مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2016/02/26 10:21
مدخل إلي حوار الديانات
قدمت هذه الورقة المتواضعة في المجلس الإسلامي الأعلي بالجزائر في أكتوبر 2007 و حصل سفير أمريكي علي نسخة منها إلكترونيا و هذا بعد ما مثلت الجزائر في حوار الديانات ل 20 يوما بين نوفمبر و ديسمبر 2006 بالولايات المتحدة الأمريكية في خمسة ولايات أمريكية و بعد ما حصلت علي ترشيح وزارة الخارجية الأمريكية للمشاركة لي في برنامج حوار الديانات.

في العقود الأخيرة برز مفهوم حوار الديانات، و قد إحتفى به الكثيرون من أهل الفكر و العلم فى عالمنا الإسلامي لكن فى عصر تميز بتعالى الحضارة الغربية، من حقنا أن نطرح بعض الأسئلة الهامة. كيف يتأتى لنا محاورة أصحاب حضارة صرنا تابعين لها في العصر الحالي؟؟ و بغية ماذا نريد إقامة مثل هذا الحوار؟ هل لكي نقدم المزيد من التنازلات و لنظهر المزيد من الإستسلام لمنطق أن ما لله لله و ما لقيصر لقيصر؟

عندما سنقدم على فعل الحوار، سيسارع محاورونا فى تذكيرنا بأنه يتوجب علينا التشبث ببعض المبادىء المشتركة منها إحترام حقوق الإنسان و حق الشعوب فى الإحتكام الى النظام الديمقراطي الذى يكفل لها إدارة شؤنهم بالعدل. ماذا سنقول لهم عندئذ؟ أننا كنخب مفكرة لا نقوى الإلتزام بهذه المبادىء، لأننا نخاف على حياتنا؟

فمحاورة الآخر المتحضر صاحب القوة المتغطرسة، يتطلب حد أدنى من توفرنا على مقومات سيادة المصير. أضف الى ذلك أن الغرب المؤسساتى و النخبوي يشترط في إقامة الحوار معه على أن نعامله كشريك كامل الحقوق و أن لا نخاطبه بلغة العدو بل بلغة الشريك الحضاري المتفوق علينا. عندئذ السؤال الذى سيطرح نفسه علينا هو كالتالي: 
كيف سيتأتى لنا إعتبار المؤسسة السياسية الأمريكية طرف صديق لنا كامل الحقوق و هي الراعية لحوار الديانات أو الحضارات، و سجلها مظلم مع العالم الإسلامي؟

كمسلمين لسنا في حاجة الى محاورة رجال دين يهود أو ممثلي الكنائس المسيحية بقدر ما نحن فى حاجة الى إفهام الغرب المؤسساتي العلماني  بأن الإسلام كدين هو نظام حياة لا يفصل بين العام و الخاص، بين الدين و الدولة، بين الدنيا و الآخرة، بين الباطن و الظاهر. و المشكلة الحقيقية التى نحن بصددها هى في كيفية إقناع هذا الغرب المؤسساتي الذى رفض التسليم بما أقره إيمانويل كانط من قرنين و عامين عندما أكد أن مبادىء الخير و الشر هى واحدة لكل البشر!

فهذا الإقرار وحده سيسمح لنا بالتحاور من زاوية مختلفة و هي الإنسانية كقاسم مشترك بيننا جميعا كنا، مسلمين، أو مسيحيين أو يهود. لهذا يبدو لي من السابق لآوانه أن نهرع الى حوار ديانات أو حضارات. و إن كان لا بد لنا من المشاركة فى مثل هذه الحوارات، علينا أن نلزم خطة عمل تقضي بأن نوصل رسالتنا إلى المعنيين و الإصرار على حقنا فى تمسكنا بهذا السقف فى أى محاولة حوار.

فما يجب أن نعيه، بأن جيلا من الغربيين هو قيد التكوين من أقاصى الأرض الى أقاصيها مختلف تماما عن الرجال الذين يشرعون فى مبنى الكابيتول فى واشنطن. ممن بدأوا يفهموا بأن لا خيار لحضارة الغرب فى القبول بالمبدأ السالف الذكر و شخصيا فأنا أراهن على هذا الجيل الجديد الذى هو فى طور التكوين و الولادة. و الذى ينطبق عليه موقف الرئيس جون فيتزجيرالد كنيدى : "يجب على الرجل أن يفعل ما عليه بالرغم  من النتائج الشخصية و بالرغم العوائق و الأخطار و الضغوطات، فما يفعله هو أساس الأخلاق الإنسانية."

بناء على هذه الرؤية، لنا أن ننتبه إلى معطى خطير جدا و هو في الحقيقة مفتاح الحوار بين الإسلام و بقية الديانات:  يصعب علينا الحديث عن حوار، إذا ما إفتقد هذا الحوار الأرضية الأخلاقية التى وفقها نستطيع أن نتقابل، نتحاور، نتناقش، نختلف و نثري بعضنا البعض. و الحوار ركيزته هو مبدأ التعايش بين الشعوب و الديانات و الحضارات. فأى حوار نريد اليوم كنا مسيحيين أو مسلمين؟ هل هو الحوار الذى نخرج منه بقناعة أنه محكوم علينا التعايش مع بعضنا البعض بشرط أن نحتكم الى معادلة الخير هو الخير لكل الناس و الشر هو الشر لكل الناس؟ أم أنه حوار هدفه إجلاس أطراف بعضها متنافر و الآخر متفاهم و لب الخلاف بين هؤلاء و هؤلاء قائم على فهم مغلوط للقانون الأخلاقي؟ و ماذا نجني من الصنف الثانى من الحوار؟

إن أي حوار كان على مستوى الديانات أو الحضارات سيفضى شئنا أم أبينا الى مقاربة الهم السياسى الذى يعصف بكوكبنا. فلنأخذ أي موضوع حوار: التنمية، حرية الأقليات، الحريات العامة،  أو حقوق الإنسان. كل هذه تخضع إلي سياسة معينة للدولة. فكيف حينئذ نذهب إلى الشأن السياسى إنطلاقا من رؤية دينية أو حضارية و حال السياسة كعلم فى عصرنا الحالى يرتكز أساسا على مبدأ فصل الدين عن الدولة ؟ ألا ندخل بذلك متاهة التضاد و التناقض و التصادم أم أن للعلمانية قيم مشابهة لقيم الدين؟

و حتى وإن وجد هذا التشابه فهل نتمكن من النظر و الحديث و المناقشة و التوصل إلى رؤية مشتركة و نحن محافظين على برودة أعصابنا فى موضوع مثل حق الشعوب فى تقرير مصيرها من فلسطين الى الشيشان؟ 
أم أن النخب الدينية و الفكرية مطالبة فقط بإنتاج مادة فكرية قابلة للتمطط و التأقلم مع كل الأوضاع الشرعية منها و الغير الشرعية؟ و الأهم من كل ذلك  لماذا نتحاور و ما هي أهداف هذا الحوار و عن ماذا نتحاور؟

1) لماذا و كيف نحاور؟ 
محكوم علينا بالتعايش شئنا ذلك أم أبينا و يفترض التعايش الإحتكام الي الحوار و تبادل الآراء و التوافق في مسائل مصيرية أو الضرورات الخمسة و هي حفظ النفس و النسل و العقل و المال و الدين. عندما نقرر الإلتقاء و نتفق على برنامج حوار و عمل مشترك، أهم ما سنذهب إليه هو كيف نقارب بين الهموم و نتجاوز الخلافات و نعمل علي رأب الصدع بخلق أجواء ثقة و صبر.

فأي عمل يتطلب طول نفس و أي حوار يتطلب مرونة و لا أقول تنازلات. قبول الآخر بعلاته و حسناته مهم و جدولة الأولويات في الحوار مفيد جدا. يستحيل علينا أن نذهب الى حوار ديانات أو حوار حضارات و كل واحد منا يحمل عن الآخر كم هائل من الأحكام المسبقة السلبية فى معظمها. أو أن يتحول الحوار إلى عملية مفاوضات، نطالب فيها مثلا بمبادلة قيمنا بقيم يراد لها أن تكون عالمية فهذا فخ لا يجب أن نقع فيه. فقيمنا عالمية و تخاطب البشرية قاطبة و لسنا فى حاجة الى إستبدالها بمبدأ الحرب الوقائية مثلا التى سنها العقل العسكرى الأمريكى لحل مشاكل قابلة للحل بالتى هى أحسن!!

ثم إن إختيار مواضيع الحوار لا تأتي عبر إملاءات كما يفعل مثلا المجلس العالمي للكنائس أو ما ذهبت إليه الكنيسة الكاثولوكية مؤخرا في مطالبتنا بترك عقيدة من عقائدنا و تتعلق بالمصدر الإلهي للقرآن الكريم، فلا يجب أن يفهم الحوار ما بين الديانات إلى أنه توحيد ديانات أو إلغاء لعقائد و تثبيت لأخرى. في فرض أجندة حوار من طرف علي طرف آخر عدم إحترام، إهانة و إستخفاف بالمحاور. للتعايش السلمي آداب، القفز عليها لا يخدم أي طرف ثم ليكن الحوار إختيار إرادي و ليس أمرا مفروضا. فالحوار بديل عن القطيعة و إنسداد الأفق. يستوجب الإستعداد للحوار بعض الشروط كقابلية التسامح و الإصغاء و التركيز علي جوهر القضايا لنتفرع إلي التفاصيل فيما بعد. فلنتفاهم على ما هو قاسم مشترك بين بني البشر، كمطلب السلام و إحترام خصوصية كل ديانة و ثقافة علي حدة.  في نفس الإطار يحمل الدين لأصحابه الخصوصية الثقافية ذات الطابع المتفرد التى تجعل من أتباع دين معين يختلفون و يتميزون عن الآخرين ليس ذلك التميز العنصرى الممقوت بل التميز الذى يجعل كل فريق و شعب و أمة جزءا من فسيفساء إنسانية جميلة تتكامل و لا تتصادم، تختلف و لا تتنافر.

لهذا يبدو لنا مهما جدا أن نحدد المفاهيم و الأبعاد التى نريد إضفاءها على فعل الحوار، فلا نغيب عامل الخصوصية الذى يضمن لكل أحد وجوده الذاتى و الموضوعى فى آن. و هذا هو كنه الدين، أن يمنح أتباعه البصمة التى تسمح له بأن يكون متميزا عن كل الآخرين و مشابها لهم جميعا فى إنسانيتهم! فالمبادىء التى نلتقي عليها تمكننا من التفاهم و التوافق على ثبات الخير و الشر لكل الناس إذا ما نتذكر ما قاله آنفا إيمانويل كانط، و اعتبار مبادىء التعايش والتسامح و الصبر على بعضنا البعض علامة فارقة فى بناء مجتمع عالمى تسوده قيم دينية بشر بها كل الأنبياء عليهم الصلاة و السلام تثمينا لقيمة الإنسان فى الكون.

فلنذهب الى حوار الديانات بتصور "فلنحاور الآخر و لا نتناسى أنه إنسان مثلنا له ما لنا و عليه ما علينا". إذا ما إنطلقنا من هذا التصور سنستطيع أن نحاور الآخر و ديانته بثقة متعاظمة. فالحوار يسمح لنا بالتذكير بأهمية ترك للدين كامل الحرية فى مخاطبة عقول و أفئدة الناس دون واسطة. فالإنسانية فى حاجة إلى هاد و إلى مرشد يسمو على كل شىء و ليس هناك إلا الدين لكي يلعب مثل هذا الدور. و إذا ما نأخذ بفكرة المستشرقة كارين آمرسترونغ فى مقالها المعنون بما يلى "هل الخلود مهم؟ يسكن الدين هنا و الآن."  فهي تحدثت فى مقالها القيم عن ضرورة أن ننظر للدين كفلسفة حياة تصلح للدنيا أكثر من أي بعد آخر. و هي تقول "كنت أعتقد أحيانا بأن المسحيين بدخولهم الجنة فى السماء، سيشعرون بالغضب إذا ما حرموا من رؤية بنوع من الأسى و الفرحة المغضوبين عليهم يكتوون بنار جهنم!!" هكذا جاء تصور مسيحية كاثولوكية سابقة للشعور الطبيعي الذى يتولد عن طاعة أتباع لتعاليم دينهم و كيف يتصورون جزاء الآخرة و كيف يتخيلون مصير المرضيين و المسخوطين!

فهذا التصور نتقاسمه جميعا كأبناء ديانات سماوية بشرت بالجنة للمتقين و سقر للفجرة. إذا ما نشترك فى مثل هذه الرؤية، فكيف لا نشترك فى تصورنا لدور المخلوق فى الدنيا. و قد لخصه خير تلخيص الرئيس جون فيتزجيرالد كنيدى فى خطابه الذى ألقاه أمام مجلس شيوخ لولاية ماساشوستس و هو يستعد لتسلم مهام رئيس الولايات المتحدة الأمريكية قائلا: "كإبن ماساشوستس و بكل تواضع وبخشوع أطلب من الرب أن يساعدني في مهمتي هذه و هذا عن وعي مني من أن فى هذه الأرض إرادته العليا ينفذها رجال..."  فإن إتفقنا فى حوار الديانات أن الإنسان ما هو إلا خليفة الله على الأرض، نكون قد خطونا خطوات كبيرة نحو الحوار المثمر الذي يتجاوز العموميات و الخصوصيات ليذهب إلى اللب. ألا و هو كيف يجب أن يكون دور الإنسان فى ظل الدين، و كيف نجعل من الدين المحرك لحياتنا و المعيار الذى نحكم وفقه على صلاح مسعانا من بطلانه. فالوصية الخامسة لدى المسيحيين و اليهود هى ما يلى "لا تقتل" و الوصية الخامسة فى الإسلام المذكورة فى أواخر الآيات من سورة الأنعام هى الآية التالية: (و لا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق)  صدق الله العظيم، فنلاحظ أن القتل محرم فى الديانات السماوية الثلاث و رغم ذلك تطالعنا شاشات العالم يوميا بمناظر قتل فردية و جماعية. فالناس يقتلون و يقتلون كما لو أنهم خلقوا للقتل!!

كيف نذكر الناس بأن ما يجمعهم أكبر مما الذى يفرقهم و الحوار إن أردنا أن نرسخه كسبيل حضارى لمخاطبة بعضنا البعض، لنا أن ننطلق فيه من معايير محددة تقول للأبيض أبيض و الأسود أسود. فلنا أن نحتكم جميعا إلى منطق يؤمن أشد الإيمان بأن الظلم و الظالم كان يهوديا مسيحيا أو مسلما، فلنا أن نعامله كذلك دون أدنى مواربة. بذلك فقط نؤسس لمصداقية الحوار، و أى تساهل مع هذا المعيار أو تهرب منه لن يفضى الحوار إلا إلى مزيد من التباعد و الخلاف و التصادم. و قد يصدق ما أسمته كارين أمرسترونغ بوجود ديانات حسنة و أخرى سيئة، فالدين مطالب أكثر فأكثر فى زمننا المعاصر بتلبية حاجة الإنسان فى الإيمان بيقين أعلى من كل محسوس و غير محسوس. فالمؤمنون أينما وجدوا فى هذا الكوكب يريدون ليقينهم أن ينتصر فى أفعالهم، و حوار الديانات مدعو بدوره أن يحل ألغاز عجز على فكها فلاسفة و سياسيين وحكماء وأبطال. لهذا لا نستطيع أن نستسيغ إجتماع لأهل الإختصاص فى الديانات ليبحثوا مواضيع لا تتصل بهذه الألغاز المحيرة. كيف نجيب على هذا الأسئلة: كيف نتمكن من إحترام بعضنا البعض لنكف من التقاتل البغيض؟ كيف نبنى معالم حضارة إنسانية لا تحتكر شيئا لنخبة من الأثرياء المتعالين؟ كيف نذكر كل أحد بنعمة الحياة و حتمية الموت و البعث و الحساب؟ كيف نتجاوز الأحقاد و آلاف السنين من الضغائن و الفهم السىء لدور الدين فى حياتنا ؟ كيف نجعل من الدين حلقة تواصل تؤاخي بين بنى البشر؟ و كيف نستطيع  العيش وفق تعاليم ديننا دون أن نصطدم بالمنطق الوضعي الذي يرفض أن يقنن الدين لحياة البشر أفرادا و جماعات؟ لازالت الألغاز كثيرة و لكنني أظننى أوجزت أهمها.

 

كيف نتمكن من إحترام بعضنا البعض لنكف من التقاتل البغيض؟ كيف نبنى معالم حضارة إنسانية لا تحتكر شيئا لنخبة من الأثرياء المتعالين؟ كيف نذكر كل أحد بنعمة الحياة وحتمية الموت والبعث والحساب؟ كيف نتجاوز الأحقاد وآلاف السنين من الضغائن والفهم السىء لدور الدين فى حياتنا؟ كيف نجعل من الدين حلقة تواصل تؤاخي بين بنى البشر؟ 

وكيف نستطيع  العيش وفق تعاليم ديننا دون أن نصطدم بالمنطق الوضعي الذي يرفض أن يقنن الدين لحياة البشر أفرادا وجماعات؟ لازالت الألغاز كثيرة ولكنني أظنني أوجزت أهمها.

2) ماذا بعد الحوار؟ 
ماذا بعد الحوار ما بين الديانات؟ بالإجابة على الأسئلة السابقة، يحين وقت الإنتقال إلى مرحلة حاسمة من عمر الحوار. و هى تكريس الأجوبة التى أفضينا إليها بفعل إجتهاد من رجال الديانات فى واقع الملايير من الأتباع، و دون التكريس الفعلى للأجوبة يتحول فعل الحوار إلى سفسطة. و لعل أهم تحدي يواجه الديانات السماوية و الوضعية أن يقع سن قانون تلتزم به الأنظمة على أى مذهب كانت، أن يعلو صوت الدين على أي تنظير من وضع البشر لنتمكن من ترسيخ التصور الرباني لمجتمع الإنسانية فى كوكب الأرض و إلا ما الجدوى من تنظيم جلسات حوار فى البقاع الأربع من البسيطة؟ فإعتراف الأنظمة الوضعية بأهمية و خطورة حوار الديانات، إعتراف بسلطان الدين على حياة الأفراد و الجماعات و المجتمعات و الأمم و التكتلات من أى نوع كانت. و بناءا على هذا و إنطلاقا منه، لا بد للقائمين على شؤون هذا العالم أن يعوا بأن الدين وحده من يأتي بالتصور الشامل الكامل المستوفي الشروط لدور الإنسان و المجموعة فى هذه الحياة الدنيا.

و ليس هناك إلا الدين الذي يتصف بالشمولية و الدقة و الحكمة و الموضوعية في آن. فأي نظام حياة من صنع بشري عاجز عن الإتيان بنموذج الحياة اللائق بالإنسان و ما إنهيار إيديولوجيات وضعية عبر العصور و آخرها الشيوعية و الإستبداد إلا دليل ساطع عن عامل الثبات الذي يتميز به الدين. فهو يخترق بشكل تلقائي و طبيعي كل الأبعاد البعد الزمكاني و بقية الأبعاد التي لم نكتشف بعد أسرارها. فهو يمر عبر الحجب ليخاطب عقل و فؤاد الإنسان بطريقة إعجازية لم يجد لها أي تفسير منطقي علماء العصور المتأخرة. فعلى رجال السياسة و الإقتصاد و الإجتماع و الثقافة أن يفهموا بأن الدين أكبر من عقولهم و طموحاتهم و أمالهم و أحلامهم و كوابيسهم و خططهم و إستراتجياتهم.

إن أدركوا هذا المعطى الحيوي، فالذهاب إلى أجوبة حوار الديانات يصبح فى عداد الممكن. و عملية تجسيد هذه الأجوبة هي التحدي الذي من أجله يجب أن تركز كل الجهود المعنوية و المادية لتمكين بني البشر من تجاوز مرحلة الإنفجار و الفوضى و الوحشية الذين يتخبطون فيها فى القرن الخامس العشر الهجري و الألفية الثالثة الميلادية. بهذا فى ظني نكون قد تخطينا فعليا في أرض الواقع حاجز الخوف و التحفظ و رفض الآخر صاحب الديانة و المعتقد المختلفين.

كمسلمين و كممثلي لآخر دين سماوي علينا بفهم معضلة أن نذهب للآخرين باستعداد كبير في الإختلاف معهم و لكن في نفس الوقت على ألا يتحول إختلافنا معهم الى نهج درب مغاير مما أرساه رسول الخلق و سيد الأنام و أكرم الخلق محمد صلوات الله عليه و سلم.  نكون قد إطلعنا على سيرة رسول الحق عليه الصلاة و السلام الذي لم ييأس أبدا من مخاطبة المشركين و أهل الكتاب، فهو لم يكف أبدا من إعتبار الآخرين الرافضين لدينه الإسلام قابلون دائما لمبدأ التفاهم و التعايش و إن لم يسلموا.

فرسول الحق صلى الله عليه و على آله و سلم دائما ما إتبع الأمر الإلهى {و جادلهم بالتى هى أحسن}  بتحسس روح و أخلاق هذا الأمر الإلهى العظيم. فإن إستطعنا كمسلمين أن ننجز مثل هذا الحوار بهذه المبادئ و الأخلاق النبوية و هذا رغم جراحنا و فجائعنا و مصائبنا و عذاباتنا و معاناتنا نكون قد حققنا وصف الله عز و جل العلي القدير لأمة الإسلام المطيعة له، المتعبدة له {كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر} . صدق الله العظيم.

3) حوار الديانات ما بعد سقوط النظام العربي الإستبدادي:
و إن كنت متحفظة نوعا ما من إعلان سقوط النظام العربي الإستبدادي، لأن النظام في مصر و تونس و إن سقطت رموزه فدعاماته من الداخل و الخارج مازالت قائمة و لا بد من وقت و جهد و تضحيات جسام للقضاء عليه نهائيا لكن قمت بذلك، تبيانا لمدي دقة التوقيت الذي ندعى فيه إلي حوار الديانات، إنه توقيت قررته مؤسسات و مراكز التفكير و الأبحاث في واشنطن و عواصم غربية أخري ما تسمي بالإنجليزية بمؤسسات

ThinkTank.

علينا أن ندرس جديا السبل المتيحة لقيام حوار داخلي بين أنفسنا كمسلمين ثم ننتقل في خطوة ثانية إلى محاورة المسحيين أو اليهود الذين يعيشون بين ظهرانينا، فهؤلاء أولى بالحوار و الإستماع إليهم و أن يستمعوا إلينا بدورهم لنذهب في مرحلة أخيرة إلى الآخرين في بقية القارات و كما تنبأ السيد صاموئيل هاتنغتوتن المتوفي في 2008 قصة سيطرة الجنس الأبيض على الحضارة العالمية علي وشك أن تنتهي، فسيأتي زمن نطالب فيه بتقديم البديل الحضاري الناجع.

و لا بد عندئذ من تجربة حضارية رائدة نكون قد خضناها فنقدمها كبديل لتجاوزات و إخفاقات و جرائم الحضارة الغربية، حينها سيكون الحوار أكثر فعالية و أكثر تأثيرا علي الديانات المقبلة على مبدأ الحوار. فالحوار ما هو إلا وجه حضاري لإنتصار فكر و ذكاء البشر و نحن حاليا في منعرج خطير و هام جدا بالنظر إلى التطورات الهامة التي تبلورت في ثورات مدنية سلمية إكتسحت عالمنا العربي، فهذه ستنعكس آجلا أم عاجلا علي نوعية الحوار و كيف لنا أن نحاور إنطلاقا من رؤية إيجابية نكون فيها صناع مصيرنا بإستقلالية يرفضها الغرب المؤسساتي.

أعد أمر الإستقلالية الحضارية حجر أساس في بنيان الحوار الحضاري الشامل بين الديانات و المعتقدات، فكلنا نشترك في عامل الإيمان بقوة ما تقرر مصيرنا. الرؤية الإسلامية لدور الخالق الرب هي الأوضح و الأسلم لإنسانية تفتقد إلي تصور صحيح للغاية من وجودها و نشأتها كقبائل في البدايات و مع تطور و تظافر العديد من العوامل و الظروف ظهرت إلي النور الشعوب الصانعة لحضارات تكونت علي أساس صلب ليتفتت ذلك الأساس فيما بعد فتسقط و تعرف فترات إنكفاء و ضمور.

حاملي هم الإنبعاث الحضاري للإسلام على مدي عقود إن لم نقل قرون، اليوم يشهدون تحرك داخلي جبار قاد و سيقود إلى تغيير نريده جذريا كي نتمكن من إعادة بعث الروح بشكل سليم في جسم أمة كانت خير أمة أخرجت للناس و أول ما نحتاجه في هذا التوقيت بالذات هو إيصال هذه الرسالة إلى المعنيين بالحوار بين الديانات من الجهة المقابلة:

حتمية التغيير الداخلي لشؤوننا قرار عليهم بإحترامه، و من جهة أخرى عليهم بالكف عن التكهن عن نوع النظام الذي سنحتكم إليه، فالديمقراطية كما ظلوا يبشرون بها منذ قرنين من الزمان أي منذ قيام دولة الولايات المتحدة الأمريكية فهذه الديمقراطية تأذن اليوم في الغرب بأفول حضارة البيض و قد ساهمت بقدر كبير كنظام سياسي وضعي في تعجيل  إنحطاط الغرب و وصوله إلى مأزق عدم ضمان ديمومته.

فالديمقراطية أفردت للحرية هامشا كبيرا جدا و مبالغ فيه و قد إستغله شر الإستغلال الإنسان الغربي بحكم قوته الإقتصادية و العسكرية و كانت النتيجة وخيمة ليس فقط على الشعوب المتخلفة التي عانت من هيمنته و جبروته بل تعدت سلبيات هذه الهيمنة إلى المجتمعات الغربية نفسها! و هذا كفيل بأن يعطينا أملا في المستقبل و في نوعية الحوار الذي سيستمر مع ممثلي الديانات بإعتبار أننا لا نحاور الآخر من موقع الغطرسة أو الثقة الزائدة في النفس إنما نحاور الآخر لأنه لدينا ما نقدمه له من حلول سيعرف نجاعتها و يلمس صوابها حينما نبادر بتجسيدها في أنفسنا وفي واقعنا.

ليس هناك أفضل من لغة الفعالية التي رسخها الإسلام عبر مفهوم العبودية و الدين معاملة، فالإيمان ليس ما وقر في القلب و لم يغادره إلى السلوك و الفعل المؤثر.

العالم اليوم في أمس حاجة لمعرفة مخارج لأزماته المتعددة، فالديمقراطية مكنت قلة غنية متنفذة من تحويل سكان العالم إلى رهائن رغباتها الجشعة و الدارس للنظام التمثيلي الأمريكي عبر مجلس الشيوخ و غرفة النواب سيدرك سريعا و بدون عناء كبير أن الديمقراطية الأمريكية التي تجري في كواليس مقر الشيوخ و النواب هي نظام سياسي رهيب يخدم بالدرجة الأولي مصالح الأغنياء و العرقيات القوية بنفوذها المالي و الصناعي و الطاقوي!!

لهذا يتعين علينا الخروج من دائرة اللافاعلية و الهامش الذي حصرنا فيه أنفسنا حينما أدرنا ظهورنا و عقولنا عن قيمنا، لنرسم معالم عالم أكثر أنسنة و أكثر تكافلا و إنسجاما، فليكن صراع الحق و الباطل صراع يأخذ بنا إلى تجاوز الكراهية و الأحقاد التي زرعها الظلم الذي كان أصحابه تارة يهود و تارة مسيحيين و تارة مسلمين.

فلنقم العدل بموازينه الواحدة و التي تنطبق على كل البشر، فلا نخترع عدلا خاص بمقاس اليهود و آخر بمقاس المسيحيين و الآخر بالمسلمين، لنؤكد عبر حوار الديانات أن لغة القصاص كما أنزلتها الشريعة السماوية لا تفرق بين عربي و أعجمي و بين مسلم و يهودي وأننا أمام الخالق سواسية، فأكرمكم عند الله أتقاكم.

خاتمة:
في ختام هذه الورقة المتواضعة، علي بالإشارة إلي بعض النقاط التي إستنتجتها من مشاركتي في برنامج حوار الديانات بين 11 نوفمبر 2006 و 2 ديسمبر 2006 في الولايات المتحدة الأمريكية من تنظيم مؤسسة ميرديان الأمريكية و تمويل وزارة الخارجية الأمريكية. كنت شخصيا قد رفضت ترشيحي لمثل هذا البرنامج لحوار الديانات في أمريكا بإعتبار أنه لا يجوز لي محاورة أناس تحت إشراف إدارة أمريكية محاصرة لشعب فلسطيني في غزة و محرضة على العدوان الصهيوني السافر على لبنان و داعمة للمشروع الصهيوني في فلسطين.
لكن قبولي للمشاركة في النهاية كان يتضمن إرادة شخصية في معرفة نقاط ضعف و قوة من نحاورهم من كنائس أمريكية و معتقدات سماوية محرفة و أخرى وضعية و أيضا نقاط ضعف و قوة الإدارة الأمريكية العدو.

و ما عايشته على مدي واحد و عشرين يوما في خمسة ولايات أمريكية بداية من العاصمة الفيدرالية واشنطن إلى كنساس سيتي مرورا بلوس أنجليس و هانتسفيل و نهاية بنيويورك، جعلني أقتنع بهذه الحقيقة المحزنة و الإيجابية في آن: نحن أصحاب العقيدة الصحيحة من مكنا الآخر من أنفسنا بشكل جد ساذج و أحمق، لأنه من غير المعقول أن نسمع ليهودية و زوجها اليهودي في مأدبة عشاء في بيتهم يصرحون بصريح العبارة أنهم كيهود لم يكن لديهم خيار في فلسطين في 1948، كان لا بد لهم من قتل و تشريد شعب فلسطيني ليحتلوا مكانه و أرضه!!! فمثل هذا التصور لحوار الديانات أكد لي أمرا: أنه لا ينفع حوار مع قتلة!

 


من اعمال الباحث
أضافة تعليق