مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2015/05/16 18:50

الصراع حول الديموقراطية في العالم العربي أعقد وأكثر حدة مما نتصور، هذه خلاصة ورقة في الموضوع قدمتها في بداية هذا الأسبوع إلى مؤتمر حزب البناء الوطني في تونس.

 

 

(1)

 

الفكرة المفتاح في فهم تحديات التحول الديموقراطية تكمن في تحليل «طبائع الاستبداد» الذي «هو بيت الداء» والأساس لأغلب التحديات التي تواجه التحول المنشود. وهذا التقييم مقتبس مما أورده شيخنا عبد الرحمن الكواكبي (1854- 1902) في كتابه الشهير «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد». لكنني سأتعامل مع الفكرة من منظور آخر، أسلم فيه بأن الاستبداد أصل كل فساد كما ذكر، وأركز على بعد لم يتناوله بصورة مباشرة هو أثره على محاولة الانتقال إلى الديموقراطية. ذلك ان الاستبداد في زماننا اختلف في أساليبه عما شهده وعرفه الكواكبي، وإن ظل محوره الرئيسي يكمن في احتكار السلطة والثروة، فلم يعد حاكما فردا تحيط به نخبة من المنتفعين ويمارس سلطانه من خلال أدوات القمع التقليدية. وإنما صارت للاستبداد أدوات أخرى صارت تسهم في تكريس القمع والقهر، في مقدمتها حيل القانون ومنصات القضاء وأبواق الإعلام المرئي والمكتوب، بحيث صار الاغتيال المعنوي والسياسي منافسا للاغتيال المادي ومتقدما عليه، أعني أن الأساليب تطورت بحيث طرحت ما يمكن ان نسميه بالاستبداد الناعم الذي يجلد بلا سوط ويقتل بلا قطرة دم.

 

صرنا أيضا بإزاء ما يمكن أن يطلق عليه الاستبداد الديموقراطي، وهو المصطلح الذي استخدمه المستشار طارق البشرى في كتاب أخير له. وفي ظله لا يلغي المستبد مؤسسات الدولة لكي ينفرد بالقرار ويمارس احتكار السلطة. ولكنه يقيم كل الهياكل والمؤسسات الديموقراطية، لكنه يفرغها من وظائفها، بحيث تصبح معبرة عن إرادته هو لا عن إرادة المجتمع، وتحمي شخصه ونظامه بأكثر مما تحمي مصالح الناس وتستجيب لأشواقهم. في هذه الحالة يَسمح بظهور الأحزاب وإجراء الانتخابات وإقامة البرلمانات وتشكيل الحكومات المنتخبة ويَفتح الأبواب لتشكيل منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، لكن أصابع أجهزته تظل هي المحرك الأساسي لكل ذلك، وهي صيغة تُبقي الحاكم بعيدا في الظل، لكن أعوانه وأجهزته يوظفون كل ذلك لحسابه.

 

بهذه الأساليب المبتكرة أصبح المستبد يمارس نفوذا أكبر، لا يدمر به الحاضر فحسب، ولكنه يدمر المستقبل أيضا. وهذا الشق الأخير هو الذي يهمنا في السياق الذي نحن بصدده. وإذا كان تدميره للحاضر معلوما، إلا أن أخطر انعكاساته على المستقبل تتمثل في ان الاستبداد يُفقِد المجتمعَ عافيتَه ويُفسِد أجواءه. ذلك انه يصيب الفضاء السياسي بالتجريف، والقوى السياسية بالضعف والعقم كما انه يصيب مؤسسات المجتمع بالإعاقة والعجز. في الوقت ذاته، فإنه يؤسس لنخبة تابعة تبشر بقيم الانصياع وعبادة السلطان، في حين تحارب التنوع وتتهم الاختلاف حتى تجرمه. وتلك عوامل لها تأثيرها السلبي على المستقبل من حيث انها تشكل عقبات حقيقية تعترض طريق التحول الديموقراطي.

 

(2)

 

خبرة التاريخ تزودنا بالكثير من المعارف التي تساعدنا على تصور التحديات التي تواجه التحول الديموقراطي. واستعيد هنا نصا يتعلق بالحالة المصرية، سبق أن أشرت إليه في مقام آخر، أورده المستشار طارق البشرى في مستهل كتابه الأخير عن «جهاز الدولة وإدارة الحكم في مصر»، يسلط الضوء على ما يحدثه الاستبداد من تحول في عقيدة وبنية جهاز الإدارة. فهو يذكر «اننا خلال ثلاثة أرباع القرن الأخير عشنا في مصر في حالة طوارئ ثابتة اعتاد عليها جهاز إدارة الدولة وتشكلت في إطارها تجاربه ومهاراته وأساليب إدارته للشؤون العامة وللتعامل مع المواطنين. بمعنى أنه في «ثقافته» الإدارية وبحكم تجاربه وخبراته لم يستطع الحكم ممارسة مهام عمله في التعامل مع المواطنين إلا في ظل ما تنتجه «حالة الطوارئ» هذه من سلطات وقدرات غير مقيدة، أي في إطار سلطات طليقة من القيود، الأمر الذي يعني - بحسب تعبيره- أن امكانية الحكم وإدارته لم تعودا تنفصلان عن خبرة الاستبداد ومعارفه وعادات تعامله.

 

هذه الشهادة تنبه إلى أن موقف أجهزة الإدارة التي تشكلت ونمت في ظل الاستبداد - وأجهزة الأمن جزء منها لا ريب- يمثل عقبة لا يستهان بها أمام طموحات التغيير المنشود. ببساطة لأنك لا تستطيع أن تقيم نظاما جديدا بأدوات وأجهزة النظام القديم، وهنا تبرز أهمية التفرقة بين الانقلاب وبين الثورة الشعبية. ذلك أن الانقلاب يقوم به أحد مراكز القوة في المجتمع مستخدما بعض الأذرع المسلحة ليفرض إرادته على النظام القائم، وفى الموسوعة الحرة فإن الانقلاب هو «إزاحة مفاجئة للحكومة بفعل مجموعة تنتمي إلى مؤسسة الدولة - عادة ما تكون الجيش- وتنصيب سلطة بديلة لها، عسكرية أو مدنية». أما الثورة، فهي انتفاضة المجتمع ضد السلطة بمختلف مؤسساتها وأجهزة الأمن والإدارة على رأسها، وذلك يهدف إلى تغيير نظام الحكم وتحقيق مطالب معينة لمصلحة المجتمع الذي قامت الثورة على اكتافه، والفئة التي قامت بالانقلاب بوسعها أن تفرض التغيير الذي تنشده باستخدام أدوات قوة السلطة التي تملكها. وهو ما لا يتوفر دائما للثورة الشعبية التي اشترط لينين وماركس لنجاحها حل الجيش والشرطة (استخدما في ذلك كلمة سحقهما)، لأنهما يشكلان الخطر الأكبر الذي يوظفه النظام القديم لإجهاض الثورة.

 

ما حدث ان العالم العربي تجاوز مرحلة الانقلاب - في الوقت الراهن على الأقل- وتتابعت فيه منذ العام 2011 الثورات الشعبية، الأمر الذي يدعونا إلى استحضار خبرة التاريخ التي راكمتها الثورات المختلفة. ذلك اننا سنجد أن حصيلة تلك الخبرة حافلة بدروس تساعدنا في فهم وتفسير ما جرى ويجري.

 

(3)

 

عديدة هي الدروس التي تزودنا بها خبرة التاريخ، وهو ما اهتمَّ بمعالجته كُتَّابٌ عديدون في المقدمة منهم الباحث السوري حسين عبد العزيز والكاتب الفلسطيني منير شفيق. من أهم تلك الدروس ما يلي:

 

- إن التغيير في ظل الثورات الشعبية يتطلب، لتحقيق أهدافه، وقتا طويلا، قد يصل إلى عقود عدة، ولا ينسى في هذا الصدد أن استقرار الديموقراطية والتمكين لها في أوروبا اقتضيا مرور قرن كامل في أعقاب الثورة الفرنسية (العام 1898).

 

- إن أغلب الثورات الشعبية لم تنتقل من العهد الذي انتفضت ضده إلى الوضع الذي سعت إلى إقامته إلا بعد المرور بسلسلة من الاضطرابات التي وصلت إلى حد الحروب الأهلية، وهو ما ينطبق على الثورات الإنكليزية والفرنسية والروسية وغيرها من الثورات الأوروبية.

 

- إنه ما من ثورة شعبية إلا وتعرضت للانتكاسة على أيدي الثورة المضادة، لأن الأنظمة السابقة تملك من الخبرة وعناصر القوة والقدرة ما يمكنها من تحدي الأوضاع الجديدة. ولا ينسى في هذا الصدد أن آل البوربون عادوا إلى عرش فرنسا بعد عقدين ونصف العقد على اندلاع الثورة الفرنسية، واستطاع شاه إيران العودة إلى الحكم بعد ثورة مصدق. كما استطاعت الثورة المضادة في تشيلي برئاسة الجنرال بينوشيه الانقلاب على حكم سلفادور الليندي الذي وصل إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع.

 

- إن الدولة العميقة عادة ما تكون رأس الحربة في تحدي الثورات الشعبية، ذلك أنها تمثل تحالف أركان النظام السابق والمنتفعين به مع عناصر مؤسسات القوة المتمثلة في الجيش والشرطة. وهذا التحالف حين يخوض معركة ضد الثورة الشعبية فإنه يتصدى لها بشراسة وعنف لأن الأمر بالنسبة إليه معركة مصيرية، فإما ان يعود النظام القديم أو تطوى صفحته نهائيا ويخرج من التاريخ بلا عودة.

 

(4)

 

إذا حاولنا ان نستخلص مما سبق أبرز التحديات التي تواجه التحول الديموقراطي في العالم العربي بوجه أخص، سوف نجد أنها تتمثل في ما يلي:

 

1- إن الجماهير التي عانت من الاستبداد، تظل معنية باحتياجاتها المعيشية بأكثر من اعتنائها بترسيخ قوائم الديموقراطية وقواعدها. وبسبب ذلك الشوق، فإنها ترفع سقف توقعاتها عاليا، وتنتظر من التغيير ان يلبي لها احتياجاتها. ولأن التغيير يستغرق وقتا ويتعرض لهزات وانتكاسات، فإن ذلك يثير استياء الجماهير المترقبة والمتسرعة ويستدعي عوامل الإحباط والغضب لديها، الذي تعبر عنه الإضرابات والاعتصامات وغير ذلك من الوسائل التي تبطئ من النمو الاقتصادي المراد انعاشه.

 

2- إن الجدب السياسي الذي يسعى نظام الاستبداد إلى اشاعته من خلال حرق بدائله حين يؤدي إلى موت السياسة وإصابة الطبقة السياسية بالإعاقة، يحدث مفارقة تعاني منها عملية التحول المنشود، إذ نصبح بإزاء وضع تظل فيه الديموقراطية مطلبا ملحا، ولكن الفضاء السياسي يعاني من غياب الثقافة الديموقراطية وندرة الديموقراطيين.

 

3- هشاشة المجتمع المدني تعد مشكلة عصيّة على الحل، ذلك ان التدمير الذي يحدثه نظام الاستبداد إما انه يلغي وجود مؤسسات المجتمع أو انه يضعفها ويفرغها من مضمونها. في حين ان نجاح التحول يظل أشد ما يكون حاجة إلى وجود وفعالية تلك المؤسسات باعتبارها ركيزة قوة المجتمع التي تشكل إحدى ضمانات نجاح التحول الديموقراطي.

 

4- بسبب احتكار الاستبداد للسلطة، فإن النشطاء السياسيين الذين يتقدمون صفوف الدعوة إلى التغيير يعانون من مشكلتين عويصتين: الأولى انهم يفتقدون إلى خبرة إدارة المجتمع بسبب حرمانهم التاريخي من المشاركة في القرار السياسي وجهاز الإدارة. والثانية انهم يفتقدون روح الفريق والعمل المشترك. وبسبب ذلك، تسود بينهم عوامل عدم الثقة وأحيانا سوء الظن الأمر الذي يعجزهم عن العمل مع بعضهم البعض، وهو ما ينتهي إلى الاعتماد على عناصر النظام القديم في إدارة النظام الجديد.

 

5- يتصل بما سبق انه في الوقت الذي يفرض التغيير الاحتشاد والتجمع لدى عناصر النظام القديم، فإن العناصر الداعية إلى التغيير كثيرا ما تستسلم لحساباتها وربما طموحاتها، الأمر الذي يوقعها في فخ الخلاف الذي ترجم في الحالة العربية إلى استقطاب حاد بين القوى العلمانية والليبرالية واليسارية في ناحية والقوى الإسلامية من ناحية ثانية، الأمر الذي يضعف الاثنين في نهاية المطاف ومن ثم يهدر الوفاق المطلوب لإنجاح التحول.

 

6- تبدو ساحة المواجهة مع أركان النظام القديم أوسع بكثير من قدرة قوى التغيير الطامحة إلى إقامة النظام الديموقراطي، ذلك ان إسقاط رأس النظام ورموزه ربما كان أمرا ميسورا، لكن جسم النظام وأذرعه في مختلف مجالات العمل العام يتطلب تغييرها وقتا طويلا وقدرات وامكانات غالبا ما لا تتوفر لعناصر النظام الجديد، إذ إلى جانب الدولة العميقة التي سبقت الإشارة إليها، فإن المشكلة تكمن بحدة في مجالَي القضاء والإعلام، ومواجهة التحدي في هذين المجالين تتطلب حذرا شديدا لا يمس استقلال القضاء ولا ينال من حرية الإعلام.

 

7- أخيرا، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل دور دول المحيط الرافض للديموقراطية ومسعاه الدؤوب طول الوقت لإجهاض التجربة. ولا أقصد بالمحيط بعض قوى الداخل فحسب، ولكنني أقصد تحديدا المحيط العربي الرافض للتغيير الديموقراطي - لنا في ذلك خبرة مشهودة- إلى جانب إدراك الأطراف الإقليمية والدولية أن من شأن التحول الديموقراطي ان يضر بمصالحها ومخططاتها (الولايات المتحدة وإسرائيل مثلا). ولست أشك في أن الصراع حول الديموقراطية في العالم العربي يمكن أن يحسم في الأجل المنظور، لأن القوى الراغبة في إجهاض التجربة ليست أقوى عددا وعدة فحسب، ولكن أيضا لأن الأمر بالنسبة لها يعد معركة حياة أو موت.

موقع*التجديدالعربي*

من اعمال الباحث
أضافة تعليق
آخر مقالات