي «تورغينيف» ذلك النزوع المخيف نحو «العدمية» في (الآباء والأبناء) ورأى فيها «دوستيفسكي» رغبة بالتدمير أشبه ما تكون بالتلبس الشيطاني (روايته الأبالسة).

من هذه الحال المحمومة بالصراع خرجت شريحة المثقفين لتستبدل على المستوى الأوروبي أولاً، كما أوضح عالم الاجتماع الإيطالي (يلفريدو باريتو) ممثلي النخبة بالمثقفين، وقد عزز هذا التوجه والحديث - لباريتو - النزوع نحو ليبرالية المعرفة والانتشار الأفقي للثقافة وولادة ما يسمى بالثقافة الشعبية والرأي العام الذي يشكل المجال الحيوي لحركة «المثقفين». على المستوى العربي والإسلامي فقد ولد المسمى الجديد حاملاً لملحقاته المعرفية والنفسية لولادته الأولى في الغرب، فالثقافة العربية والمثقف العربي الذي استبدل «العلم» و «العالم» أي ممثلي النخبة العضوية، جاء حاملاً لحال اغتراب بنيوية مرتبطة بظروف النشأة والتكوين، فالمثقف هو بديل العالم، فهو لذلك غير ملم بالعلوم الشرعية التي هي الوعاء الأوسع «للثقافة» العربية الإسلامية وهو لا يشعر بانتمائه إلى هذه الثقافة وإذا ما تعامل معها، وهو مضطر لذلك، فهو يتعامل معها - في أغلب الأحيان - كغريب عنها ومن خارجها لا كحامل لها. لقد وصف المنفلوطي ثقافة هذه الشريحة بقوله أنهم يعرفون من تاريخ بونابرت ما لا يعرفون من تاريخ عمر بن العاص، ويحفظون من تاريخ الجمهورية الفرنسية ما لا يحفظون من تاريخ الرسالة المحمدية، ومن مبادئ ديكارت و أبحاث داروين، ما لا يحفظون من حكم الغزالي وأبحاث ابن رشد، ويرون من الشعر لشكسبير وهوجو ما لا يرون للمتنبي و المعري.

لقد عبرت هذه الشريحة في سلوكها عن قناعة مفادها أن مستقبل الأمة مرتبط بقدرتها على تجاوز القديم و تمثل القيم الجديدة العصرية، وبدؤوا فعلاً في دفع الثقافة العربية باتجاه هذه القناعة، لكنهم نجحوا إلى حد ما في تهديم القديم و ما استطاعوا أن يؤسسوا لهذا الجديد المتخيل في أذهانهم.

إن أزمة الثقافة العربية اليوم هي بالدرجة الأولى أزمة هذا المثقف الحامل لفكر وثقافة مستمدة من أصول هي غير تلك الأصول التي نمت في إطارها ثقافة الأمة، و يعبر في سلوكه الاجتماعي و الفكري عن منظومة قيمية مختلفة ويحمل نفسية خاصة لا تتقبل ثقافة المجتمع و لا تستسيغها وتنظر إليها نظرة فوقية متعالية.

.المختار
أضافة تعليق