مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2016/05/28 03:22
موانع التجديد الحضاري في فكر مالك بن نبي


د.جيلالي أبوبكر
من الواضح أن التجديد الحضاري تصنعه جملة من الشروط ويتجلى في جملة من الميادين تمثل مظاهر الحضارة ومعالمها، ويمثل هو ذاته عامل البناء الحضاري لكل مجتمع دخل التاريخ فهو يمثل الديناميكا الحضارية لكونه إستراتيجية شعب يريد التحضر وينفر من التخلف ويرغب في التطور الروحي والمادي، ولكونه نظاما يُنتهج وخطة تُتبع لتطوير منتجات الحضارة الفكرية والمادية وللمحافظة على منتجات الحضارة القائمة واستمرارها من خلال الإبداع في مختلف المجالات فيتحقق التقدم والازدهار، ولكونه أسلوبا ينتهجه المجتمع في كل إصلاح ينجزه لرد المفاسد والأضرار ومن أجل إعادة البناء، ويحتاج أي مجتمع إلى التجديد الحضاري حينما يحرص على بعث وإحياء قيم وأعمال وعادات طيبة نافعة يكون قد تخلف عنها في وقت سابق، لكن في هذه الحالات التي يكون فيها التجديد الحضاري جوهر كل العمليات الحضارية وأساس "الديناميكا الحضارية" عند ميلاد الحضارة أو عند تطورها أو عند إصلاح ما تم إفساده، وحتى في عملية البعث والإحياء وإعادة البناء تقف أمامه جملة من الأسباب تمنع حركته وتقضي على بوادره وعلى الشروط التي تصنعه فيقوى التخلف وتتثبت أسباب الجمود والتحجر، هذه الأسباب المانعة لقيام الحضارة ولقيام التطور الحضاري أو لإبعاد الإصلاح الحضاري وإبعاد أي فعل لأجل البعث وإعادة البناء هو ما نتعرف عليه في هذا المطلب.
إنّ
موانع التجديد الحضاري تدخل في النسق الفكري لفلسفة الحضارة عند "مالك بن نبي"، استقاها من بحوث في التاريخ وتاريخ المجتمع الإسلامي وواقع الشعوب المتخلفة والشعوب المتقدمة، لأنّ الصراع قائم بين التحضر والتخلف وكلما قامت أسباب التحضر زالت معها موانع التجديد الحضاري والعلاقة عكسية بين شروط الحضارة وأسباب ضعفها وانهيارها وأفولها، بين موانع النهضة وشروط النهضة.
لقد حدد "مالك بن نبي" في أكثر من بحث وفي أكثر من كتاب وفي أكثر من محاضرة شروط نهضة أي شعب وهي شروط الحضارة معتبرا المشكلة الأم في حياة الإنسان هي مشكلة حضارته، والحضارة مرتبطة بعوامل بناء كما ترتبط بعوامل هدم للبناء، وأسباب تقتضي البناء في مرحلة ما قبل الحضارة هذه الأسباب التي تقتضي شروط البناء أو تهدمه ترتبط بحياة الفرد والمجتمع في جميع مجالاتها الروحية والفكرية والاجتماعية.
إنّ غياب الفكرة الدينية في حياة الفرد والمجتمع الروحية والتي تمثل الشرارة التي تنبعث منها أضواء التجديد الحضاري وأنوار الحضارة يؤدي بالضرورة إلى عجز الإنسان عن السيطرة على مكونات العدة الدائمة والتركيب بينها في وحدة عضوية تسمى الحضارة، ومما يعود إليه غياب الفكرة وعجز الإنسان عن التركيب بين العناصر الأولية للحضارة، الجهل والوثنية، "وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية، فإن الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس أفكارا بل ينصب أنصابا وهذا هو شأن الجاهلية".
[1] فالفترة التي كانت قبل مجيء الإسلام سماها القرآن الكريم بالجاهلية ولم يقر فيها ذلك التراث الأدبي، "لأن التراث الثقافي لم يكن يحتوي سوى الديباجة المشرقة الخالية من كل عنصر "خلاق" أو فكر عميق".[2]
إنّ غياب الأفكار وسيطرة الأوثان وانتشارها يمنع كل محولة تجديد في المجال الثقافي الروحي والأخلاقي وهو الأمر في المجتمعات البدائية والمجتمع العربي الجاهلي الذي لم تكن علاقاته "المقدسة مع أفكار وإنما كانت مع أوثان الكعبة. فالكلام العربي آنذاك لم يكن يتضمن سوى كلمات براقة وخالية من كل بذور خلاقة. وإذا كانت الوثنية جهالة فالجهالة بالمقابل وثنية".[3]والثابت في السنن الإلهية أنه كلما غابت الفكرة ساد الوثن والصنم لكن العكس صحيح في بعض الأحيان، ففي الجزائر مثلا وحتى سنة 1925 كان شعبها لا يعرف الأفكار بل يدين بالوثنية التي أقامت "نصبها في الزوايا، هنالك كانت تذهب الأرواح الكاسدة لالتماس البركات ولاقتناء الحروز ذات الخوارق والمعجزات".[4]
ظل هذا الشعب الجزائري يلتمس رضا الأوثان ويدفع عن نفسه حمى الدراويش ويحترق بنيران أهل الزردة "الفتنة" غارقا في الأوثان الخرافية الوهمية، حتى فعل الإصلاح في الجزائر فعله وأوشك الحال بالعودة إلى الروح الإسلامية حتى وجد الشعب نفسه أمام وثن جديد يغذيه الجهل ويزكيه والعزوف عن الفكرة الدينية التي كادت تخلصه من الوثن الخرافي.
إنّ احتلال الوثن مكان الفكرة في الحياة السياسية وسيطرة سلطة الصنم على مقاليد الحكم في الدولة يؤدي إلى اتساع نفس الشعب لإهانة المستعمر وتتكون فيه الروح التي تقبل الاستعمار فتنشأ فيه القابلية للاستعمار، والوثن السياسي جهل وجاهلية بما يجب أن تقوم الحياة السياسية،
»فجهل أو تجاهل القوانين الأساسية التي تقوم عليها الظاهرة السياسية والتي تقتضينا أن ندخل في اعتبارنا دائما صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي كآلة مُسيّرة له وتتأثر به في وقت واحد وفي هذا دلالة على ما بين تغيير النفس وتغيير الوسط الاجتماعي من علاقات متينة ولقد قال الكاتب الاجتماعي"بورك": "إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع أن تحتفظ ببقائها".[5]
عندما عرف الإنسان الوثن الخرافي ومعه الوثن السياسي ولم يعرف ذلك القانون السياسي أصبح في أمس الحاجة إلى شعار »غيّر نفسك فأنت تغيّر التاريخ".[6]ولم يدرك بأن الحق يشترط الواجب، "وأنّ الشعب هو الذي يخلق ميثاقه ونظامه الاجتماعي والسياسي الجديد عندما يغيّر ما في نفسه".[7]
غرق في التخلف واختفت عنده بوادر التقدم والنهضة وتلاشت مطالبه وحاجاته في "السراب السياسي" وكان ذلك بفعل جهل العوام وتجاهل البعض الذين طالبوا بالحقوق ولو مع الجهل والعري والوسخ، "ألا قاتل الله الجهل ،الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم فإن هذا النوع أخطر على المجتمع من جهل العوام لأن جهل العوام بيّن ظاهر يسهل علاجه، أما الأول فهو متخف في غرور المتعلمين".[8] فالجاهل يميت الأفكار وينشأ الوثن الخرافي كما يظلل الشعوب ويخادعها بفعل غرور المتعلمين وفي الحالتين معا لا يقوم مقام لشروط التجديد الحضاري لتعمل عملها.
ترتبط أية حضارة في ميلادها بفكرة واضحة مضبوطة تحمل المبدأ وتحدد الغايات قريبة كانت أو بعيدة التي يعيش لأجلها الفرد والمجتمع، فالحضارة هي "نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ".
[9] لكن هذه الفكرة لا تقوم بوظيفتها الاجتماعية والحضارية إلا بتوفير جملة من الشروط النفسية والأخلاقية وعمل هذه الشروط وتوفرها أمر ممكن في غياب الجمود الفكري الذي يملأ الحياة العقلية والفكرية لأفراد المجتمع، وهذا الركود في عالم الأفكار وهو ركود في عالم الأشخاص والأشياء يكون في حالات عديدة أولاها حالة ما قبل الحضارة التي تفتقر إلى الفكرة الواضحة محركة عملية التاريخ، بحيث يقوم الجمود الفكري بمنع قيام شروط التجديد والبناء الاجتماعيين من خلال رد أية محاولة تغيير في المنظومة الفكرية الفردية والجماعية، وهو شأن كل الشعوب البدائية سواء تلك التي شهدت الحضارة أو تلك التي لم تشهدها.
أما الحالة الثانية فتخص مرحلة الحضارة، بحيث يكتسب المجتمع عادات فكرية تترسخ في نظامه الاجتماعي وتبق حالّة في ذهنيات أفراده ومنجزات حضارته، وهذه العادات الفكرية تقف في وجه كل جديد وتمنع التغيير ويصبح الركود الحضاري معول هدم للتجديد بقتل روح الإبداع الفردية والاجتماعية التي هي جوهر التجديد الحضاري وتطوير الحضارة وتحصينها بالتقدم الفكري والمحافظة على استمرارها وبقائها، وينتج عن هذا القتل سقوط الحضارة وأفولها مما يوسع في مجال الجمود الفكري فيزداد تخلف المجتمع وانحطاطه ويفقد معنى وجوده.
إنّ طريق الخروج من حالة الجمود الفكري للوصول إلى حالة يتطور فيها عالم الأفكار هو التغيير في حالة البداوة أو الحضارة أو ما بعد الحضارة، هذا التغيير يبدأ في نفس الفرد ثم ينميه نحو الخارج أي محيط الفرد وهو الطبيعة والمجتمع، فالفكرة الإسلامية هي التي ملئت عالم الأفكار عند المسلمين الأوائل تدل على تغيير جذري في المفاهيم والتصورات والعلاقات، هذا التغيير يخص نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى الآخرين وإلى الله والوجود وغير ذلك، وهي التي أخرجت عرب الجاهلية إلى مسرح التاريخ، وهو حال الفكرة المسيحية والفكرة البوذية والفكرة البراهمية، والنهضة الأوروبية الحديثة نتاج انقلاب فكري وحاصل تفاعل جملة من التغيّرات التي دخلت عالم الأفكار في المجال المعرفي والعلمي والسياسي والاقتصادي وغيرها من المجالات الأخرى، إنّ التخلف والتراجع والانحطاط ظواهر تُنزل أي مجتمع من فوق وتمنع فيه أي مبادرة أو محاولة بناء أو تجديد أو إصلاح فهي ظواهر من إنتاج الجمود الفكري، وسبيل القضاء على الجمود الفكري الالتزام بالمبدأ القرآني الوارد في قوله تعالى: "إن الله ل يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم".
[10]
لا يندمج أي مجتمع في التاريخ ما لم يتخطى عقبة الجمود الفكري، ويشهد نهوضا فكريا على مستوى الأفراد، و"يكون للأفكار دور وظيفي، لأن الحضارة هي القدرة على القيام بوظيفة أو مهمة معينة".[11] إنّ ظاهرة الجمود الفكري التي تمنع النهضة تعود إلى غياب الإرادة الحضارية، وانعدام الإرادة الحضارية يعني انعدام القدرة على التغيير لغياب النزوع أو القصد المشحون بالعزم والإصرار ولغياب الشعور بأهمية التحوّل وضرورته لدى الفرد والمجتمع، وقد يتحرك بعض الأفراد نحو ذلك مثلما تحرك بعض الأبطال في التاريخ في عهد الأوديسة والإلياذة وهي عهود لم تُوجّه فيها الطاقة الاجتماعية نحو الأهداف الحضارية وكانت ملامحهم لأجل اكتساب المجد الذي هو قريب من الأساطير وليس لأجل صنع التاريخ.
فالإرادة الحضارية هي تحول في ذات الفرد في صلته بالمجتمع، من خلال تحقيق ذاته والمعنى من وجوده، وهي إنتاج اجتماعي ذي وظيفة اجتماعية، وانعزال الفرد عن اتصاله بالجماعة يفقده الإرادة الحضارية ويضعفه ويتركه حبيس ظروف وأوضاع ليس فيها الإرادة في تقديم العون والمساعدة له، "إنه حينئذ يشبه الفرد الذي يبقى حيّا بعدما يندثر جنسه في كارثة أرضية مأساته شبيهة بمأساة آخر ماموث من العصر الجليدي، يتيهفي الفيافي المجمدة القاسية حيث لا يجد القوت".
[12] وهنا تبرز"تبرز أهمية الإرادة الحضارية وقيمتها الاجتماعية وتصبح ضرورة حضارية لكونها تمثل إرادة المجتمع التي تجعل الحضاري ذات طابع موضوعي باعتبارها "جملة العوامل المعنوية والمادية اللازمة لتنمية الفرد".[13]
فغياب الإرادة الحضارية في حياة الفرد والمجتمع يعني فقدان المجتمع لوظيفته تجاه الأفكار وعجزه عن توفير الشروط الاجتماعية والمادية التي تضمن العون والمساعدة للفرد الذي هو جزء منه، وعجز المجتمع عن تقديم العون والمساعدة لأفراده بحيث لا يمنحهم القدرة والعزم والإصرار على التغيير، ولا يخلق فيهم القلق والتوتر والاضطراب لأجل التحرك في التاريخ فإن ذلك يمنع كل بادرة تحول أو محاولة تغيير أو حالة تجديد في حياة الأفراد الفكرية والاجتماعية.
إنّ جوهر الإرادة الحضارية هو التوتر الذي يمثل قوة للإقلاع والانطلاق، "والتوتر هذا فكرة دافعة، لا يمكن بثها عبر نظرية أو بأي إرشاد تعليمي".
[14] تظهر هذه الفكرة حسب "توينبي" حينما يظهر المجتمع للرد على التحديات بأعمال منظمة وناجحة، وهي الفكرة التي كانت وراء "إقلاع الإتحاد السوفيتي مع التجربة "الستاخانونفية" وأوضح للصين الشعبية ثبات إقلاعها خصوصا منذ الثورة الثقافية قد سجل هو أيضا المرحلة الأكثر تفجرا في سياق تكوين واندماج المجتمعات الوليدة".[15]
فالإرادة الحضارية هي وراء المعجزات الكبرى التي صنعها الإنسان في التاريخ وترتبط دوما بالتوتر والأفكار الدافعة، فهي ضرورة كقوة إقلاع وانطلاق لبناء المعجزة وبناء الحضارة، "إنّ هذه القوة هي جعلت تلك المجتمعات تنبثق من العدم ونثرتها على مسرح التاريخ حيث بقيت قائمة بقدر ما بقيت هذه القوى تدعمها".[16]
إنّ الإرادة الحضارية تكون دوما وراء إنسان الحضارة ورجل التاريخ وهي إرادة إنسانية اجتماعية تنتج الفعّالية في السلوك الإنساني وتفضي إليها باعتبار هذه الأخيرة شرطا ضروريا لقيام نهضة، أما اللاّفعالية فهي تمثل أحد العوائق أمام سير الإنسان نحو التجديد، وتعني غياب منطق عملي داخل المجتمع، هذا المنطق جزء من عالم الأفكار، وهو عجز في الأفكار "يخلق أو ينتج في المجال النفسي عجزا في "المراقبة الذاتية" وفي مراجعة النتائج".[17] بحيث لا تقيم الأفكار وزنا للعلاقات بين الأعمال والمجهودات والوسائل والسبل من جهة وبين النتائج المحققة من جهة ثانية ولا تحدد مفاهيم كمفهوم العمل ووسائل العمل ومحاصيله بدقة في التربية الأولى فأفكار الإنسان عن العمل وعن نتائجه وشؤون العمل وكل ما يرتبط به في المجتمع متروك للصدفة والعفوية.
إذا كان المنطق العملي يعني ارتباط العمل بوسائله ومدلولاته ونتائجه وهي معطيات تكون مستحيلة في عالم الأفكار فإنّ اللاّفعالية تعني انعدام هذا المنطق، ويؤكد "مالك بن نبي" على أنّ المنطق العملي منعدم في جوانب كثيرة ومختلفة من حياتنا في البلاد العربية والإسلامية، "ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق، لأنّ العقل متوفر في بلادنا غير أن العقل الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه، فهو شيء يكاد يكون معدوما".
[18]
فغياب الشعور بالمسؤولية وانعدام الشعور بضرورة التغيير وضعف الإرادة والانتباه كل هذا يجعل الأفكار راكدة ساكنة خالية من الفعّالية عاجزة تماما عن توجيه الطاقات والمجهودات وعن استخدام الوسائل، "هذا العجز يخلق مفعولا اجتماعيا معينا وسببا نفسيا مصطنعا ويمدد هذا المفعول ويمنحه تبريرا ومغالطة".[19]بحيث يبرز العجز ومعه التخلف بالفقر أو الجهل أو المسافة وهي جميعا نتائج ترتبت عن اللاّفعالية باعتبارها عجز في الأفكار وغياب اتصال عالم الأفكار بعالم الأشياء، هذه الوضعية جعلت التبديد يغلب على كل نشاط يمارسه الأفراد ويستشهد "مالك بن نبي" على ظاهرتي التبديد والتبذير الناتجتين عن اللاّفعالية بمظاهر اللاّفعالية في واقع المجتمع الإسلامي إذ يقول: "نلاحظ أن التبديد هو الغالب بكثير في معظم الأحيان على المحصول وعلى خطتنا لبعض النشاطات النموذجية في الجزائر، تمكنت في دراسة ظهرت لي منذ بضعة سنين من الإشارة بالأرقام إلى تبديد مفرط لطاقاتنا الاجتماعية وتبذير مسرف وغير محسوس في وسائلنا. وهذا مظهر من مظاهر اللاّفعالية التي تعزى إلى العجز في أفكارنا".[20]
فاللاّفعالية تمنع التجديد الحضاري وتنتج التخلف الذي "هو نتيجة أو حاصل ضروب اللاّفعالية الفردية فهو فقدان للفعالية على مستوى مجتمع معين".[21] وتصبح الفعّالية هي الشرط الوحيد وراء كل نهضة ووراء تجديد هذه الفعالية، يحدد "مالك بن نبي" مفهومها على أساس قرآني في قوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾.[22]فينبغي تسجيل الأحداث والأفعال في الأنفس لا على أنها قضاء محتوم وقدر مكتوب بل يجب تحديد المسئولية منها وأدراك أسبابها وشروطها وقياسها بالميزان الصحيح وتوجيهها، عندئذ يعرف الإنسان بأنه هو مصدر هذه الأسباب التاريخية كلها، فهي تصدر عن سلوكه ونابعة من ذاته أي صادرة من إرادته "في تغيير الأشياء تغييرا يحدد بالضبط وظيفتنا الاجتماعية كما رسمها القرآن".[23]
إنّ نظرة الإنسان إلى الأحداث التي تحل به على أنها من صنيع القدر والقضاء تقتل فيه الفعّالية فيصبح مسالما مستسلما للانتظار والتوقع العفوي بعيدا تماما عن " الديناميكا " في الفكر والحياة الاجتماعية عامة، وهو وضع ينطبق على جميع الشعوب المتخلفة المعاصرة، فهي شعوب لا فعالة حضاريا اختارت طريق الاستيراد والتكديس لا سبيل الإنتاج والبناء.
فشراء منتجات حضارة الغير وتكديسها يخلق مشاكل خطيرة بحيث تنمو اللاّفعالية وتموت الفعّالية فيعيش الإنسان في تبعة حضارية لغيره ويكون عالة وليس هناك أخطر من التبعية الحضارية على حياة المجتمع وقيّمه وهويته، فالتكديس مظهر من مظاهر التخلف والتبعية يعيق التنمية ويمنع التجديد الحضاري، فشراء منتجات حضارة ما وتكديسها " الحضارة الشيئية" لا يبني الحضارة إذ أن أكوام من الأشياء المستوردة لا تساوي حضارة، فالحضارة حاصل تفاعل جملة من الشروط في التاريخ نفسية واجتماعية، وتخضع عملية البناء الحضاري لجملة من القوانين مثل قانون المبدأ الروحي وقانون التركيب بين عناصر العدة الدائمة وقوانين التوجيه وغيرها، "فإن العودة إلى الريادة في المجال الحضاري تكون بالبناء المخطط المدروس المحكوم بفكر متحرر من إرادة الأجنبي وتأثيراته وليس بدفع الأمـوال لشراء مواد الاستهلاك المادي".
[24]
في ظاهرة التكديس يقول "مالك بن نبي": "إنّ علينا أن نكوّن حضارة أي أن نبني لا أن نكدس فالبناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس ولنا في الأمم المعاصرة أسوة حسنة فالحضارة هي التي تكوّن منتجاتها وليست المنتجات هي التي تكوّن حضارة إذا من البديهي أن الأسباب هي التي تكوّن النتائج وليس العكس، فالغلط منطقي ثم هو تاريخي لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".[25]
إنّ محاولة بناء الحضارة على الشيئية بشراء أشياء ومنتجات حضارة أخرى والحرص على تكديسها أمر ميئوس منه ومستحيل والاستحالة كيفية وكمية معا، كما أوضح "مالك بن نبي" في كتابه شروط النهضة في "مبحث من التكديس إلى البناء"، كما أن للحضارة روح وشخصية تحددها جملة من الخصوصيات الفكرية والتقنية والاجتماعية للإنسان الذي شيّدها، وإذا كان الإنسان يبيع أشياء حضارته فعندما نشتري منتجات هذه الحضارة "فإنها تمنحنا هيكلها وجسدها لا روحها".[26]
فالحضارة بناء يجري في المجتمع عندما يتحرك أفراده في التاريخ فينتجون الجديد في عالم الأفكار وعالم الأشياء، ومن ذلك يتشكل التجديد الحضاري وتتكون الحضارة، أما استيراد منتجات الغير وتكديسها فلا ينفع في أية محاولة للتحضر.
إنّ ما خُصّت به الطبيعة البشرية ما يسميه "مالك بن نبي" "الطاقة الحيوية"، "وهي من طبيعتها البهيمية لا تندمج مع الحياة في المجتمع بحيث أن اندماج الفرد الاجتماعي يراعي احتياجاته من ناحية واحتياجات المجتمع الذي يندمج فيه من ناحية أخرى".
[27] وتمثل الطاقة الحيوية جملة الدوافع الغريزية الحالّة في كل فرد بالطبيعة، فالحاجات التي تتطلبها هذه الدوافع الفطرية لا يمكن تعطيلها، عليها تقوم حياة الفرد ووجود المجتمع، لأن انصهار الفرد في المجتمع يقوم تدريجيا من خلال الاستجابة لطبيعته من جهة ولجملة القواعد التي تكوّن النسق الاجتماعي.
المعروف أنّ التجديد الحضاري لا تقوم له قائمة إن لم يحصل انسجام وتكامل من الطبيعة الغريزية الخاصة بالفرد والنظام الاجتماعي السائد في المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، فإلغاء واحد من الدوافع البيولوجية مثل دافع الغذاء أو دافع الجنس أو دافع التملك فإن ذلك يؤدي إلى سيطرة قانون الغاب الذي ينظم الحياة على أساس الأقوى لا الأفضل، ومن جهة أخرى فإنّ تحرير الدوافع الغريزية البيولوجية من كل ما يقيّدها فإنها تهدم الحياة الاجتماعية وتحول المجتمع البشري إلى تجمع بهيمي تحكمه شريعة الغاب التي تقصر الحياة على مبدأ البقاء للأقوى والأشرس.
كثيرا ما ينشغل الإنسان بالدوافع البيولوجية ومطالبها على حساب حاجاته الإنسانية الاجتماعية والحضارية وهو حال الشعوب البدائية التي قضت حياتها في تلبية حاجياتها الحيوية ولم تعرف أبسط شروط النهضة وعوامل التجديد في نمط التفكير والسلوك، وهو حال أي جماعة بشرية تكون في مرحلة ما قبل الحضارة، بحيث أن انشغالها المتزايد بالحاجيات البيولوجية الحيوية يجعلها حبيسة نمط معين من التفكير وأشكال محددة من السلوك، هذه الوضعية تمنع فيها كل محاولة لتجديد الفكر أو لتطوير العمل، أي تمنع كل مبادرة لتطوير الحاجيات ونقلها من المستوى الفردي إلى المستوى الاجتماعي وبالتالي تمنع تطوير الأعمال ووسائلها ونتائجها.
إنّ وضعية الإنسان في مرحلة ما قبل الحضارة حيث تسيطر الدوافع والمطالب الحيوية على حياة الناس وتمنع كل تجديد أو نهضة هي وضعية يعيشها حتى الإنسان المتحضر ولكن بصورة مغايرة للصورة السابقة من حيث النتائج لا من حيث الظروف والأسباب، فالحضارة تنتقل من المجال الروحي الأولي إلى مجال العقل حيث النماء والازدهار في جميع المجالات وهي مرحلة ينصرف فيها الناس إلى تلبية الشهوات والغرائز التي تسترجع سيادتها الغائبة أمام انحدار الروح ومطالبها ويغرق الجميع في حياة البذخ والترف واللهو فيُؤذن لميلاد مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد الحضارة فيها تتحرر الغرائز تماما من ربقة المجتمع هذا المجتمع الذي يتهدم وتتهدم حضارته وتصبح فيخبر كان.
إنّ تفضيل الغرائز والشهوات على الأفكار والقيّم الروحية السامية والمثل العليا يضع الإنسان في مستوى بهيمي لا يعرف النهضة ولا يصل إلى الحضارة، لأن الحضارة تكون حيث يكون الإنسان القادر على تحقيق توازن بين طبيعته الغريزية وطبيعته ككائن روحي يملك الروح والعقل ويتمتع بقدرات شتى تجعله مؤهلا ليسود في هذا الوجود
.
إنّ موانع التجديد الحضاري المحددة في هذه الدراسة وهي كثيرة ومختلفة ومتداخلة فيما بينها أدّت إلى نتيجة وضعت الإنسان في حالة لا يعرف فيها التحدي الفكري أو الاقتصادي أو السياسي بل حالة من التبعية اللامشروطة والانقياد الأعمى للآخرين في الفكر والسلوك وأنماط العيش عامة فتعرّض للاستعمار بمختلف أشكاله بقسوته ومرارته وصار يملك ''القابلية للاستعمار''.
إنّ الكثير من أبناء الشعوب المتخلفة والمستعمرة تبرر التخلف والانحطاط في بلادها بالجهل والفقر والاستعمار، "وقام هذا الذُهان الأخير في الجزائر على قواعد ثلاث من اللازم أن نذكرها هي:

- لسنا بقادرين على شيء لأننا جاهلون.
- لسنا بقادرين على أداء هذا العمل لأننا فقراء.
- لسنا بقادرين على تصور هذا الأمر لأن الاستعمار في بلادنا".[28]
إنّ سبب التخلف والانحطاط لدى الشعوب المتخلفة عامة والشعوب العربية والإسلامية خاصة ليس خارجيا بل داخليا في نفس كل فرد من أفراد هذه الشعوب وفي الإطار الاجتماعي لكل مجتمع من هذه المجتمعات المتخلفة، "لا يأتي عامل الكف من خارج الذات بل هو سبب داخلي ناتج عن نفسية الناس وأذواقهم وأفكارهم وعاداتهم وفي كلمة واحدة ناتج عن قابليتهم للاستعمار".[29]
إنّ المستعمر- بكسر الميم- ينعت المستعمر- بفتح الميم- بالكائن المغلوب على أمره ويريد منه عاطلا عن العمل ليسخره في الأعمال الشاقة بثمن زهيد ويريد منه جاهلا ليستغله ويريد منه متدنيا في الأخلاق لكي تنتشر الرذائل لتشتيت المجتمع وتفريق أفراده حتى يحل بهم الضياع في الناحية الأخلاقية مثلما هو حال الناحية الاجتماعية، كما يريد منه كائنا تغمره الأوساخ يظهر في سلوكه الذوق السيئ ليتعرض للذل والاحتقار، "وبذلك تكون العلة مزدوجة، فكلما شعر بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج فإننا نرى في الوقت نفسه معاملا باطنيا للمعامل الخارجي ونحط من كرامتنا بأيدينا".[30]
تمثل "القابلية الاستعمار" عائقا حضاريا داخليا ويمثل "الاستعمار" عائقا حضاريا خارجيا، لما لهما من تأثير سلبي، "وهو لا يظهر هنا في صورة أسطورة تكف العالم الإسلامي عن التطور وذهان يشله عن التغلب على مصاعبه النفسية والاجتماعية فحسب، بل يظهر أيضا في صورة محسة وأعمال سالبة تهدف إلى طمس قيم الفرد وإمكانيات تطوره، ويكون هذا الجانب أكثر ظهورا حينما يكون الاستعمار استبدادي، كما كانت حاله في إندونيسيا وطرابلس الغرب، وكما هو الآن في شمال إفريقيا".[31]
يحرص الاستعمار كل الحرص على التمكين لاستقراره في البلاد المستعمرة مستهدفا الفرد والمجتمع يؤثر فيهما لتقوية معامل "القابلية للاستعمار" فيزيد ذلك في السيطرة على المستعمر، فهو "يؤثر في حياة الفرد في جميع أطوارها يؤثر فيه وهو طفل، إذ لا يمده المجتمع بما يقوي جسده وينمي فكره، أو يهيئ له مدرسة أو توجيها، هذا إذ كان له أب يحنوا عليه أما إذا فقد من نشأته الأب فسيكون الأمر أدهى وأمر ولسوف يؤول صاغرا إلى ماسح الأحذية أو سائل يتخلى عن كل عزة وكرامة، بإراقة ماء وجهه".[32]
يؤثر الاستعمار في المجتمع تأثيرا سلبيا بحيث يهدمه ويزيف قيّمه ويمنع فيه قيام أي شرط من شروط النهضة والإصلاح وأي عامل من عوامل البعث والإحياء وإعادة البناء مستعملا وسائل وأساليب عديدة مباشرة وغير مباشرة محلية ودخيلة، "كذلك نجده يحول بين الشعب وإصلاحه نفسه، فيضع نظاما للإفساد والإذلال والتخريب، يمحو به كل كرامة أو شرف أو حياء هكذا يجد الشعب المستعمر نفسه محاصرا داخل دائرة مصطنعة، يساعد كل تفصيل فيها على تزييف وجود الأفراد".[33]
فلا سبيل إلى الحضارة أمام مجتمع تغمر أفراده "القابلية الاستعمار" أو خاضعا للدوائر الاستعمارية، فالحضارة من نصيب مجتمع يدرك أفراده معنى وجودهم ويتحررون من ربقة الوثن الخرافي والوثن السياسي والوثن لاستعماري وتكون حركة بناء تدخل التاريخ لتسقر فيه.
نستخلص مما سبق أن التجديد الحضاري له عوامل وشروط تحدثه كما له موانع تقف في وجهه، هذه الموانع ترتبط بالفرد وبمحيطه، وترتبط بالفرد ككائن طبيعي ونفساني وعاقل واجتماعي فهي موانع ذات طابع حيوي ونفساني واجتماعي وهي كذلك ذات طابع فكري ومنهجي، بعضها ذاتي في الفرد وبعضها موضوعي، بعضها داخلي في المجتمع وبعضها خارجي، وسبيل الفرد والمجتمع إلى الحضارة هو القفز فوق موانع النهضة والتجديد للوصول إلى نقطة منها تنطلق وتقلع عملية البناء التاريخي بعدما تتوافر كافة شروط هذا الإقلاع.












 
 
[1] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ص36.

[2] - المرجع السابق: ص36.

[3] - مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 96.

[4] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ص37.

[5] - المرجع السابق: ص 42.

[6] - مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص100.

[7] - المرجع السابق: ص100.

[8]- مالك بن نبي: شروط النهضة، ص 50.

[9] - مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص41.

[10] - قرآن كريم: سورة الرعد، الآية11.

[11] - مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص42.

[12] - المرجع السابق: ص43.

[13] - المرجع السابق: ص43.

[14] - المرجع السابق: ص46.

[15] - المرجع السابق: ص45-46.

[16] - المرجع السابق: ص48.

[17] - مالك بن نبي: فكرة كومنولث إسلامي، ص59.

[18] - ملاك بن نبي: مشكلة الثقافة، ص123.

[19] - مالك بن نبي: فكرة كومنولث إسلامي،ص61.

[20] - المرجع السابق: ص61.

[21] - مالك بن نبي: آفاق جزائرية، ص121.

[22] - قرآن كريم: سورة آل عمران، الآية 110.

[23] - مالك بن نبي: تأملات، ص 126.

[24] - أحمد السحمراني: مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا،ص103.

[25] - مالك بن نبي: تأملات، ص167.

[26] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ص63.

[27] - مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص49.

[28] - مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي،ص 80.

[29] - المرجع السابق: ص83.

[30] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ص131.

[31] - مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي،ص99.

[32] - مالك بن نبي: شروط النهضة، ص221.

[33] - مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص101
 
الدكتور جيلالي بوبكر

أضافة تعليق