مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2016/03/22 04:18
خمس و خمس في التخلف و النهضة
عماد الدين عشماوي
جمادى الأولى 1437 الموافق  مارس 2016  

يحمل الإسلام منهاج الحياة الطيبة المستقيمة, ويضمن للفرد والمجتمع أن يعيش في أفضل أوضاع تبعده عن قاع التخلف ومشكلاته, شرط أن نتمثل آدابه ونتبع هداه.فالإيمان الحقيقي بالإسلام يعنى ولادة جديدة للإنسان والأمة على حد سواء على المستويين الروحي والمادي.فالإسلام يعيد بعث الإنسان من جديد, قيمه واتجاهاته, مفاهيمه وأساليبه, وأعماله وأفكاره, وبالجملة كل تفاصيل حياته لينشئه خلقاً آخر.هكذا كان في زمن الرسالة الأول, ومازال قادراً في زمان الناس هذا,و حتى يرث الله الأرض ومن عليها.  

وما تمر به الأمة الآن من تراجع حضاري وتخلف شامل يلف كل أركان حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والعسكرية, هو نتاج تفريطنا في جوهر معتقدنا الإسلامي, وتراخينا في أداء دورنا الحضاري كما علمنا الإسلام. فالتخلف الذي يعانى منه عالمنا الإسلامي نتاج أفكار خاطئة, فالهيكل الأساسي لأفكارنا ليس مستمدا من داخل القرآن نفسه, وإنما من مصادر مشوشة لم تحسن التعامل مع ديننا : قرآننا ورسولنا .

و في هذه المقالة نلقي الضوء على خمس عقبات و خمس منطلقات حول التخلف و النهضة من منظور إسلامي.

أمارات التخلف في منظور الإسلام

 

  للتخلف أمارات و علامات تشير إلي حلول ليله و إقبال ظلامه علي أي أمة تتنكب  طريق الحق, و تسير في سبيل المجرمين-وان بلغت أقصى حالات التقدم المادي-.فالتخلف في منظور الإسلام يشمل الجانبين المادي و المعنوي معاً, وليس مجرد التخلف المادي البغيض فقط.والتخلف في منظور الإسلام أساسه تضييع المبدأ القرآني و الانصراف عن هديه و هجر العمل به و اتخاذه نبراساً هادياً للفرد و الجماعة.

ويبدأ التخلف في منظور الإسلام عندما يتراجع التوحيد لصالح الشرك أو النفاق, أو عندما تتراجع الفكرة ليبزغ الصنم بتعبير مالك بن نبي-رحمه الله-, وتفقد أصول الأمة مكانتها لدي أبنائها بسبب التكالب علي الدنيا, و نسيان الآخرة, و غياب أو تغييب المثل الأعلى, بسبب الهزيمة النفسية و الإخلاد إلى الأرض, و فقدان الإنسان المستخلف, والمؤسسات الحاضنة له لدورها, فتخرج أجيال ضائعة مائعة مضيعة تفرط في الأصول و الثوابت التي قامت عليها الأمة من جهاد و اجتهاد و إيمان و عمل و أداء واجبات, فتسقط قيم الأمة الأصلية لصالح قيم دخيلة, أو ترتد  الأمة إلى العصبية الحمقاء, فتنحل عري الأمة واحدة تلو الأخرى و تذهب حمية الإسلام لتأتي حمية الجاهلية .

و تنفض الأمة يدها من مشروعها الحضاري فتصاب بالترهل و الجمود و القعود و الانكفاء الحضاري بكافة مظاهره, و تفقد أي قدرة علي الفعل الحضاري مهما قل شأنه. فتقع الهزيمة النفسية الشاملة, ويصيب التخلف كافة مفاصل الأمة السياسية و الدينية و والاجتماعية والثقافية و العلمية و التعليمية و الأمنية, فيحل عليها ليل السقوط البهيم, و يصير شعارها ليس في الإمكان أبدع مما كان, و أن ما يحدث لها قدر لا فكاك منه.

              فالتخلف في المنظور الإسلامي عناوينه خمس أمور أساسية تتمثل في:

  1. عقيدة خاطئة عن الكون و المكون : بسبب البعد عن المصدر الرباني للعقيدة, تؤدي إلى غيوم الرؤية لدي أبناء الأمة فيفقدوا وجهتهم الأساسية, و تغيب رؤيتهم الكونية الصحيحة.
  2. إنسان لاه: فاقد لهويته الدينية, غير واع لمسئوليته الاستخلافية علي هذه الأرض, يضيع الثوابت و الأصول, ويتبع الشهوات و الضلالات, فلا حصانة عقيدية عنده, و لا أفكار أصيلة لديه, و لا عمل هادف يتقنه.
  3. مؤسسات ضد الأمة : علماء سوء, و أغنياء بخلاء, و حكام ظلمة, ومدارس بلا تعليم, و جامعات بلا بحث علمي.فالسمة البارزة للمجتمع المتخلف في أقصى حالات سقوطه هي: إفراغ مؤسساته من أهدافها و أدوارها و فاعليتها لأن القائمين عليها ليسوا أهلاً للقيام بمهام الاستخلاف الحضاري.
  4. سيادة الجمود و غلبة التقليد واتباع العادات الجاهلية: فهكذا أمة تقف حياتها, و تتدهور أحوالها, فلا جديد نافع مقبول لديها,و لا ارتياد لآفاق النص, أو الكون طلبا للتجدد, فالمجتمع فقد بوصلته, و رضي بقسمته من التخلف, و انغلق علي نفسه فأوشك علي الانهيار.
  5. مجتمع الفرح اللاهي والإخلاد إلى الأرض: إنه مجتمع الهزيمة النفسية الشاملة المغلفة بأماني الحمقى, و أحلام الكسالى المدعين, الذين يلبسون لبوس الإيمان مقلوبة, و يعبدون الله علي حرف و يظنون أنهم علي شيء:مجتمع الكذبة الذين يدعون إيماناً بلا عمل, و ينتظرون سمناً و عسلاً علي الأرض و في السماء, مقابل سباتهم الحضاري و إخلادهم إلى الأرض بخلاً بالأنفس و حرصاً علي الأموال و الأولاد. إنه مجتمع فقد كل شروط الاستخلاف فتودع منه دينياً و حضارياً.

فعندما يفقد المسلم وعيه القرآني, يجهل أو يتجاهل رسالته الحضارية, و يصبح كلاً علي مجتمعه و علي الناس جميعاً.فعندما يغيب التوحيد الخالص, تبزغ الأهواء و المصالح, و إنسان الحقوق, و يختفي إنسان الواجب و النهضة,و تبدأ مؤسسات الأمة في التراجع و التدهور حتى لا يتبقى منها إلا أطلالها و تغيب جواهرها و أدوارها, و تدخل الأمة في طور الجمود و التخلف, و تبدأ سفينتها في الغرق, و تصبح الأمة قصعة شهية في انتظار أعداءها لالتهامها.

معالم المجتمع الناهض فى الإسلام

      النهضة في منظور الإسلام تبدأ بتغيير النفس و تأهيلها لحمل أمانة الكون بإيمان صادق و عمل رسالي يحقق الاعمار الصحيح للحياة و الحياة الطيبة للإنسان.و الدين وحده هو الذي يضمن لنا استمرار النهضة المؤدية إلي هذه الحياة الطيبة إذا التزمنا بهديه و حافظنا علي عهد  الله معنا.

ويرتبط مفهوم النهضة في الإسلام بتحقيق شروط المنهج الرباني في: العقيدة والعمل وتحقيق معالمه الأساسية في نفسية الفرد المسلم والجماعة المسلمة لتحصيل التأهل الحضاري, والقابلية للاستخلاف وعمارة الأرض.فالنهضة في الإسلام عقيدة راسخة, وإنسان مستخلف, ومؤسسات حاضنة, وإبداع متميز, وتوبة دائمة. هذه هي العناصر الخمس الرئيسية التي تحدد معالم المجتمع الناهض والأمة الشاهدة القائدة في الإسلام , والمجتمع الرباني الذي وعده الله بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.

و هنا نظرة سريعة علي كل عنصر من هذه العناصر الخمس:

  1. عقيدة راسخة: وهى في منطق الإسلام عقيدة التوحيد المستمدة من القرآن والرسول التي تؤهل الفرد والمجتمع للتفاعل مع الكون ومكونه, وتلبى أشواقه الروحية وتطلعاته الماورائية تنتج عنها ثقافة واحدة موحدة تجمع أبناء الأمة وتوجههم الوجهة الصحيحة تجاه غاياتهم النهائية الربانية المتمثلة في الخلافة الراشدة المحققة للعدل والحرية.
  2. الإنسان المستخلف: وهو في منطق الإسلام الإنسان الخليفة المؤمن المجاهد في سبيل الله . فالحياة في الإسلام عقيدة وجهاد بالنفس والمال.إنه إنسان النهضة الحامل لهذه العقيدة صاحب الإرادة الصادقة والعزيمة القادرة على العمل من أجل حمل لواء هذه الدعوة والإيمان بها وتبليغها وتحقيقها واقعاً في حياته الخاصة والعامة ونشرها بين بنى الإنسان قاطبة.

 

  1. المؤسسات الحاضنة: إنها مؤسسات التعليم والعمران والتزكية والحكمة والصناعة التي تعد كل أنواع القوة البشرية والمادية والمعنوية.وهي مؤسسات النهضة التي تمثل الحاضنات لأفكار وعقائد وقيم الأمة المجسدة لها واقعاً وعملًا, والتي تخرج إنسان النهضة الصالح المصلح, وتنشئ مجتمع التراحم الإيماني, مجتمع العزة والكرامة الإنسانية والشهود الحضاري, والتي تعمل على إبداع والتقاط كل جديد يخدم غايات الأمة والغرض من إخراجها للناس.
  1. التجدد الديني والاجتهاد: فالأمة الناهضة دوما متجددة في دينها وأمور دنياها. والاجتهاد في المنظومة الإسلامية مستمر ولا حدود له ضمن أصول الفقه وحدود القطعيات الشرعية لتجديد الدين والدنيا ومواكبة العصر والانفتاح على قضايا الإنسان في كل زمان ومكان, وفى جميع أحوال الرخاء والشدة, ملبيا أشواق المجتمع الروحية مسانداً حاجاته المادية.فالتجدد الديني والاجتهاد الشرعي لا يعرف الجمود ولا الإعنات, وهو كذلك لا يعرف الانفلات .

 

  1. مجتمع أواب مجاهد: فالتوبة الدائمة شعار المجتمع المسلم, فهو في مراجعة مستمرة لأعماله وأقواله تجديداً لإيمانه وصولًا إلى أقصى حالات الرضا الإلهي ليحافظ على ربانية توجهه, وحريصاً على تصويب الخطأ وتدارك النواقص, للصعود إلي أعلي مراقي الإيمان وتحقيق أفضل شروط الاستخلاف, فهو في جهاد دائم وتوبة مستمرة .  

هذه الشروط الخمس هي ما نظنه معالم الطريق للنهضة الحقيقية, و التي علي أساسها قامت حضارة الإسلام و بدأت دولة الإيمان في تاريخنا الإسلامي و تاريخ العالم.فالفكرة الصحيحة المرتبطة بالمثل الأعلى الصادق, و النفر المجاهد و المؤسسات الحاضنة, و الجهاد بالنفس و المال, و المجتمع الأواب, هي عناصر الأمة الناهضة روحياً و مادياً في منظور الإسلام.

فأمتنا التي أخرجها الله لتكون شاهدة علي العالمين هي نتاج كتاب إلهي صادق, يمثل الفكرة الصحيحة عن الكون- ناسه وأشيائه— و مثل أعلي صادق مثله النبي –صلي الله عليه و سلم- و الطليعة المؤمنة معه من الرجال و النساء الذين آمنوا به و صدقوه ونصروه بأنفسهم و أموالهم.و المؤسسات الحاضنة التي حفظت الأمة و تولت إعداد أجيالها الجديدة من منزل خديجة إلي بيت الأرقم  وثروة الصديق و عثمان و عبد الرحمن إلي قوة عمر و حمزة و شجاعة ابن مسعود و خباب و فدائية مصعب و حنكته و سخاء الأنصار ووفائهم. وأمة تستغفر ربها في اليوم و الليلة مئات المرات بالمنظور الحضاري و تجدد إيمانها هي أمة في تقدم مستمر أبداً.

كل هؤلاء جميعاً في محيط التوبة الدائمة التي عاشوا بها كانوا إيذانا ببدء فجر جديد للنهضة المؤمنة.

 

و نهضتنا القادمة-بإذن الله-لا تحتاج إلى معجزات ولا أعمار تعد بالمئات من السنين, بقدر ما هي بحاجة إلى عودة صادقة للإسلام في منبعيه الصافيين : القرآن والرسول,نعيد الاستماع لهما والتعمق في مجمل ما جاء فيهما من عقائد وقيم وسلوكيات, فنعمد إليهما و إلى كون الكون الله المفتوح علماً وفهماً وإيماناً وتطبيقاً, فنعود إلى سيرتنا الأولى, ونخرج من حالة التيه الحضاري والتخلف الشامل التي طالت علينا.

نهضتنا المنشودة تبدأ بالعودة إلى القرآن والرسول, ثم تأتى بعد ذلك شروط النهضة التي تحمل هذه  العقيدة بأفكارها الربانية وتوجيهاتها الإلهية وتحولها إلى مؤسسات وأعمال تحقق نهضتنا .

خاتمة

   المجتمع المسلم مجتمع مؤمن بربه, متبع لهديه, محافظ على قيمه, متوافق مع عصره, صاعد دوما إلى أعلى مراتب الإنسانية المشبعة بالإيمان بالله الواحد, لكن هذا المجتمع يعتريه ما يعتري المجتمعات البشرية من ضعف وخمول واستكانة للدنيا وإخلاد للأرض, عندما يفقد دفقته الإيمانية ويحول نظره عن عقيدته النقية. فعندما تحقق المسلمون بإسلامهم حققوا نهضة, وشادوا تاريخا مازال ملأ الأسماع والأبصار. وعندما حادوا عن منهج الحق وتنكبوا الصراط المستقيم, حقت عليهم سنة الله في الخلق, فارتدوا على أدبارهم خائبين.

   وإذا كان من فكرة جديرة بالبحث و السعي لإعمالها و تنفيذها لبدء نهضة جديدة مستمرة لا يعيقها ما أعاق نهضاتنا  السابقة في هذه اللحظة من تاريخنا, فهي ضرورة التقريب بين الحكام و المحكومين, والتوافق فيما بينهم علي أسس للتعامل السوي من المنظور الإسلامي القادر علي إطلاق قوي الأمة في العمل النهضوي دون خوف الفتنة و الاحتكاك بالسلطان, و جو الريبة و الشك المحيط بالإنسان في عالمنا الإسلامي من جراء فتنة السلطان.

فهذه الأمة لن تبني مؤسساتها القرآنية و لا حاضناتها العلمية و لا أبنائها المبدعين في أجواء انعدام الثقة بين الأمة والدولة .لذا فالمهمة الواجب علي كل المؤسسات الإسلامية و العلماء المخلصين و الساسة الواعين لخطورة تخلفنا انجازها هي:

 الاجتماع معا في كل قطر إسلامي, و التباحث في نقاط الخلاف بين الأمة و الدولة, و الاتفاق علي ميثاق عمل يمهد لحياة طيبة جديدة تحياها الأمة بعيدا عن جو الشقاق السائد الآن, ليتسنى للعلماء في كافة المجالات –و علي رأسهم علماء الدين المصلحين- التلاحم مع الأمة في كل حي و قرية في جميع أقطار الإسلام لبث الوعي القرآني الصحيح, و تعليم مبادئ التحضر, و تحضير الإنسان المسلم و إعداده للنهوض من جديد ليؤدي دوره و رسالته في تقدم أمته و تحرير الناس من الطاغوت.

    وما نطرحه باختصار هو تكوين هيئة علمية معتبرة من علماء و حكماء كل قطر إسلامي و الجلوس إلى حكام كل قطر و معارضيهم, و الاتفاق علي ميثاق عمل يؤدي لإطلاق حريات الأمة في العمل التنموي الهادف في كل المجالات مع تحديد سقف زمني لإصلاحات مطلوبة في كل نظام, يتم الاتفاق علي جدولة تحقيقها و التأكد من تنفيذها كل فترة زمنية معينة, مع جعل حصانة مقدسة للعمل العام النافع للأمة بعيدا عن التدخل  الأمني, و تقلبات السياسة..فتزول الشكوك بين الحكام و المحكومين.... و نبدأ في التمهيد لنهضة جديدة علي أسس سليمة داخل كل قطر مسلم وصولا إلي نهضة تشمل الأمة كلها و تجمع كلمتها موحدة إيذانا ببدء الدور الحقيقي للأمة شاهدة علي العالمين . و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل.

من اعمال الباحث
أضافة تعليق