مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2015/03/21 18:16
بين سد الذرائع والعمل بالمصلحة[1/2]
 د. عبد العزيز بن إبراهيم الشبل

 

فضيلة الشيخ: شاع بين الناس في الآونة الأخيرة ما يعرف بـ...، ولا يخفى على فضيلتكم ما في ... من الأخطار، فما رأيكم في حكم هذه المسألة؟ 
- حرام 
- يتساءل البعض عن دليل التحريم، ويزعم البعض الآخر أن هذا من التشدد في الدين .. 
-لا يوجد دليل صريح في هذه المسألة، وكما تعلم فالنصوص الشرعية لا تحيط بجزئيات الأحكام، وإنما تدل على الأحكام بعمومها، والنص الشرعي له منطوق ومفهوم، و.. ، يقول ابن تيمية: .. ولو تأملنا هذه المسألة لوجدناها ذريعة لإفساد المجتمع، فهي حرام لذلك.. 

وفي الجانب الآخر: 
ـ فضيلة الشيخ: ... ، فما الحكم الشرعي لهذه المسألة؟ 
ـ حلال 
ـ لكن بعض المفتين يقول: إن هذا العمل حرام، ويذكر قول النبي –صلى الله عليه وسلم-... ، فما رأي فضيلتكم.. 
ـ صحيح إن الحديث المذكور ورد عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولكن لو نظرنا إلى المجتمع، وتغير حاجات الناس ومصالحهم، لرأيت أننا لا بد أن نقول بالجواز مراعاة لمصلحة المجتمع... 
ـ حتى لو ورد عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ما يفيد التحريم... 
ـ يا أخي، الحديث المذكور لا يدل صراحة على حكم هذه المسألة، صحيح أنه يدخل في عمومه، وهو ما يتبادر إلى الذهن من الحديث، لكن لا بد أن تكون لنا قراءة جديدة للنصوص الشرعية، ولا يمكن أن نقرأ النصوص الشرعية بعيداً عن المقاصد الشرعية لها، يقول الشاطبي:... ، وكما تعلم فالدين كله راجع إلى إعمال المصالح ودرء المفاسد... 

المشهد السابق مشهد متكرر في ساحة الفتوى، وكثيراً ما يعلل بعض المفتين فتاواهم بسد الذرائع، أو بإعمال المصالح، وبات بعضهم إذا أراد أن يحرم شيئاً ـ لا يجد دليلاً على تحريمه ـ يتكئ على سد الذرائع، ومن أراد أن يبيح شيئاً ـ ووقف الدليل الشرعي في وجهه صريحاً بالتحريم ـ يذهب إلى إعمال المصالح، حتى غدا عندنا منهجان واضحا المعالم في الفتوى ـ بالإضافة إلى المناهج الأخرى ـ منهج يوسع دائرة الذرائع فيضيق على الناس ما أباحه الله، ومنهج يتمسك بالمصالح المزعومة مغفلاً النظر فيما سواها، وحدث نتيجة ذلك ردة فعل طبعية لهذين المنهجين: فتبرم بعضهم بسد الذرائع حتى عدّه أكبر سد في العالم، وعد آخرون المصالح طاغوتاً يضاف إلى الطواغيت الجاثمة على صدور المسلمين. 
وهذا أدى ببعض الباحثين والمفتين إلى التحرز من تعليل الأحكام الشرعية بسد الذرائع، حتى لو كانت الذريعة واضحة كالشمس، فلو وجدت معاملة مالية مستحدثة تؤدي إلى الربا وإلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، وكانت الحيلة فيها أوضح من حيلة اليهود في صيدهم الحيتان يوم السبت ما تجرأ أن يقول بالتحريم؛ خوفاً من أن يوصم بأنه (صاحب أكبر سد في العالم). 
وعلى الطرف الآخر تجد مسألة من المسائل لا يوجد فيها دليل صريح، بل قد يوجد دليل يشير إلى الإباحة، ومع ذلك تجد بعض الباحثين والمفتين يتحرز من القول بالإباحة استناداً إلى المصلحة الشرعية، خوفاً من أن يوصم بأنه (قليل علم بالنصوص، ولما أعيته النصوص اتجه إلى المصالح) و(أنه مفتٍ عصراني). 
ولو أخذت فتوى لمن يستخدم (سد الذرائع) بكثرة، وأردت أن تستدل لكلامه بالمصالح لما أعجزك ذلك، وكذلك العكس، وخذ مثالاً لذلك: ما يسمى بالتورق المبارك، تستطيع أن تقول بالإباحة استناداً إلى المصالح؛ فالناس محتاجون إليه، ومصالحهم تتعلق به، وإن أردت التحريم قلت: إنه ذريعة واضحة إلى الربا، وتستطيع أن تعكس فتقول: إنه مباح، ولو لم نقل بذلك لانسدت وسائل التمويل في وجوه المسلمين مما يؤدي إلى تركهم للمصارف الإِسلامية واتجاههم إلى البنوك الربوية فنقول بالجواز سداً لذريعة اتجاه الناس إلى الربا، وتقول: إنه محرم، فمن مصلحة الاقتصاد الإسلامي أن نقول بذلك، ولو قلنا بهذه الوسيلة لألغينا (كل أو جل) وسائل التمويل الإسلامية الرائدة التي جعلت المصارف اِلإسلامية تنافس حضارياً البنوك التقليدية، وجعلت المسلمين يشاركون في تقديم حلول لمشاكل العالم المعاصر، وهذه الطريقة تلغي الفروق بين المصارف الإسلامية والربوية، مما يجعل المصارف الإسلامية عديمة الجدوى (1)
وعاد الخلاف إلى التلاعب بالألفاظ، لا الاستدلال بالأصول الشرعية. 
فهل المشكلة في العمل بسد الذرائع، أم المشكلة في العمل بالمصالح الشرعية؟ 
أين تكمن المشكلة؟ 
الحقيقة أن المشكلة ليست في (سد الذرائع) وليست كذلك في (إعمال المصالح)، وكلاهما قاعدة شرعية قررتها أصول الشريعة، وعمل بها العلماء الراسخون. 
ولكن المشكلة تكمن في تحديد المصطلح، ثم في التطبيق الخاطئ للقاعدة الشرعية، وأحياناً لا توجد مشكلة أصلاً؛ إذ المسألة لا تعدو أن تكون من الخلاف اللفظي، أو الخلاف السائغ. 
وهذا الكلام ينطبق على أصول شرعية أخرى: كالعمل بالرأي والاستحسان واعتبار العرف. 
فالعمل بالرأي نجد في كلام السلف ذمه ومدحه، ولكننا إذا حققنا كلامهم -كما فعل ابن القيم رحمه الله- (2)نجد أن الذم والمدح لم يردا مورداً واحداً. 
فمن ذمه قصد به الرأي الفاسد المصادم للنصوص أو القول في الدين بالخرص والظن مع التفريط في معرفة النصوص، ومن مدحه أراد به الرأي الصحيح الموافق للنصوص الشرعية، كآراء الصحابة، أو الآراء التي فيها تفسير النصوص، أو إعمال الرأي في المسألة عند عدم الدليل بعد بذل الجهد في البحث عنه. 
وإذا تقرر ما سبق فإن من ذم الرأي كان مصيباً، ومن مدحه كان مصيباً، ولكن كلام هؤلاء وهؤلاء لم يرد مورداً واحداً، وعند تحرير المصطلح يتبين لنا أن الخلاف لفظي. 
ومع اتفاقهم على هذا التأصيل إلا أنه وقع الخلاف بينهم في المسائل التي أعملوا فيها الرأي، إما لاشتراط أحدهم ما لم يشترطه الآخر، وإما لاختلاف أفهامهم أو اختلاف الظروف المحيطة بكل مسألة..، (3) فلو أخذنا ـ على سبيل المثال ـ مسألة من مسائل الفرائض وهي مسألة الجد والإخوة لوجدنا أن المسألة ليس فيها دليل قاطع، والصحابة عملوا فيها بالرأي مع اتفاقهم على حدود الرأي الذي يعمل به، ومع ذلك اختلفوا في هذه المسألة فمنهم من عدّ الجد أباً وحرم الإِخوة من الميراث، ومنهم من شرك بين الإخوة والجد. 
وكذلك إذا نظرنا إلى مسألة العمل بالاستحسان، فقد ردّه بعض الأئمة وشنع القول فيه، حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع، ومع ذلك نجد أن بعض الأئمة الكبار كأبي حنفية يقول به، بل نجد في كلام من رده العمل به، ووجد في كلام الإمام الشافعي نفسه الأخذ به، فهل اختلافهم حقيقي؟ 
عند إمعان النظر في كلامهم نجد أن من ردّه فإن كلامه يدور حول معنى من المعان، وهو: العمل بالتشهي والهوى من غير دليل، وهذا لم يقل به أحد ممن يعتد بقوله لا أبو حنيفة ولا غيره، والأئمة ـ رحمهم الله ـ أجلّ من أن يقولوا بذلك، وكذلك من فسر الاستحسان على أنه دليل ينقدح في ذهن المجتهد لا يستطيع التعبير عنه. 
وأما من عمل به فقد أراد العدول عن الحكم أو الدليل إلى حكم أو دليل أولى منه، أو القول بأقوى الدليلين. 
وهذا المعنى لا ينبغي أن يخالف فيه أحد، فعاد الخلاف إلى اللفظ لا إلى الحقيقة، وتبين أن الكلام لم يرد مورداً واحداً (4)
ولهذا قال الغزالي: ورد الشيء قبل فهمه محال، فلا بد أولاً من فهم الاستحسان... (5) 
وقال الشيرازي: فإن كان مذهبهم على ما قال الكرخي (أي العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها لدليل يخصها) وعلى ما قال الآخر، وهو القول بأقوى الدليلين، فنحن نقول به وارتفع الخلاف (6)
وقال ابن قدامة: فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى (7)
وقال ابن السمعاني: ذكر الأصحاب أن القول بالاستحسان في أحكام الدين فاسد.. وكذلك القول بالمصالح والذرائع والعادات من غير رجوع إلى دليل شرعي باطل.. ثم قال: واعلم أن مرجع الخلاف معهم في هذه المسألة إلى نفس التسمية، فإن الاستحسان على الوجه الذي ظنه بعض أصحابنا من مذهبهم لا يقولون به، والذي يقولونه لتفسير مذهبهم: إنه العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى منه فهذا لا ننكره..) (8) 


وعلى ذلك فلا يجوز للمفتي أو الباحث أن يترك هذه الأصول الشرعية؛ لأن فلاناً قال بها، أو لأن القائل بهذه المسألة هم من أصحاب التوجه الفلاني، بل على المفتي أن يصدع بالحق أياً كان، إذا كان يرى أن هذا هو الحق، وأن هذا الحق يجب قوله الآن. 
حتى لو كان الحق فيه تيسير على الناس، ففي عمل الناس آصار لم يأمر بها الله، فهل الشريعة جاءت بالحرج والأغلال والآصار حتى نمتنع عن قول الحق من أجل ذلك. 
وحتى ولو كان الحق مخالفاً لأهواء الناس وما ألفوه ولانت جلودهم له، إذ الشريعة لم تأتِ موافقة لأهواء الناس، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض. 
ولنتخيل لو جاء أحد المفتين فقال بجواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، ودفع الزكاة للكفار دفعاً لأذاهم المتحقق عن المسلمين، وما موقف بعضهم لو سمع من يقول بعدم قتل بعض المنافقين والمرتدين لئلا يتحدث الناس أن (المسلمين) يقتلون أصحابهم، وما عمله لو عقد بعض الولاة صلحاً كصلح الحديبية، أو نهى عن سب آلهة المشركين لئلا يترتب على ذلك ضرر أكبر، أو امتنع عن إقامة حد السرقة لسبب شرعي مقبول ـ كما وقع عام الرمادة ـ، أو أجاب دعوة لأحد قسس النصارى، أو استقبل بابا الفاتيكان في أحد مساجد المسلمين، أو سمح بإقامة بعض الأنشطة في المساجد ـ وإن كانت رياضية ـ كما فعل الحبشة في المسجد النبوي، أو اتبع الأعراف الدولية السائدة ـ التي لا تخالف أصول الشريعة ـ كما اتخذ النبي –صلى الله عليه وسلم - خاتماً، وامتنع عن قتل الرسل، وأخبر أنه لو دعي إلى الحلف الذي عقد في بيت ابن جدعان ـ حلف لنصرة المظلوم ـ لأجاب، وخاطب هرقل بعظيم الروم، ألن يرمى هذا المفتي بالتساهل وتمييع الدين، والإعراض عن النصوص الشرعية؛ تمسكاً بالمصالح. 
وعلى النقيض لو قال أحد العلماء بتحريم بعض الألفاظ لئلا يتوهم منها معنى آخر (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ولو هدم مسجد ضرار كما هدم النبي –صلى الله عليه وسلم- مسجد الضرار، أو أمر امرأة ـ حتى وإن كانت موثوقة ـ بعدم إلانة القول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، أو قطع شجرة أو هدم حجراً خوفاً من تبرك الناس به كما فعل عمر بشجرة الرضوان، أومنع من الحيل الربوية، ألن يوصف بالتشدد، واتخاذه لأكبر سد في العالم. 
بل لو تغير اجتهاده من وقت لآخر؛ لأنه أمعن النظر في المسألة مرة أخرى، كما تغير اجتهاد عمر بن الخطاب في مسألة الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم (المسألة اليمية أو الحمارية)، أو تغير اجتهاده بناء على تغير العلة التي بني عليه الحكم، كما منع عمر المسلمين عن القتال في البحر، لعدم خبرتهم به، ثم أقدموا عليه لما وجد في المسلمين ـ بعد عمر ـ من يستطيع القيام بذلك، لو تغير اجتهاده من أجل ذلك ألن يوصم بالتناقض. 
ومع ذلك فكل ما سبق وسائل شرعية لا يجوز لنا تركها؛ لأنه يوجد في الناس من يعيب ذلك، أو لأنه يوجد من يستخدمها استخداماً خاطئاً، أو يتخذها وسيلة لهواه، فقد يوجد من يريد تعطيل الحدود استناداً إلى عدم قتل النبي –صلى الله عليه وسلم- للمنافقين، وترك عمر لحد السرقة عام الرمادة، لكن ذلك لا يعني أن ننطلق إلى الجانب الآخر، فنحرم الاقتداء بالنبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر، وقد يوجد من يهدم المسجد؛ لأنه لا يوافق توجهه السياسي؛ ولأن المسجد لم يعد بوقاً له، لكن لا يعني ذلك عدم هدم مساجد الضرار، وقد يوجد من يريد إلغاء الولاء والبراء استناداً إلى ما سبق، لكن ذلك لا يعني أن نترك سنة النبي –صلى الله عليه وسلم- أو نظلم الكفار لكي لا نقع فيما وقع فيه. 
وكذلك يوجد من يمنع المرأة من الحقوق المشروعة ظناً منه أن في ذلك صوناً للمجتمع من الفساد، ولكن ذلك لا يعنى أن نجعل المرأة تعمل في كل مجال، وأن نترك الحبل على الغارب، لئلا نوصف بأننا متحجرون وكذلك لا يمنعنا ذلك من أن ندعو إلى إنصاف المرأة وإعطائها حقوقها لئلا نوصف بأننا عصرانيون. 

|1|2|


(1) وخذ مثالاً آخر لاستخدام سد الذرائع: عندما قننت بعض الدول العربية قانون الأحوال الشخصية وجعلت مستنده الشريعة الإسلامية وكان الغالب على الدول الإسلامية العمل بالمذهب الحنفي، وكانت بعض الأحكام المأخوذة من الفقه الحنفي لا تتناسب مع واقع الناس، فأخذ واضعو قانون الأحوال الشخصية بعض الأحكام من المذاهب الأخرى، وكانوا يعللون سبب ترجيحهم للمذهب الآخر أحياناً بالمصالح أو سد الذرائع، ولئن كان ظاهراً تعليلهم ذلك بالمصالح فقد يخفى التعليل بسد الذرائع ولذلك أسوق لك مثالاً على ذلك: (لما كانت إباحة التعدد مشروطاً فيها شرعاً المقدرة على الانفاق على الزوجات جميعاً، وكان القانون قد أخذ بقول من قال بالتفريق لعدم الانفاق فقد منع المتزوج من الزواج بأخرى إذا كان لا يستطيع الإنفاق على زوجتيه على قاعدة (سد الذرائع)... ) انظر: شرح قانون الأحوال الشخصية للسباعي (1/16ـ19) 
(2) أعلام الموقعين (1/72وما بعدها) 
(3) أسباب الخلاف عموماً ألف فيها العلماء قديماً وحديثاً تآليف مفردة أو ضمن بعض مصنفاتهم، فممن تكلم فيها ابن السيد البطليوسي وابن رشد الحفيد وابن تيمية وابن جزي والدهلوي. 
ولكن مع ذلك لا أريد الكلام عن أسباب الخلاف وإنما أريد أن أشير إلى سبب اختلاف العلماء في المسألة مع اتفاقهم على مورد المسألة ـ الرأي أو الاستحسان مثلاً ـ ومع ذلك يقع الخلاف. 
(4) انظر: أصول الجصاص (4/223ـ226) والمعتمد لأبي الحسين البصري (2/838) وبذل النظر للأسمندي (647) والمستصفى (1/274ـ283) وشرح اللمع (2/969) والوصول إلى الأصول لابن بَرهان (2/322) وروضة الناظر (2/531ـ 536) والمحصول (2/561) وشرح تنقيح الفصول (355ـ356) 
(5) المستصفى (1/274) 
(6) شرح اللمع (2/970) 
(7) روضة الناظر (2/532) 
(8) قواطع الأدلة (4/514و520ـ521)

أضافة تعليق
آخر مقالات