مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2016/05/07 00:30
بعد انقضاء خمس سنوات على بدء (الربيع العربي) (1/3)

حسن خليل غريب
المتغيرات التي حصلت على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي؟

 

ملاحظة: سننشر هذه الدراسة على ثلاث حلقات:

 

- الحلقة الأولى: المتغيرات على الصعيد الدولي.

 

- الحلقة الثانية: المتغيرات على الصعيد الإقليمي.

 

 

- الحلقة الثالثة: المتغيرات على الصعيد العربي.

 

 

الحلقة الأولى: المتغيرات على الصعيد الدولي:

 

إذا كنا نحسب أن العالم أصبح كـ(قرية صغيرة) تترابط فيه قضايا الدول وتتشعَّب مصالحها.

 

وإذا كنا نحسب أيضاً أن وطننا العربي الكبير، كان وما يزال، يشكل محط الأنظار الدولية منذ بدايات تشكيل أول إمبراطورية في التاريخ، وذلك لموقعه الجغرافي الأكثر أهمية للدول الأوروبية الغربية والشرقية منها.

 

وإذا كانت قضايانا العربية لا تنفصم مطلقاً عن اهتمامات العالم، للأسباب المذكورة أعلاه، أي أن العرب لن يستطيعوا العيش وتقرير المصير من دون إجماع تتفق عليه الدول الكبرى.

 

لكل ذلك، وإذا أردنا أن نعرف ماذا يحصل الآن على مساحة الوطن العربي الكبير، علينا أن نعرف أين تتلاقى مصالح الدول الكبرى وأين تتناقض. وأين تلتقي مصالح الأمة العربية مع تلك الدول وأين تتناقض.

 

ونتيجة لتحديدات المقدمة، نتساءل: كيف نرى المشهد الدولي الآن، أي في مرحلة (الربيع العربي)؟

 

بداية لا يمكننا أن نطلق على ما يجري إسم (الربيع العربي)، لأن صناعته ليست عربية، ولا يمكننا أيضاً تسميته بـ(الخريف العربي) و غيرها من التسميات، لأن صناعته ليست عربية أيضاً. بل إن ثوب الفصول سواءٌ أكانت ربيعاً أم كانت خريفاً، تتم حياكته باسم العرب، وزُجَّت بالحياكة تسميته العربية للتعمية على ما يجري. بل إن النول عربي أما الحائك فهو يمثل كل الشعوب ما عدا الشعب العربي. لذا تم افتعال الصراع بين أنظمة ديكتاتورية وشعوب تواقة للديموقراطية.

 

إن البرهان الأول على أن حائك ثوبنا ليس عربياً، يتمثل بجملة من المتغيرات التي حصلت على الصعيد الدولي، وما كانت لتحصل لولا تناقض مصالح القوى الدولية التي تتسابق على قطف ثمار ما يجري في هذا الوطن.

 

خلال السنوات الخمس الفائتة برزت ثلاثة متغيرات على الصعيد الدولي، وهي: إعادة إحياء المسألة الشرقية، ومحاولات إعادة إحياء القطبية الدولية المتعددة، و البدء بتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.

 

- المتغير الأول: إعادة إحياء المسألة الشرقية،

 

- مفهوم مصطلح المسألة الشرقية:

 

المسألة الشرقية مصطلح تاريخي له أبعاد سياسية واقتصادية وعسكرية ثابتة كان أول ظهور لها في التاريخ الوسيط ابتدأ بصراع المصالح التاريخية بين منظومة دول أوروبا الغربية كطرف أول، وروسيا القيصرية كطرف ثاني. وكان من أهم مظاهرها حروب القرم بين روسيا والسلطنة العثمانية بين العامين (1853 – 1856) ودخلت بريطانيا وفرنسا الحرب إلى جانب الدولة العثمانية في العام 1854). وتعود أسباب تلك الحرب التي اندلعت بينهما من أجل حصول روسيا على موطئ قدم فيما تمت تسميته تاريخياً بـ(المياه الدافئة)، وهو الحلم ذاته الذي يساور دول غربي أوروبا.

 

- ومصطلح المياه الدافئة،

 

هو (الحلم الذي ظل يراود الروس فترة طويلة من الزمن، وأدرك الروس أن ذلك لن يتحقق إلا بوجود قدر من التوافق بين روسيا والدول الأوربية الكبرى).

 

وغير حرب القرم هناك دليل آخر على وجود ذلك الحلم المشترك، ظهر على شكل مزاعم حماية الأقليات الدينية في الأرض العربية. وبمراجعة تاريخية سريعة لتجربة عهد المتصرفية في لبنان في العام 1860، سنلمس بوضوح أن كل دولة من المنظومتين ادَّعت حماية إحدى الأقليات الدينية في لبنان، لذلك كانت القرارات العثمانية بالنسبة للمتصرفية خاضعة لموافقةالدول الأوروبية العظمى الست: بريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا وإيطاليا.

 

- المسألة الشرقية ثابت في العلاقات الغربية الأميركية – الأوروبية، والشرقية الروسية:

 

فالمسألة الشرقية، إذن، ليست حدثاً تاريخياً قد يتغير بتغير الظروف التاريخية، بل هو مفهوم سياسي اقتصادي عسكري ثابت تُصنع الظروف التاريخية على أساسه، كما هو حاصل في الصراع الروسي – الأميركي في سورية. ولذلك، عندما أيقنت روسيا (بوتين) في المرحلة الراهنة أن مصالحها أصبحت مهددة في المنطقة بالهيمنة على سورية، بفعل التدخل الأوروبي – الأميركي، وضعت كل ثقلها للدفاع عن آخر حصونها في الوطن العربي. فالدولة الروسية تعتبر أن سورية الآن حليفها الوحيد الذي بقي لها بعد تكبيل مصر باتفاقيات كامب ديفيد، واحتلال العراق، وتدمير ليبيا.

 

كان إحساس روسيا بخطر استلاب سورية بعد أن تفدمت الولايات المتحدة الأميركية، بتاريخ 4 تشرين الأول من العام 2011، بمشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي، لاستخدام الفصل السابع ضد سورية تحت ذريعة (حماية المدنيين). وكان مشروع القرار شبيه بالقرار الذي أصدره المجلس ضد الدولة الليبية بزعامة معمر القذافي. حينئذِ استخدمت روسيا، بالإضافة إلى الصين، حق النقض (الفيتو) لإفشال تمرير القرار، وعن هذا صرَّح مسؤولون روس بالقول: لقد خُدعنا مرة في ليبيا، ولن نُخدَع مرة أخرى في سورية. وبدا الإصرار الروسي ثابتاً حيث إن الظاهرة تكررت أربع مرات كان آخرها في 23 أيار من العام 2014.

 

واستناداً إلى تلك الوقائع، وإذا كان مصطلح المسألة الشرقية قد أصبح مصطلحاً خشبياً كما يحسب البعض، إلاَّ أنه ليس كذلك، بل ستبقى هذه المسألة تعبر عن طبيعة المصالح بين شرق أوروبا الروسي كطرف أول، وغرب أوروبا المتزاوج مع المصالح الأميركية كطرف ثاني. والدليل على ثبات هذا المفهوم، الذي سيبقى طالما ظل صراع المصالح بين الدول الكبرى مستمراً، فقد كان في أيام سلطة القياصرة، آل رومانوف وغيرهم من الإقطاع الروسي التقليدي، وكذلك تواصل تأثيره في عصر الاتحاد السوفياتي الشيوعي الاشتراكي، وصولاً إلى روسيا بوتين ذات الطابع الرأسمالي. ونشير هنا، إلى أن هذا المصطلح لن يزول سوى في حالة واحدة هو في أن يتحول النظام الروسي إلى تابع للغرب الأوروبي – الأميركي.

 

إن الموقف الروسي بالنسبة للقضية السورية، وتحت أسباب حماية المصالح الروسية كما ينص عليه مصطلح المسألة الشرقية، أخذ يؤسس لاستعادة حكم العالم بأكثر من قطبية.

 

وهنا لا بد من الوقوف عند متغير ثاني وهو استفاقة الدب الروسي بعد سبات استمر عشرين سنة، أي امتد منذ العام 1991 تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى العام 2011 تاريخ البداية لتفجير الساحة السورية، وإدراكه أن ما يجري في الوطن العربي عامة، وفي سورية خاصة هو قرار أميركي يعمل على إضعاف الدولة الروسية، لأنه بإضعافها وطردها من المنطقة، يخلو الجو للولايات المتحدة الأميركية بحكم العالم بقطبية واحدة، وهو الهدف الاستراتيجي الذي أعلنه اليمين الأميركي المتطرف بمقولات مثل: (نحو قرن أميركي جديد)، أو (نهاية التاريخ أمام عجلة قطار الديموقراطية الأميركية). وبهذا تكون إعادة إحياء المسألة الشرقية، استناداً إلى تعريفها أعلاه، قد أسَّست للمتغير الثاني وهو إعادة إحياء القطبية الدولية المتعددة.

 

- المتغير الثاني:

 

محاولات إعادة إحياء القطبيات الدولية المتعددة،

 

وإعادة إحياء الحرب الباردة بين الشرق الروسي، والغربي الأميركي - الأوروبي:

 

كمنطلق لفهم طبيعة مسار هذا المتغير، لا بد من إعادة تأصيله تاريخياً وفكرياً، ونتساءل: ما هي جذوره التاريخية؟ وما هي أسسه السياسية؟ وما هي تأثيراته على إدارة حكم العالم؟ وما هي تأثيراته على واقع الوطن العربي في الماضي والحاضر والمستقبل؟

 

يعود بناء الدولة الحديثة إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقبلها كان النظام الإمبراطوري، هو الذي يحكم العالم. فالنزعة الإمبراطورية تعني أن الدولة الأقوى في العالم كانت توسِّع حدودها حيث تقف جيوشها. فما تكاد إمبراطورية تدول حتى تحل مكانها إمبراطورية أخرى، وكأن نزعة التوسع على حساب الشعوب الأضعف كانت القدر البغيض الذي عانت منه الشعوب ما عانت، وما تزال تعاني حتى الآن.

 

لقد مهَّدت الحرب العالمية الأولى لنشأة الدولة الحديثة، أي الدولة المعروفة الحدود والتي تتمتع بحقها بتقرير مصيرها. وجاءت الحرب العالمية الثانية لتضع الدولة الحديثة على سكة التنفيذ خاصة في الوطن العربي بعد أن استقلت أقطاره واحداً تلو الآخر من الانتدابين الفرنسي والبريطاني. ومنذ تلك المرحلة انقرض مفهوم الدولة الإمبراطورية بمنع استخدام القوة العسكرية للتوسع على حساب الشعوب الأخرى. ومن الغريب في الأمر أن الولايات المتحدة الأميركية كانت الرائد لهذا المتغير استناداً للمبادئ الأربعة عشر التي أعلنها ولسون الرئيس الأميركي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

 

ولأن الحرب العالمية الثانية أنجبت دولة كبرى عُرفت بالاتحاد السوفياتي. ولأنها كانت نداً لدولة الولايات المتحدة الأميركية، حُكم العالم بقطبيتين: أميركية وسوفياتية. وعاش العالم مرحلة امتنعت فيها حروب الدول الكبيرة ضد الدول الصغيرة. بحيث راحت الدولتان الأكبر تعملان على احتواء الدول الصغيرة بالسياسة والاقتصاد. واستمرت المرحلة إلى العام 1991، أي التاريخ الذي يُؤرَّخ به لانهيار الاتحاد السوفياتي. ومن بعدها حصل الفراغ الكبير في حكم العالم، مما أتاح الفرصة للولايات المتحدة الأميركية للعودة إلى العصر الأمبرطوري الأميركي خاصة وأنها أنست في نفسها القوة الاقتصادية والعسكرية لبناء إمبراطورية أميركية في القرن الحادي والعشرين تحكم العالم من أقصاه إلى أقصاه، وتعززت ثقتها بعد أن غاب عن الساحة العالمية من يقف في وجهها. فأعلنت نهاية التاريخ، وعاثت بمستقبل الدول وحدودها وسيادتها وحقها بتقرير المصير ابتداء من دول مخلفات الاتحاد السوفياتي في البلقان خاصة، مروراً بأفغانستان، وانتهاء باحتلال العراق.

 

لقد كانت الدول الحديثة أكثر أمناً في ظل سيادة النظام العالمي المتعدد القطبيات، وأكثر من استفاد منها الدول في أقطار الوطن العربي، وفي ظل التوازن الدولي كانت الدولة القطرية العربية تتجه نحو النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ويكفي أن أكثرها تقدماً قد نمت قدراته في ظل ذلك النظام، كمثل مصر وسورية والعراق وليبيا واليمن، وبكفي أنها كان لها الخيار ببناء ترساناتها من الأسلحة من المخازن السوفياتية.

 

طبعاً لم تكن تلك الظواهر لتلقى القبول الأميركي سوى بالإرغام والإذعان خشية من ردود الفعل السوفياتية، ولذلك كانت تبطن للخلاص من أعباء الاتحاد السوفياتي، وتنتظر الفرصة السانحة لتغيير المعادلات في الوطن العربي. فكان انهيار الاتحاد السوفياتي هو الفرصة السانحة لتكشر الولايات المتحدة الأميركية عن أنيابها، وتستولي على المؤسسات الأممية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وفي المقدمة منها تحويل مجلس الأمن الدولي إلى مجلس أمن أميركي، تفرض فيه أميركا طريقة اتخاذ القرارات. ولذلك كان العدوان الثلاثيني على العراق، في العام 1991،فرصة مناسبة في ظل غياب القطبية السوفياتية. وتلاها احتلال العراق في ظل إدارة روسية ضعيفة، أي في عصر يلتسين الذي كان أميركي الانصياع أكثر منه روسي الانتماء. ولولا المواجهة التي قادتها المقاومة الوطنية العراقية، التي أوقفت زحف المشروع الأميركي اتجاه أقطار عربية أخرى، لكانت خريطة الشرق الأوسط الجديد قد تم تنفيذها بعد أشهر من احتلال العراق.

 

لقد أظهرت مرحلة انتهاء حكم العالم بقطبيتين وتحوله إلى حكم قطبية أميركية وحيدة، المخاطر الجمة التي أرخت بظلالها على العالم كله وخاصة عندما ارتفع مبدأ (نحو قرن أميركي جديد). وكان احتلال العراق من أولى ثماره، بحيث لم يكن ليتسنى لأميركا فرصة احتلال العراق لو كان العالم محكوماً بنظام القطبيتين أو أكثر. ولهذه الحقيقة مظاهر عديدة ومن أهمها أن المحللين الاستراتيجيين اتفقوا على أن احتلال العراق جاء نتيجة انهيار القطبية الثانية متمثّلةً بمنظومة دول الاتحاد السوفياتي. حيث كانت روسيا أكبر دول تلك المنظومة تلملم جراحها وكانت ما تزال من دون أنياب، وكانت عاجزة عن استخدام حق النقض (الفيتو). وعلى الرغم من واقعها، أي قبل خروجها من صدمة انهيار المنظومة التي كانت تقودها، فقد امتنعت، مع فرنسا وألمانيا، عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي أجاز للولايات المتحدة الأميركية وحليفتها بريطانيا باستخدام القوة لاحتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني.

 

بعد قراءة سريعة لتاريخية تأسيس نظام حكم العالم بقطبيات متعددة، وتاريخية حكمه بقطبية واحدة، وتأثيراته على دول العالم بشكل عام، وعلى دول الأقطار العربية بشكل خاص، نطرح السؤال التالي:

 

ما هو النظام الدولي الأكثر استجابة لمصالح الوطن العربي بأقطاره كافة؟ وكيف نحدده في ظل التجاذابات الدولية والإقليمية والعربية الشديدة التعقيد في هذه المرحلة؟

 

بداية نقول من الرومانسية، بل من المستحيل أن يفكر العرب ببناء منظومة عربية بمعزل عن وجود نظام عالمي. ولأن المشهد العالمي الآن شديد التعقيد، يمكننا الانطلاق بدراسة مواقفنا من ذلك النظام الذي يتشكل، الآن، على ضوء فهمنا للعلاقة بين الاستراتيجي والمرحلي.

 

الاستراتيجي والمرحلي في ميزان مصالحنا القومية العربية:

 

في هذا الواقع المُعاش، والذي نلمسه ونراه ونتذوقه ونسمعه بوضوح، ما يفرض علينا التساؤل التالي: أين تكمن مصالحنا في ظل هذا المشهد المركب، الغريب والعجيب؟ وكيف علينا أن نتصرَّف؟ وهل علينا أن نستفيد من قاعدة وضع المرحلي في خدمة الاستراتيجي كمبدأ ثوري؟

 

إن وقائع التاريخ تؤكد أن النظام الدولي، يتكالب على استغلال البشرية من دون رادع أخلاقي أو إنساني، وهو «شرٌّ أكيد، وشرُّ ما فيه أنه لا بُدَّ منه». وإذا كنا لن نستطيع تغييره، لكننا يمكن أن نخفف من شرِّه. فهل نسطيع ذلك؟

 

اختصاراً، كانت جمهورية إفلاطون فلتة نظرية في تاريخ الفكر البشري، وهي حلم إذا كان مستحيلاً، فمن الخطأ أن نقتله. ومن الخطأ أيضاً أن لا يكون عند البشرية بدائل أثبتت وقائع التاريخ أن البعض منها أقل سوءاً من البعض الآخر. ولكي نميِّز بين السيء والأسوأ، علينا أن نختار النظام الأقل سوءاً بعد المقارنة بين نظامين دوليين، أحدهما كان نظاماً تعددياً انقرض في بداية التسعينيات من القرن الماضي، والثاني نظام دولي يحكم العالم بقطبية أميركية واحدة ما يزال مستمراً حتى الآن. ولأننا قمنا بمقارنتهما بشكل سريع ومكثَّف في مقدمات التحليل، نرى أنه من الأجدى للعالم كله بشكل عام، ولوضعنا العربي بشكل خاص، أن نختار النظام الدولي المتعدد القطبيات.

 

ولأن الحياة لا تُؤخذ بالأماني، بل تُؤخذ الدنيا غلابا، نرى من العبث أن لا نساعد على استعادة نظام عالمي متعدد القطبيات، خاصة وأن هناك بداية جدية، وفرصة سانحة للقيام بذلك.

 

والفرصة السانحة الآن، التي انطلقت منذ العام 2011، ماثلة في حالة نهوض روسيا من كبوة غياب الاتحاد السوفياتي، وقد تأكَّدت باستعمال حق النقض في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يسمح بالتدخل العسكري الغربي في سورية. وتأكد لاحقاً أن ظاهرة النهوض الروسي لم تكن مؤقتة ولم تكن مرحلية بل أثبتت وقائع أكثر من أربع سنوات أهدافها الاستراتيجية، ولذلك فهي تتصاعد بشكل مستمر.

 

ولكل هذا، ولأنه لا نظاماً دولياً متعدد الأقطاب من دون وجود قوة دولية تقف في مواجهة أميركا، ولأن روسيا اليوم هي تلك القوة، نعتبر أن فشلها في تثبيت دورها في الوطن العربي فشل لقيام نظام متعدد القطبيات، وبالتالي استمرار للنظام الدولي الخاضع للمشيئة الأميركية الواحدة. وفي نجاحها فرصة تاريخية لولادة نظام دولي متعدد القطبيات. فأيهما نختار؟

 

وجواباً على ذلك، واستناداً إلى قوة الأمر الواقع، الذي يجعلنا ملزمين باختيار الأقل سوءاً، لا نجد خياراً أفضل من اعتبار روسيا ذلك الخصم الذي ليس من صداقته بُدُّ.

 

ولكن:

 

هل نعتبرها صديقاً من طرف واحد، ومن دون شروط؟

 

طبعاً، من غير المصلحة العربية أن يعتبر العرب صديقاً كل من لن يكون حريصاً على احترام الثوابت الإنسانية من جهة، واحترام الثوابت القومية العربية من جهة أخرى.

 

- أما عن الثوابت الإنسانية فعلى روسيا يقع واجب الوقوف إلى جانب الشعوب التي احتُلَّت أرضها، وانتهكت سيادتها، ويأتي في صدارتها القضية الفلسطينية والعراقية. القضيتان اللتان تعرضَّتا لاحتلال غاشم. إذ تعرَّضت الأرض الفلسطينية لاحتلال استيطاني من أجله تمَّ ترحيل الفلسطينيين إلى خارج أرضهم من أجل توطين اليهود الذين أتوا بهم من كل أصقاع الأرض. وأما العراق فقد تعرَّض لأبشع غزو في التاريخ قامت به الوللايات المتحدة الأميركية بهدف تحويله إلى محمية أميركية ووضعه تحت سلطة انتداب أميركي، ولما عجزت عن البقاء فيه بفعل ضربات المقاومة الوطنية العراقية، التفَّت على البقاء فيه بشكل غير مباشر عبر وسيلتين، وهما: تركيب عملية سياسية أثبتت هشاشتها، وتسليم العراق لإيران الذي حوَّلته إلى محمية إيرانية، أي إلى نوع من الاحتلال الاستيطاني عبر عمليات تهجير سكاني، شبيه بعمليات تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وهي تعمل الآن على توطين عشرات الألوف من الإيرانيين لتغيير هويته العربية.

 

- وأما عن الثوابت القومية فيأتي تحرير الأراضي العربية المحتلة في المقدمة منها، لأن العدوان والتدخل والنفوذ الأجنبي في شؤون أمتنا وأقطارها، مرفوض ويجب مقاومته مهما طال الزمن وغلت التضحيات، سواءا كان أمريكياً أو روسياً أو ما بينهما من تدخلات إقليمية إيرانية أو تركية أو صهيونية أو غيرها.

 

وقياساً على هاتين المسلَّمتين، أي الخطين الأحمرين، ولأن روسيا نسجت علاقات مع إسرائيل والنظام الإيراني، تقع علىها مسؤوليتين إنسانية وقومية معاً، وهما:

 

- الأولى: أن تلعب دوراً عبر المؤسسات الدولية من أجل تثبيت الحقوق الفلسطينية، والاستجابة إلى حق الفلسطينيين بتقرير المصير.

 

- الثانية: أن تدفع بالنظام الإيراني كي يترك العراق لأهله والاعتراف بحقه في تقرير مصيره. فالوجود الإيراني في العراق مكمِّل للاحتلال الأميركي. وطالما اعترفت إدارة أوباما بخطأ احتلال العراق. وطالما الاحتلال غير مشروع كما تنص القوانين الدولية على ذلك، يتوجب على روسيا أن تدفع بحليفها الإيراني وتدعوه للانسحاب من العراق.

 

ولكي تكون روسيا الصديق، بدلاً من الخصم، عليها أن تحرص على إظهار ما يلي:

 

- العمل على الإقلاع عن ممارسة السكوت عن مخالفة الدول الأخرى للقوانين الدولية، وخاصة حلفاءها. والحرص على أن لا تكون أقطار الوطن العربي مسرحاً للحروب بالوكالة، تدفع مجتمعاتها ثمناً غالياً من أجل مصالح الآخرين.

 

- العمل على استعادة التوازن في السياسة الدولية. إذ لا يمكننا أن نفهم النظام العالمي المتعدد الأقطاب إذا لم يُسقِط أو يردع أو يحد من تداعيات سياسة القطب الأميركي الواحد. ولذلك وإذا انحصر الدور الروسي في تفاهمات مع أميركا على توزيع الحصص في أرضنا وثرواتنا، دون القيام بالحد من أطماعها فهذا ما نعتبره نوعاً آخر من الاستعمار الذي يتبادل طرفاه، الروسي - الأميركي، وبالتالي الروسي – الإيراني المصالح على حساب الشعوب المغلوبة على أمرها. وإذا كانت هي هذه الاستراتيجية الروسية الآن، وبعد الآن، فلن يكون دورها بناء نظام متعدد القطبيات بل هي تبني نظاماً دولياً تتكامل فيه الأطماع بين الدول الكبرى ومن يؤازرها ويشاركها من دول الإقليم، وكل أهدافها هي توزيع الحصص فيما بينها.

 

- المتغير الثالث:

 

البدء بتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد،

 

أو تنفيذ مشروع (سايكس – بيكو الثانية):

 

أصبح من الثابت أن الولايات المتحدة الأميركية عندما اتخذت قرارها باحتلال العراق، فإنما استندت إلى مبدأ بناء (عصر أميركي جديد). وعندما أنجزت مرحلة الاحتلال العسكري اعتبرت أنها أسقطت الحجر الأول من أحجار الدومينو، وكان عليها أن تُسقط الأحجار الأخرى في أقطار عربية أخرى.ولأنها رسمت استراتيجيتها على أساس تقسيم العراق طائفياً وعرقياً، فلأنها ستعمل على تقسيم الأقطار العربية الأخرى على الأسس ذاتها. ولما أعاقت المقاومة العراقية المخطط الأميركي، انتظرت الإدارة الأميركية لتعالج وضعها في العراق حتى أواخر العام 2011. وهناك ما يلفت النظر أن الإدارة الأميركية بعد أن أعلنت اكتمال انسحابها من العراق في التاريخ المذكور، اندلعت نيران ما راحت تطلق عليه تسمية (الربيع العربي) على أساس تعميم الديموقراطية بإسقاط الأنظمة الديكاتورية، وهي الأسس ذاتها التي أعلنتها تلك الإدارة قبل احتلال العراق.

 

فهي فور انسحابها من العراق أحيت مشروعها بالتمدد بما تسميه (تصدير الديموقراطية) إلى أقطار الوطن العربي، بدأت فيه بتونس ومصر لمساعدة الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة فيهما، وهو ما كان قد بشِّر به أوباما في خطابه في العام 2010 في جامعة القاهرة حينما دعا إلى التعاون مع (الإسلام المعتدل). وكذلك العمل على إسقاط نظام القذافي في ليبيا، وتلاه سرقة نضالات الشعب السوري من أجل إسقاط نظام الأسد ليتيح الفرصة للإخوان المسلمين باستلام السلطة. وهل هناك ما لا يلفت النظر من تفجير أربع ساحات قطرية في فصل واحد؟

 

كل الدلائل تشير بعد مرور عدة سنوات على نقطة انطلاق ما أطلقت عليه وسائل الإعلام الغربية (الربيع العربي)، أنه كانت الصفارة الأولى للبدء بتفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد. ومن أجل التوضيح أكثر سننقل مضمون بعض الوثائق التي تؤكد البدء بتنفيذ المشروع قبل تقديم البرهان على أن (المتآمرين) قد ركبوا موجة الحراك الشعبي العربي، وهذا بعضها:

 

بعض الوثائق التي تؤكد اكتمال خطة المشروع:

 

- الوثيقة الأولى: قال كيسنجر: (إن ازمة الشرق الاوسط ولدت مع الله وتموت معه). ويعني ذلك أنه لا طير يطير بسماء الوطن العربي من دون أن يكون مرصوداً بالعين الأميركية. فكيف يكون الأمر لو ثار الشعب العربي كما حصل في أكثر من قطر عربي؟

 

- الوثيقة الثانية: تتفق الدراسات على أن المؤرخ والباحث الأميركي البريطاني برنارد لويس، الذي وصف بـ«مهندس سايكس بيكو 2»، يعدّ صاحب أول مخطط مكتوب ومدعم بالخرائط لتقسيم المنطقة. ووضع لويس هذه الخطّة سنة 1980 بتكليف من وزارة الدفاع الأميركية وزبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر.

 

بعض الوثائق التي تؤكد البدء بالتنفيذ:

 

- الوثيقة الثالثة: لا بد أن نتذكر ما قاله بوش الإبن من على ظهر حاملة الطائرات الأمريكية (أبراهام لينكولن) في الأول من أيار/مارس 2003: «لقد أمنا حماية أصدقائنا، ومن العراق سنعيد رسم خارطة المنطقة».

 

- الوثيقة الرابعة: أشارت التقارير الصحفية، بتاريخ 12/4/2003، إلى أن خبراء الاستراتيجيا الأميركيين يرون أن تغيير النظام في بغداد ينبغي أن يفسح لعملية «اعادة ترتيب» في هذه المنطقة، تمزج ما بين إحلال الديموقراطية والتحديث الاجتماعي واستئصال الارهاب ودعم المصالح الاميركية وضمان أمن (إسرائيل). وبحسب نظرية معروفة بنظرية «الدومينو الديموقراطي» أشار مساعد وزير الدفاع الأميركي بول ولفوويتز ومساعد وزير الخارجية جون بولتن، وهما من المنظرين لهذه العقيدة، بشكل واضح أخيراً إلى أن طموحات واشنطن لن تتوقف عند بغداد، وإن كان استخدام القوة المسلحة غير مطروح بالضرورة بالنسبة لدول أخرى.

 

- الوثيقة الخامسة: في سبتمبر (أيلول) سنة 2005، كتب ريتشارد هيس، مدير التخطيط السابق في وزارة الخارجية الأميركية، ويترأس اليوم إحدى اكبر مؤسسات الفكر الاستراتيجي، وهي العلاقات الخارجية، الذي يصدر إحدى أهم المطبوعات تأثيرا في الشؤون الدولية، التي تصنع فلسفة الأفكار الأولى للسياسات الأمريكية المركزية اللاحقة، مقالا مطولا تحت عنوان (تغيير الأنظمة)، ويقترح طريقتين مجربتين وناجحتين لمجابهة التهديد ضد المصالح الأمريكية، الأولى هي تغيير الأنظمة من الخارج، وبالقوة. والثانية هي الاحتواء أو التغيير المتدرج، من الداخل، ولا ثالثة لهاتين الطريقتين تصلح للتخلص من أنظمة كهذه تقف موقف الممانعة من مصالح الولايات المتحدة الكثيرة والمتشعبة أو تهددها باحتضان أو تهيئة البيئة الصالحة لنشوء الإرهاب، وتداعياته).

 

- الوثيقة السادسة: أثناء زيارة كونداليزا رايس إلى بيروت في تموز من العام 2006، أي أثناء العدوان الصهيوني على لبنان، أعلنت قائلة: (هذا الشرق الأوسط الجديد يولد من جديد).

 

- الوثيقة السابعة: في العام 2007، نشرت مجلة القوات المسلحة الأميركية نصاً تحت عنوان (الشرق الأوسط الجديد، أو حدود الدم). وأرفقت به خرائط تفصيلية عن تقسيم الأقطار العربية. وأذكر أن نشرة طليعة لبنان الواحد قامت بنشر النص كاملاً.

 

- الوثيقة الثامنة: بعد انطلاق أول حراك شعبي عربي في تونس، نقلت التقارير المدعمة بالصور ظهور هنري برنارد ليفي، المفكر الصهيوني، في كل ساحات الحراك، بدءاً من الحراك المصري وصولاً للحراك السوري. وقد أطلق عليه حينذاك لقب (مهندس الربيع العربي).

 

إن مضمون مشروع الشرق الأوسط الجديد ينص على تقسيم الوطن العربي على أسس دويلات طائفية آخذة بعين الاعتبار إحداث تقسيم حسب الحدود الجغرافية لانتشار الطوائف. ومن أهم معالمه تصعيد حركة التيارات الدينية السياسية وتأثيرها في الحراك الشعبي العربي. ولذلك نفسر التوافق الأميركي والغربي من جهة ورائدي المشروع الإسلامي الأممي الذي تسهم في تنفيذه كل من إيران وتركيا من جهة أخرى.

 

في الحلقة الثانية: المتغيرات على الصعيد الإقليمي:

أضافة تعليق
آخر مقالات