مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2015/03/21 18:09
في ذكرى إلغاء الخلافة الإسلامية وزوال رمز وحدتنا السياسية: كيف أضرت هويات التجزئة بأصحابها؟

محمد شعبان صوان
يذكرني تشبث الأقلام المثقفة بدعم دولة التجزئة بعد الفوضى التي نتجت عن الصراعات التي أعقبت الثورات العربية،

والتدخلات الأجنبية التي صاحبتها، بما حدث في التاريخ الإسلامي عندما اتجهت الميول الفقهية السياسية نحو طاعة الحاكم وتحريم الخروج عليه مهما ارتكب من موبقات بحجة منع الفتن وإراقة الدماء، والمشكلة في الدعوات التغريبية المعاصرة لتثبيت الدولة القُطرية ودعمها أنها طالما انتقدت ميول السابقين في دعم الاستبداد وصورت أنفسها بصورة تباشير الحرية والديمقراطية والوحدة والعدالة الاجتماعية، وها هي اليوم تتناسى عقوداً من الخيبات التي سببتها الدولة الوطنية في جميع الأصعدة وتدعو إلى عودة أشكال سياسية مهترئة جنت على الأمة باستبدادها وتبعيتها وخيانتها وطبقيتها وفرقتها وتشرذمها وصراعاتها البينية ولم تؤد إلى أي تقدم بل كانت وبالاً حتى على مواطنيها، وإذا كانت الثورات العربية قد فشلت فإن أحد أسباب ذلك هو تمسكها حتى الآن بصيغة التجزئة الاستعمارية التي لا يمكن أن تخرجنا من مآزقنا وقبضة الاستعمار على شئوننا ومقدراتنا، ولا يكون الحل الذي ينشده المريض هو العودة إلى المرض واستمراره بحجة فشل أحد الأدوية، وتكون دعوة التشبث بالحالة القُطرية التي ثرنا على خيباتها كوضع زوجة الفلاح التي ملّت من غرفتها الضيقة وطالبت ببيت أفضل فقام زوجها بإيواء حيواناته في الغرفة بحجة مختلقة، فنسيت زوجته مطالبها السابقة وأصبح حلمها أن تخرج الحيوانات من غرفتها، ولما تم ذلك بعد سجال طويل أحست بالرضا وقبلت نفس الوضع المهترئ الذي ثارت عليه فيما سبق.

 

 

 

* الفرق بين انقسامات الأمس الإسلامي وانقسامات اليوم الاستعمارية

 

 

 

إن تشبيه الانقسامات السياسية في تاريخ الإسلام بالتجزئة الاستعمارية فيه كثير من التجني وعدم الموضوعية الذي تكشفه حقيقة أن المسلم أو مواطنه أينما ذهب في تلك العصور داخل دار الإسلام لم يكن يُعد أجنبياً، كما كانت الخلافة هي المركز الذي يجمع المسلمين حتى في عصور الضعف وكثرة السلاطين، وعن الفترة التي أعقبت سقوط بغداد على أيدي المغول سنة 656/ 1258 م يقول المستشرق برنارد لويس: "رغم زوال الخلافة وتجزئة عالم الإسلام إلى عدد كبير من الكيانات السياسية المستقلة المنفصلة والمتحاربة في كثير من الأحيان، فقد بقي الشعور بالهوية والتماسك، وبأن المسلمين أمة واحدة من دون الناس، قوياً وفعالاً، ورغم أن هذا الشعور كان أضعف من أن يحفظ الوحدة السياسية للعالم الإسلامي، فقد كان قوياً إلى الحد الذي يكفي لكي يحول لمدة طويلة جداً دون ظهور كيانات سياسية دائمة ومستقرة"،[1] وزيادة على كون تعدد الحكام لم يؤد إلى انقسام دار الإسلام، فقد أدى الشعور بالوحدة إلى الميل دائماً نحو التوحد بعد الانقسام، وفي ذلك يقول المؤرخ السوفييتي نيقولاي إيفانوف: "لكن وجود عدد كبير نسبياً من الحكام المسلمين الأقوياء المستقلين الذين أضفوا على أنفسهم ألقاب الإمامة والخلافة، لم يعن قط غياب وحدة الأمة الإسلامية عن عقول المسلمين، فبغض النظر عن الحدود السياسية، كانت دار الإسلام تعد أيضاً موحدة على الدوام... فكان لا بد من أن يكون لهذه الأمة الإسلامية الموحدة قائد ومرشد واحد يعد فوق كل الحكام المسلمين وأكثرهم نفوذاً"،[2] وكان ظهور العثمانيين في الشرق في بداية القرن السادس عشر بعد تجارب المماليك والأيوبيين هو الذي حل اختبار القوة الذي طرحته التحديات آنذاك على الأمة الإسلامية.

 

ولما جاء العثمانيون أصبح خلفاؤهم يتولون "المسئولية العليا للسلطة الزمنية للمسلمين إلى حدود بعيدة كالسنغال وسومطرة"[3] كما يقول المؤرخ نيكولاس دومانيس، وذلك رغم أن الحدود العثمانية السياسية لم تصل إلى هذه البلاد البعيدة، ويؤكد المؤرخ يلماز أوزتونا ذلك بالقول إن النفوذ العثماني وصل إندونيسيا وإفريقيا الوسطى وأوروبا الوسطى، و"كان البادشاه في الربع الثالث من القرن 19 يصادق على حكم سلطان بورنو في نيجيريا، وسلطان دارفور في السودان على حدود تشاد، وعلى كثير أمثالهم. تقلد أمين باشا الولاية في أوغندا التي كانت تسمى إيالة خط الاستواء مدة 16 سنة (1876/5/7- 1892/10/23)".[4]

 

ولكن لما حل بنا الاستعمار الغربي وضع أسواراً عالية بين أجزاء أمتنا وفصل بينها بفواصل عديدة، فتعذر التنقل والتكامل ونشأت هويات فرعية متناقضة ومتعادية ترى مصالحها على حساب مصالح إخوتها وأمتها وكان ذلك في حد ذاته إضراراً بمصالحها لكون العصي تأبى إذا اجتمعن تكسراً وإذا تفرقت تكسرت آحاداً، ورأينا تطبيق ذلك في كل المجالات: السياسية حيث تفرقت الأصوات وهانت في المجتمع الدولي فضاعت الحقوق وبيعت الشعوب، والاقتصادية حيث استنكفت ثروات البعض الثري عن البعض الفقير وفضلت الاستغلال الغربي على الاستثمار الشرقي، والاجتماعية حيث فضل المحتاج خبرة الأجنبي الاستغلالية على مساعدة الأخ التضامنية، وربما فضل الحريص منهم جداً على دمائه الزرقاء من الاختلاط بدماء أخيه أن يستعين بغريب يستغله على الاستعانة بخبرة أخيه التي أنفق هو على تعليمها وتنشئتها وتدريبها في أرضه ثم صار يراها "أجنبية" ويفضل إبعادها من دولته بدل الاستعانة بثمار جهده هو فيها، مفضلاً عليها الغرباء الطامعين فجلب على نفسه عداوة الجميع، ونشبت حروب طاحنة في الصراع على خطوط الحدود الوهمية المضحكة في مرجعيتها أحياناً، وهي خطوط رسمها الاستعمار وكان الفوز بتعديلها بما يسمح به الإبهام الواسع الذي تركها المستعمِرون عليه يعني الكثير بالنسبة لهذه الدويلات، فربما أضافت أمتار هنا أو هناك ثروة لا تقدر بثمن من الموارد أو المواقع أو الأراضي أو المنافذ، وربما كان الأمر مجرد قهر وإثبات وجود أمام الأخ والجار بدعم مباشر من مركز استعماري أو قوة كبرى، المهم أن هذه الحدود التي نشأت الهويات الحديثة حولها جلبت في كثير من الأحيان الضرر على أصحابها ذاتهم وليس على جيرانهم وإخوتهم وأمتهم فحسب، ومن أمثلة ذلك:

 

 

 

* فلسطين

 

 

 

كانت فلسطين في ظل آخر أيام الخلافة العثمانية مقسمة بين سنجق القدس وولاية بيروت، ويقول مؤرخون إنه كانت هناك روابط ربطت الفلسطينيين وأعطتهم شخصية متميزة إلا أن ذلك كان في إطار الاندماج في بقية العرب فلم يكن شعب فلسطين يعد نفسه منفصلاً عنهم بالإضافة إلى انتمائه السياسي لعاصمة الخلافة،[5] وكان ابتداع الخريطة الفلسطينية الحالية وخلق الهوية الفلسطينية المستقلة عن جوارها السوري من مستلزمات منح هذه الأرض للوطن القومي اليهودي الذي فصّلت بريطانيا بالاتفاق مع فرنسا هذه الخريطة وفق مصالحه كما أملتها مصالحها الإمبراطورية يومئذ، وأثبتت الأيام أن هذه الخريطة ما رسمت إلا لتسلم للصهاينة وتصبح كياناً صهيونياً استعمارياً ولم يستفد أهلها من هويتهم المستقلة سوى أنها أصبحت مبرراً لحصر القضية داخل حدودهم ولتخلي إخوانهم عنها بصفتها صراعاً بين الفلسطينيين وحدهم والإسرائيليين ولا شأن لمن هم خارج هذه الحدود الفلسطينية بهذا الصراع، وجل ما يتفضل به بقية العرب والمسلمين - الذين استبعدوا رسمياً من المواجهة بحكم هوياتهم الإقليمية المغايرة- هو القبول بما يقبل به الفلسطينيون الذين أصبح لهم كيان خاص، ولكنه ضعيف أيضاً لا يقدر وحده على مواجهة الدعم الغربي الشامل والعلني للصهاينة في الوقت الذي يُنكر فيه على الفلسطيني تلقي بندقية من أخيه، وأصبح القبول بما يقبل به الفلسطيني مبرراً تحت شعارات عدم التدخل في الشئون الداخلية والقرار الوطني المستقل، ولكن هذا القبول ترجم عملياً بالقبول فقط باستسلام الفلسطينيين للصهاينة إذ عندما يقومون بالمقاومة والمواجهة لا يُقبل منهم ذلك ويتم التآمر عليهم ومشاركة الصهاينة في حربهم والعدوان على بلادهم، ويُدفعون إلى عملية السلام الفاشلة دفعاً ويُتركون فرادى لمصيرهم لو أصروا على القتال، وبهذا تحولت الهوية المستقلة المصابة بالعجز البنيوي إلى تبرير للاستسلام وضياع حقنا في فلسطين بل ومشاركة الأعداء في الحرب ضدها.

 

وقد ظهرت أعراض الأضرار الاستعمارية على أهل فلسطين منذ بداية نشوء كيانهم الذي فَصَلهم الاستعمار به عن جوارهم ورسم له حدوداً فاصلة بينهم وبين إخوتهم، فبعد انسحاب العثمانيين من بلاد الشام عقب الحرب الكبرى الأولى، ومع أن الانتداب ادعى الوصاية على الشعوب لتهيئتها لحكم أنفسها، فقد أحجمت سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين عن إقامة حياة ديمقراطية فيها خوفاً من أن تعرقل سياسة الوطن القومي الذي يرفضه شعب فلسطين، وكانت تتحايل على ثورات شعب فلسطين ومطالبه بتقديم عروض بإقامة مجالس مقيدة بصك الانتداب وسلطة المندوب السامي وإرادة ملك بريطانيا، وتحاول فرض المساواة في الأصوات بين الأغلبية العربية والأقلية اليهودية، وكان الشعب يرفض هذه العروض الالتفافية لأن من شأنها تكريس ما يرفضه ويصر على طلب حكومة مسئولة أمام مجلس نيابي وفق النسبة العددية وهو ما يمكن أن يعصف بمشروع الوطن القومي إذا مثل السكان وإرادتهم تمثيلاً حقيقياً حين كان العرب ما يزالون أغلبية ساحقة في وطنهم، ومن الطريف في هذا المقام أن بريطانيا الديمقراطية أنكرت التمثيل على شعب فلسطين في حين تمتع الفلسطينيون بهذا الحق في ظل "الاستبداد العثماني" فكان لهم نواب في مجلس المبعوثان في الآستانة،[6] وهو ما طرحوه بوضوح أمام لجنة شو البريطانية التي بحثت أسباب اضطرابات سنة 1929 التي ذكرت أهل فلسطين بمقارنة عثمانية أخرى عندما كانت مقدساتهم تحظى بالحرمة ولا يجرؤ اليهود على انتهاكها كما فعلوا في حادث البراق في تلك السنة،[7] ثم استمرت المقارنات فأفادت اللجنة التنفيذية العربية في ردها على الكتاب الأبيض سنة 1930 أن البلاد المقدسة لم تكن تعرف الاضطرابات قبل الاحتلال البريطاني،[8] كما ذكرت مذكرة اللجنة العربية العليا للجنة بيل سنة 1936 أن العرب كانوا يمثلون قطاعاً هاماً في الدولة العثمانية وقارنت بين وضعهم الممتاز فيها ووضعهم المتردد تحت حكم الانتداب البريطاني،[9] وشارك المسيحيون أيضا في هذه المقارنة فقرروا أمام اللجنة المذكورة أنهم كانوا يتمتعون بامتيازات تحت حكم العثمانيين فألغتها حكومة الانتداب وأنهم كانوا ممثلين في المحاكم والمجالس البلدية والإدارية فتضاءل عددهم وأصبحوا على وشك الإقصاء النهائي،[10] وغير ذلك أيضاً من المقارنات الحزينة عن التطور نحو الأسوأ وقد اعترفت اللجنة في تقريرها أن العداء بين العرب واليهود لم يبدأ إلا مع الانتداب وأن العرب عاشوا في فلسطين عصوراً طويلة مجردين من كراهية اليهود.[11]

 

ومن الغريب أن الحكم البريطاني عندما دمر النموذج العثماني في التعايش الذي استمر قروناً، لم يبن محله النموذج العلماني السائد في دول الغرب، بل أحل محله النموذج الطائفي الذي مارسه في بقية المستعمرات كالهند والعراق ومصر وبقية إفريقيا بالإضافة إلى ما طبقته فرنسا في مستعمراتها كسوريا ولبنان، مما نتج عنه في فلسطين تهميش الأقلية المسيحية التي كانت مندمجة بشدة في عملية بناء مجتمع مدني تعددي حديث شاركت قياداته المسيحية بقوة في مقاومة المشروع الصهيوني مما جعلها تربك وتهدد القيادة البريطانية التي رأت فيها عدواً للوجود الاستعماري فسعت للفصل بين المسلمين والمسيحيين على أسس سياسية وقانونية ونجحت في دق إسفين بينهم وغرس العداء على طريقة القرون الوسطى بين المسلمين واليهود في نظام كان الهدف منه هو تحقيق المصالح الاستعمارية المباشرة في إفساح مكان في حكم البلاد للمستوطنين الصهاينة مع تثبيط النشاط القومي العلماني التعددي في الطبقة الوسطى مما كرس الطائفية السياسية ومنع العمل المسيحي وهمش المسيحيين بجعلهم مجرد أقلية دينية سعت فيما بعد لخيارات مُرة زادت من عزلتها وأدت في النهاية إلى خيار الهجرة من فلسطين واختفاء المسيحيين من واجهة الأحداث سنة 1948 بعدما بدأت مكانتهم مركزية في بداية الحكم البريطاني سنة 1917،[12] وبهذا لم يصنع الغرب في بلادنا نموذجاً على شاكلته التي يراها صواباً، وفضل إلقاء قمامته الطائفية لتحكم بيننا، ويلاحظ الدكتور وليد الخالدي أنه في أثناء كابوس الحكم البريطاني الطويل (1917- 1947) "عطل البلد الديمقراطي الرئيسي في الغرب (أي بريطانيا)، الديمقراطية في فلسطين، من أجل أن يسهل، بقوة الحراب، وضع الأساس للقوة الصهيونية في البلد في مواجهة المقاومة الفلسطينية المتنامية".[13]

 

ولكل هذا لم يكن من الغريب أن يقوم أهل فلسطين منذ البداية ممثلين باللجنة التنفيذية العربية ورئيسها موسى كاظم باشا الحسيني، بتبليغ وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرتشل لدى زيارته لفلسطين سنة 1921 بإحساسهم بالفروق الكبيرة التي طرأت على حياتهم، وتحسرهم "على زوال أيام العثمانيين حين كانوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم عن طريق برلمان، مضيفين أن المسئول التركي الوحيد بين ظهرانيهم كان الوالي أو المتصرف الذي كان له مجلسه الاستشاري المنتخب من أهالي البلد لمساعدته، وتابعوا، مقارنين ذلك بحالتهم الراهنة: لقد تغير كل هذا الآن، فليس لنا صوت ولا رأي في حكومة البلد، وليس لنا برلمان تمثيلي، والسكرتير القانوني ومعه عدد قليل برئاسته هما مصدر قوانيننا ونظامنا القانوني، والتفت أعضاء اللجنة أيضاً إلى أنه على الرغم من أن صك الانتداب كان "طافحاً" بالتأكيدات أن "حقوقهم المدنية والدينية ستُراعى"، فإن ذلك، في رأيهم، لا يمنحهم شيئاً جديداً، وأضافوا أن الأتراك لم يحدث أن تدخلوا يوماً في الممارسات الدينية للطوائف الأخرى، بل إنهم لم يألوا جهداً في حماية ممارسة هذه الأديان... وعلاوة على ذلك، كان جميع القضاة في المحاكم، وكذلك أعضاء الهيئة القضائية تحت حكم الأتراك من أهل البلد، وكان يمكن لأي مواطن أن يبلغ أسمى مركز قانوني"، فرد تشرتشل على كل حجج العرب رداً مخيباً للآمال إن لم يكن مهيناً بصورة سافرة، إذ أنه بلغ الزعماء العرب بصراحة جافية أن سياسة بريطانيا لن تتغير، وليس من سلطته تغييرها، وحتى لو كان ذلك في قدرته، فهو ليس راغباً في ذلك".[14]

 

وقد أدرك أهل فلسطين أن التحدي الذي يواجهونه أكبر من إمكاناتهم وحدهم فظلوا مصرين على الوحدة مع سوريا الكبرى وعلى كون فلسطين ليست سوى سوريا الجنوبية، إلى أن تقاسمت بريطانيا وفرنسا بلاد الشام وأصبحت المطالبة بالوحدة متعذرة حتى لو كان ذلك تحت انتداب واحد،[15] ومنهم بل من المتنفذين فيهم من طالب بعودة الأتراك على شكل انتداب أو بالاستعانة بالجيش التركي المنتصر[16] وذلك قبل الانقلاب الكمالي على الخلافة الإسلامية، ومنهم من تطلع إلى عون الحركة الوهابية في الجزيرة العربية،[17] المهم أنهم أدركوا آنذاك جناية التجزئة وهويتها الانفصالية على قدرتهم على مواجهة التحديات الدولية وحدهم.

 

 

 

* مصر

 

 

 

وكانت الرغبة في بسط الحماية الفرنسية على مصر هي السر في تشجيع الفرنسيين ولاة مصر على التحرر من السلطة العثمانية،[18] كما دعمت بريطانيا الميول الاستقلالية لورثة محمد علي ابتداء من عباس باشا الذي ساندته ضد تطبيق القوانين العثمانية في مصر[19]بعد أن استفادت من المركزية العثمانية نفسها في تحطيم تجربة جده النهضوية التي استفادت منها بدورها مع بقية أوروبا في "زعزعة أركان الدولة العثمانية وفي رفع مستوى تدخلها المباشر في شئون السلطان العثماني"،[20] ومن العجيب أن عباس باشا "كان يحتقر جهاراً الثقافة الغربية ويمقت الأوروبيين، إلا أن هذا لم يعفه عن الخضوع إلى التعليمات الواردة من إنكلترا"،[21] التي مهدت الطريق بكل ذلك لاحتلال مصر عسكرياً مستفيدة بصورة خاصة من النزعة الاستقلالية عند الخديو إسماعيل فيما بعد عباس بالإضافة إلى نزعته التغريبية التي نفرته من العثمانيين وقربته من أوروبا وجعلته يقوم ﺒ"إصلاحات" تغريبية أوقعته في فخ الاستعباد المالي الأوروبي قبل الاحتلال، وكان استقلال مصر عن دولة الخلافة والذي احتفى به الخديو بتأييد من أوروبا هو الذي جعلها تواجه الأطماع الأوروبية وحيدة ومن ثم تقع في فخ الاحتلال وهو مصير تجنبته الدولة العثمانية بسبب وزنها الدولي حتى بعد إفلاسها المالي ووقوعها تحت نفس الظرف الاقتصادي الذي وقعت فيه مصر، وبعد وقوع الاحتلال حوّل مصر إلى زراعة المحصول الواحد (القطن) لتلبية الحاجات الصناعية البريطانية بدل زراعة القوت التي كانت تكفي المصريين ذاتياً، وكان هذا الإجراء البريطاني تمهيداً "لجملة المشكلات التي كانت مصر ستبتلى بها في القرن العشرين"[22] وفقاً للمؤرخ الاقتصادي إريك وولف.

 

ولما تأزمت العلاقات العثمانية البريطانية بسبب رغبة الاحتلال في ضم سيناء إلى مصر والرغبة العثمانية المناقضة وقف شعب مصر خلف تيار الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل باشا إلى جانب الموقف العثماني،[23] وفضل أن تخرج سيناء من الحدود المصرية وهي حرة على أن تدخل في دائرة الاحتلال البريطاني مع مصر المبتلاة بالإنجليز، وهو موقف منسجم مع الهوية الإسلامية الجامعة التي كان المصريون يفكرون بها ولا يفرقون بين أقطار الإسلام ويرغبون في النأي عن هيمنة الاحتلال ويفضلون الأخ المسلم على المحتل الأجنبي، وهذا ما دعا أنصار الوطنية المعاصرة لاستنكاره بحجة الانتصار للهوية المصرية، ولو كانت خدعة بريطانية للهيمنة على سيناء.

 

فتصوير المشكلة بأنها تناقض بين مصالح عثمانية ومصرية واستبعاد البعد الاحتلالي البريطاني منها، كما حلا للتغريب رؤية المشهد،[24] قصور واضح في فهم الواقع يؤدي إلى الاصطفاف البائس مع المحتل وتخيل وجود جبهة مصرية- بريطانية موحدة، وتصوير المحتل بصورة المدافع عمن يحتل هو أرضهم ويسبب المشكلة الرئيسة لهم،[25] كما يؤدي إلى القبول بتسليم البلاد إلى المحتلين وتصور الخطر آتياً من الأشقاء، وهذا ما حدث عندما قام الألماني بول فريدمان بمحاولة استيطان يهودي في شمال غرب الجزيرة العربية وهي منطقة كانت تحت السيادة المصرية (1891- 1892) فلجأ عربان المنطقة إلى الحكومة المصرية لتساعدهم على التخلص من هؤلاء الغرباء المزعجين ولكنهم رجعوا دون أن يستمع إليهم أحد من رجال الحكومة فلجئوا إلى الدولة العثمانية حيث أصدر والي الحجاز أمره لأحد الضباط بمعالجة الوضع واحتلال قلعة المويلح في تلك المنطقة، ويعلق الدكتور صبري أحمد العدل على المشهد بقوله: "ولكن الغريب في الأمر أن ممثلي الإدارة المصرية في سيناء، لم يثرهم تواجد فريدمان، وإنما اختراق والي الحجاز الأراضي المصرية حيث أرسل سعد أفندي رفعت، قومندان القلاع الحجازية برسالة إلى سردارية الجيش المصري يوضح بها "الكيفية التي حضر بها محافظ الوجه بقصد الاستيلاء على قلعتي المويلح وضبا التابعتين للحكومة المصرية"، ومحاولته منع هذا الاستيلاء، ومنع انتهاك السيادة المصرية"، ثم تخلت بريطانيا عن دعم مشروع فريدمان "لتجنب الاصطدام مع الدولة العثمانية"،[26] وبهذا يتضح عوار المنطق المتستر بالمصالح الوطنية الضيقة ولو كانت بالاتفاق مع المحتلين ضد مصالح الأمة الكلية التي هي الوحيدة الكفيلة بحراسة الجميع.

 

كما تؤدي رؤية التاريخ من هذه الزاوية إلى نظرة غير تاريخية تسقط الحاضر الوطني التغريبي على الماضي حين كان الشعور إسلامياً ومن ثم كان المسلم يفضل أن يكون وطنه تحت سلطة خليفة المسلمين على أن يكون تحت احتلال الأجنبي، وإن موقف الدولة العثمانية من مشاريع الاستيطان اليهودي في سيناء يؤكد أن همها لم يكن اقتطاع الأراضي المصرية بل استبعاد أخطار التدخلات الأجنبية، ولهذا احتمت الحكومة المصرية بالموقف العثماني عندما رفضت مشروع هرتزل للاستيطان اليهودي.[27]

 

ولما قامت الحرب الكبرى الأولى سنة 1914 قامت بريطانيا بإعلان الحماية على مصر رسمياً وقطعت علاقاتها الاسمية حتى ذلك الوقت بالدولة العثمانية وسخرت جميع الإمكانات المصرية وأنهكتها مادياً ومعنوياً في سبيل الحرب[28] التي لم يكن لمصر فيها ناقة ولا جمل، ومن ذلك أنها خلعت الخديو عباس حلمي الذي شاكس المحتلين ونصبت عمه حسين كامل سلطاناً على مصر ليناوئ ويقارع بهذا اللقب منصب السلطنة العثمانية التي كانت في حرب مع الحلفاء، وقد عبر المصريون عن رفضهم لوضع السلطان الألعوبة، الذي يستمد سلطته من الإنجليز بعدما كان الخديو يستمدها من الخليفة،[29] بمحاولة اغتياله مرتين بالإضافة إلى محاولة اغتيال رئيس وزرائه وأحد وزرائه أيضاً،[30] كما أطلقوا على كثير من مواليد سنوات الحرب أسماء الزعماء الأتراك أنور وجمال وطلعت (وكان من هؤلاء المواليد رئيسا مصر فيما بعد وشقيق أحدهما)، ومن الطريف أن منصب السلطان المصري هذا الذي أعلنه الإنجليز منحوه صلاحيات أقل من صلاحيات منصب الخديو،[31] رغم التفخيم اللفظي، وهي سمة لازمت دول الاستقلال والتجزئة التي أصبحت ألقاب حكامها ألقاب مملكة في غير موضعها كالقط يحكي انتفاخاً صولة الأسد، كما يقول الشاعر ابن عمار الأندلسي، وقد رفض ابن السلطان حسين أن يخلف والده بعد وفاته،[32] وخلاصة الأمر أن ترفيع مصر إلى مقام السلطنة كان غطاء لاحتلالها وتسخيرها لحاجات بريطانيا الحربية، ولهذا وجدنا شعب مصر للمرة الثانية لا تبهره الإجراءات البريطانية ولا تؤدي إلى انخداعه بالمكانة الوهمية التي أسبغها الاحتلال عليها باسم الوطنية، وذلك لكونها مضادة لهويته الإسلامية الجامعة التي تتضمن مصالحه الحقيقية في الوحدة والاستقلال عن الاستعمار، وفضل الوقوف إلى جانب الخلافة العثمانية على تأييد سلطنة مصرية خاضعة للاحتلال، ولما انتهت الحاجة منها ألغيت هذه السلطنة في نفس العام الذي ألغيت فيه السلطنة العثمانية (1922) لتقوم بدلاً منها المملكة المصرية غطاء لشكل جديد من الهيمنة البريطانية تحت عنوان مزيف هو الاستقلال المتحفظ عليه والذي جعل مصر مرة أخرى في الحرب الكبرى الثانية تسخّر كل طاقاتها لأجل المجهود الحربي البريطاني،[33] وبهذا كانت المصالح الاستعمارية وراء تكوين الكيان المصري المستقل عن محيطه الإسلامي، وقد أضر هذا الإجراء بأهل مصر ذاتها من عدة جوانب ووضع مواردها في خدمة الأجانب، ومن صور هذا الاستغلال المادي أنه "بمجرد أن اندلعت الحرب (الكبرى الأولى) وقع الجزء الأكبر من عبء دعم مصر للبريطانيين على الطبقة العاملة، صودرت المحاصيل لدعم المجهود الحربي، وجُند الفلاحون في فرق عمل تزود الجبهة الغربية بالدعم اللوجستي، وأدى التضخم ونقص البضائع إلى انخفاض مستوى معيشة جميع فئات الشعب، وصار كثير من المصريين في حالة عوز"،[34] ويجب أن نتذكر أن هذه الحرب كانت حرب بريطانيا التي أعلنت أنها تتحمل أعباءها على عاتقها ولا تسعى لالتماس معونة مصر،[35] ولم تكن لمصر بها أي مصلحة بل لقد أُجبر المصريون على قتال إخوتهم المسلمين، كما سيق أبناء المستعمرات البعيدة لسفك دمائهم في سبيل الأمجاد الاستعمارية.

 

 

 

* تونس

 

 

 

وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تدعم التغريب المركزي في الدولة العثمانية، شجعت كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا الباي التونسي مادياً لدفعه بعيداً عن المركز العثماني،[36]ودافعت فرنسا عن فكرة استقلال تونس عن الدولة ممهدة الطريق لاحتلالها العسكري بعد إصلاحات تغريبية قام بها الباي بتشجيع أوروبي مهد الطريق للاستعباد المالي الذي استدعى الاحتلال الفرنسي،[37] وسنجد الدفاع عن النزعات الاستقلالية عن الجسم الأكبر نموذجاً متكرراً في السياسة الاستعمارية يخفي وراءه رغبة جامحة في السيطرة على الأقاليم التي تستقل عن هذا الكيان الواسع.

 

اتخذ حسين باي الثاني علماً مميزاً عن العلم العثماني (1827) ليؤكد استقلاله عن الدولة العثمانية فكانت النتيجة أن استفرد الفرنسيون بتونس واحتلوها وأضافوا علم فرنسا إلى علمها طيلة مدة الاحتلال (1881- 1956)، وكان كل ما وقع على تونس من أضرار الحماية الفرنسية نتيجة هذا الميل الاستقلالي.

 

 

 

* مفارقة التبعية والاستقلال في ولايات شمال إفريقيا العثمانية

 

 

 

في ظل (التبعية الرسمية) للخلافة العثمانية تمتعت ولايات شمال إفريقيا (باستقلال فعلي) وقوة إلى درجة فرض أمرها على الغرب الذي كان يدفع لها الأتاوة صاغراً، وكان يوسط السلطان العثماني لتهدئة ولاياته التي لا تلتزم أحياناً بتعليماته، أما في ظل (الاستقلال الرسمي) الذي أنتج كثيراً من الفخامة اللفظية والهويات المعتزة في غير موضعها فقد فرض الغرب على جميع دول التجزئة (التبعية الفعلية) له في جميع شئون الحياة.

 

النتيجة: أن التبعية الرسمية لدولة الوحدة الكبرى أفضل من الاستقلال الرسمي والهويات المتكاثرة كالفطر لدول التجزئة المجهرية.

 

 

 

* لبنان

 

 

 

رعت أوروبا في زمن ضعف الدولة العثمانية إقامة إقليم خاص بجبل لبنان في أعقاب المذابح التي تعرض لها المسيحيون على أيدي الدروز في سنة 1860، ولكن الحل الأوروبي لم يكن حلاً، وفي ذلك يقول المؤرخ يوجين روجان في كتابه العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر: "كانت الحدود الجغرافية لإقليم جبل لبنان المتمتع بالحكم الذاتي هي بعض أكبر عيوبه، فمساحة الإقليم صغيرة للغاية وأرضه مجدبة... واضطر كثير من اللبنانيين أثناء السنوات الأخيرة من الحكم العثماني إلى الرحيل عن وطنهم بحثاً عن فرص اقتصادية أفضل، فبين عامي 1900 و1914 رحل ما يقدر بنحو 100 ألف لبناني، أي نحو ربع إجمالي عدد السكان، عن جبل لبنان..."، وبهذا كانت الخطوة الأولى في تكوين الكيان اللبناني على يد الاستعمار ضد مصلحة أهل لبنان، فتطلع مجلس إدارة الإقليم الذي يعين أعضاؤه من الطوائف المتنوعة حسب أحجامها إلى فرنسا "التي طالما كانت راعياً ونصيراً لهم" للحصول على بلد أكبر "وعلاوة على ذلك فازت فرنسا بدعم وولاء طائفة المسيحيين الموارنة... (و) لعل لبنان، مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، كان البلد الوحيد في العالم الذي يضم جمهوراً كبيراً من المؤيدين النشطين الذين يمارسون الضغوط للفوز بانتداب فرنسي على بلدهم" ولعلم شعب لبنان بأن فرنسا أيدت تكبير حجم الإقليم منذ إنشائه في ستينيات القرن التاسع عشر ذهب الوفد اللبناني إلى مؤتمر الصلح في باريس لعرض قضيته (1919) مدعواً من الحكومة الفرنسية"على عكس ما حدث مع دول عربية مزعجة أخرى مثل مصر وسوريا زُجرت أو استُبعدت لأن تطلعاتها القومية تعارضت مع الطموحات الإمبريالية السائدة في المؤتمر"، وكان الوفد اللبناني يسعى للحصول على المساعدة الفرنسية لتحقيق هدف الاستقلال بالنمو الاقتصادي والتنظيم السياسي "إلا أن الفرنسيين بدوا غير مستعدين لسماع إلا ما يريدون سماعه، وكانوا سعداء باستغلال الوفد اللبناني لإضفاء الشرعية على ادعاء حقهم في السيطرة على لبنان".[38]

 

كان هناك معارضة لفصل لبنان عن الشام بين كثير من المغتربين اللبنانيين في المهجر حتى مع طلبهم الانتداب الفرنسي على مجمل بلاد الشام، وكان هناك اتجاه ثالث في السياسة اللبنانية، بعد اتجاه الانفصال اللبناني واتجاه الوحدة الشامية المطالبين بالمساعدة الفرنسية، وذلك الاتجاه الثالث يتسم بمعاداة فرنسا "لم تكن لدى المسلمين السنة والمسيحيين الأرثوذكس اليونانيين في المدن الساحلية مثل طرابلس وبيروت وصيدا وصور أي رغبة في الانفصال عن التيار الرئيس للمجتمع السياسي السوري"، ورغم اعتراض مجلس إدارة الإقليم المؤيد لفرنسا على فكرة الوحدة السورية وطلبه استقلال لبنان والمعونة الفرنسية، فقد ازداد قلق القادة السياسيين من نوايا فرنسا، إذ توقعوا منها "أن تتصرف بدافع من الإيثار لا بدافع الحرص على مصالحها الإمبريالية"، ومع شروعها في فرض الانتداب على لبنان "بدأ السياسيون في جبل لبنان التشكك في الحكمة من التماس مساعدة فرنسا في بناء الدولة" ودعوا إلى الاتفاق مع سوريا نحو تفاهم مشترك فألقى الفرنسيون القبض على أعضاء المجلس الإداري اللبناني الذين استعدوا لعرض قضيتهم على مؤتمر الصلح (1920) واتهموهم "بالخيانة" لكونهم أرادوا الانضمام إلى سوريا وحلوا المجلس وقدموا أعضاءه للمحاكمة العسكرية، مما تسبب في "تنفير بعض أقوى مناصري فرنسا في لبنان... كان الفرنسيون يقوضون على نحو خطير قاعدة الولاء لهم في لبنان بأفعالهم الاستبدادية".[39]

 

ومع تكوين لبنان الكبير في 1920 في ظل المساعدة الفرنسية بدا أنه "كلما زادت مساعدات الفرنسيين تضاءل الاستقلال الذي تمتع به لبنان" وحل محل المجلس الإداري لجنة برئاسة فرنسي يتبع المندوب السامي الجنرال غورو، وفرضت فرنسا تكوين دولة مسيحية وزعت مناصبها وفق التقسيم الطائفي، وتقلصت نسبة المسيحيين في الكيان الجديد بعد إلحاق المدن الساحلية والأقاليم الشرقية ومُنحوا تمثيلاً لا يتناسب مع عددهم، وأعلن الفرنسيون عن انتخابات من جانب واحد أثارت حفيظة السياسيين وشعر بالغضب حتى أكثر اللبنانيين تأييداً لفرنسا، ولم يتقبل الفرنسيون أي تحد لمؤسساتهم "وأكدت الانتخابات نوايا فرنسا الرامية إلى حكم لبنان كمستعمرة لا مساعدتها على نيل الاستقلال، وأقنعت تلك الإجراءات بعض أقوى مؤيدي فرنسا بالانضمام إلى الصفوف المتزايدة للقوميين اللبنانيين الذين يناضلون ضد الحكم الفرنسي".[40]

 

وبعدما أعلن الفرنسيون عن إنهاء الانتداب استعد السياسيون اللبنانيون للاستقلال بالتوقيع على الميثاق الوطني (1943) "ووفق بنود هذا الميثاق يكون رئيس لبنان من الآن فصاعداً مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً، ورئيس البرلمان مسلماً شيعياً، أما المناصب الوزارية الهامة الأخرى فإنها توزع بين الدروز والمسيحيين الأرثوذكس وغيرها من الطوائف الدينية... (وقد) بدا أن الميثاق الوطني حل التوترات التي نشبت بين الطوائف اللبنانية المختلفة، وجعل لكل منها نصيباً في المؤسسات السياسية لبلدهم، غير أن الميثاق وطد نفس مبدأ "الطائفية" الذي أقامه الفرنسيون،... وقوض السياسة اللبنانية، ومنع البلاد من تحقيق تكامل حقيقي أصيل، وبهذا ترك الفرنسيون إرثاً من الانقسام ظل باقياً وقتاً طويلاً بعد رحيلهم عن لبنان"،[41] وبهذا كان الاستقلال اللبناني تكريساً للمشروع الفرنسي الذي أضر باللبنانيين ولكن هذه المرة ليس بأيدي الفرنسيين بل بأيدي "الوطنيين"، وكان هذا الحل الطائفي هو الباب الذي دخلت منه الكوارث على لبنان فيما بعد.

 

 

 

الخلاصة اللبنانية: 1- أدى تكوين متصرفية جبل لبنان في ستينيات القرن التاسع عشر بدعوى حماية المسيحيين إلى رحيل كثير من سكان الجبل عنه وغربتهم في أقطار الأرض البعيدة بسبب قلة إمكاناته الاقتصادية وهو عيب لم يعالجه تكوين لبنان الكبير، الذي كان هدفاً لتلافي العجز الاقتصادي للمتصرفية،[42] ويعيش اليوم ثلث أهله فقط (4 ملايين) داخله أما الثلثان (8 ملايين) فهم مغتربون عنه[43] إما بسبب وضعه الاقتصادي المتردي أو بسبب الحروب الطاحنة والسببان متصلان بنيوياً بتكوينه الاستعماري الضعيف بصفته السلبية المزدوجة: دولة تجزئة وكياناً طائفياً -2- أدى تكوين دولة لبنان الكبير بعد الحرب الكبرى الأولى إلى الاحتلال الفرنسي الذي نفّر أنصار ومحبي فرنسا منها -3- أدى الاستقلال بعد الحرب الكبرى الثانية إلى أن يتبنى الساسة اللبنانيون نفس الحل الاستعماري الطائفي الذي كان اللبنانيون يحاربونه فيما سبق، فأصبح "شرعياً" بعد زوال الاحتلال ودون الحاجة لقواته البغيضة، وليس خافياً أنه سبب كل الكوارث التي حلت بالبلد منذ ذلك الحين وأبرزها الحرب الأهلية منذ سنة 1975 والتي أتت على الأخضر واليابس -4- قامت فرنسا العلمانية التي ترفض التصنيفات الدينية بإلقاء قمامتها الطائفية على بلادنا وقطعت الطريق على تكوين كيان حديث في لبنان على الطريقة الغربية،[44] مما يؤكد أن الغرب يعاملنا بغير ما يرتضيه لنفسه -5- لم تؤد المراهنة على "المساعدة" الغربية إلا إلى تدهور أحوال المراهنين واستخدامهم بأيدي المستعمرين والتلاعب بهم وفق المصالح الاستعمارية.

 

 

 

* الكويت

 

 

 

بذل الإنجليز جهوداً كبيرة في الدفاع عن استقلال الكويت وإنشاء هوية خاصة بها بعيداً عن الدولة العثمانية وذلك ليمنعوا وصول سكة حديد بغداد إليها لأنها كانت ستهدد الهيمنة البريطانية على الخليج الذي يصلها بمستعمرتها الأثيرة في الهند، مع أن هذه السكة كانت ستحوّل الكويت إلى محطة نهائية لطريق تجاري عالمي يقطعه قطار الشرق السريع من برلين مروراً بعواصم أوروبا ثم اسطنبول فبغداد فالكويت مما كان سيمنح ميناء الكويت أهمية اقتصادية وتجارية كبيرة قبل ظهور النفط بعشرات السنين، فلا يصبح اقتصادها بعد ذلك معتمداً اعتماداً حصرياً على منتج واحد هو النفط، وقد قام الوفد الألماني الذي زار الكويت سنة 1900 لمسح المنطقة وتحديد المحطة النهائية لسكة الحديد بإغراء الشيخ مبارك لكسب تأييده للمشروع، فأخطرته البعثة "بأنها ستدفع له ثمناً باهظاً للأراضي التي ستشتريها أو تستأجرها، مؤكدة له أن الكويت ستصبح من المراكز التجارية المرموقة، وأنها قد تصبح “بومباي أخرى”، وأن إيراد الشيخ الخاص سوف يزداد، وسوف ترتفع قيمة الأرض في الكويت، وسوف تكون هناك فرص عمل متوافرة للجميع، وأن الملاحة سوف تزدهر لأن الناقلات البحرية الضخمة سوف تبحر إلى ميناء الكويت لتفريغ حمولاتها حتى تنقل بالقطار".[45]

 

وما يؤكد تلك الآمال ما جاء في تقرير مؤسسة ماكينزي الاستشارية لسنة 2008 عن الإصلاح الاقتصادي في الكويت: "التجارة من العراق وإليه عبر الكويت تصل قيمتها إلى 40 مليار دولار (سنوياً بحلول سنة 2020)، وحتى يكون ذلك لا بد من السكك الحديدية"، هذا ما ستصنعه سكة محدودة، مع العلم أن مجمل التجارة الكويتية بلغت حتى ذلك العام 70 مليار دولار (سنوياً)،[46] فما هي القيمة التي كانت التجارة الكويتية ستصل إليها لو أن الكويت أصبحت محطة نهائية لطريق عالمي كسكة تمتد عبر القارات من برلين إلى بغداد منذ مائة عام؟ وهو أمر تحاول العودة إليه اليوم ولو بصورة جزئية بواسطة حلم المركز المالي ومشاريع السكك الحديدية الإقليمية التي مازالت في عالم التخطيط، ولو تحقق منها شيء يوماً ما فإنه سيكون بالتأكيد دون ذلك الفردوس المفقود بدرجات عديدة، ومازالت بعض الأصوات الانعزالية المحتفية جداً بالاستقلاليات الوهمية تحذر من إحياء مشروع سكة حديد بغداد ولو كان مصغراً خوفاً على صيانة هوية التجزئة[47] التي تتضرر من المشاريع الكبرى.

 

المهم أن الشيخ مباركاً في ذلك الوقت كان مقيداً بالمعاهدة التي عقدها سنة 1899 مع بريطانيا وتعهد فيها بعدم منح أو تأجير أية قطعة أرض من بلاده دون موافقة الحكومة البريطانية، وكانت هذه الحكومة تعارض وصول السكة إلى ساحل الخليج، ولذلك كان رده على البعثة الألمانية هو عدم الاعتراف بالسيادة العثمانية على الكويت، ولكونه عربياً فإنه كبقية العرب يرفض "أن يجد الأجانب لأنفسهم موقع قدم في الأراضي العربية، وأن شيوخ العرب الآخرين لن يوافقوا على التنازل عن أماكن الكلأ لخط سكة حديد أجنبي"، وقال: "نحن بدو بسطاء، لا نزرع ولا نقيم البساتين، وليس لدينا أي مداخيل، فما لزوم هذا الخط الحديدي لنا وسط الصحراء"؟،[48] ومن الصعب تفهم كيف دعمت بريطانيا "المتحضرة" هذا التقويم المبسط لأهمية سكة عملاقة لولا تعمدها منع إفادة المنطقة، خدمة لمصالحها الذاتية التي تتعارض مع مصالح أمتنا، وفي ذلك يقول الأستاذ الدكتور عبد العزيز الشناوي: "ولا شك في أن الشيخ مبارك كان في هذا الموقف معتمداً على تأييد بريطانيا الحاسم له، فالتزم التزاماً دقيقاً بأحكام اتفاقيته المانعة مع بريطانيا، وكان قد تلقى تحذيراً من قائد السفينة البريطانية "ميلبوميني" بألا يتخذ أي إجراءات في شأن مطالب البعثة الألمانية قبل موافقة حكومة الهند عليها"، وأطلع السفير البريطاني في اسطنبول الحكومة العثمانية على نصوص اتفاقية 1899 وأبلغ السفير الألماني بأن"شيخ الكويت ليس حراً في أن يبيع لشركة سكة حديد الأناضول أو يؤجر لها أي جزء من أرض الكويت دون موافقة الحكومة البريطانية"، وفي 28 مايو/ أيار/ ماي 1901 اتصل الشيخ بالمقيم البريطاني في الخليج يرجوه أن تسارع بريطانيا بإعلان الحماية الدائمة والسافرة على الكويت، وهو ما رفضته الحكومة البريطانية حتى لا تجر المشاكل الدولية مع العثمانيين وغيرهم،[49] ولكنها قامت بعدة إجراءات لدعم نفوذها في الكويت مما شجع الشيخ مباركاً على مزيد من الاستقلال عن الدولة العثمانية، ويعلق الدكتور الشناوي على ذلك بالقول إنه"من الصعب القول بأن الشيخ مبارك كان يدفعه شعور قومي بالاستقلال، لأنه حين جاهر برفضه السيادة العثمانية على الكويت، ارتمى في أحضان بريطانيا وعقد معها الاتفاقية المانعة سنة 1899... ثم طالب مبارك إعلان الحماية البريطانية السافرة والدائمة على الكويت، ولم يشعر بشيء من المعاناة النفسية".[50]

 

فكان ذلك الاستقلال المحتفى به والهوية الجزئية التي أفشلت تحقيق مشروع سكة بغداد قبل قرن، بحجة الحفاظ على أعشاب مراعي الماشية من "إفساد" القطار، من مستلزمات المصالح الغربية التي فضلت تخلف الكويت آنذاك على حساب المصالح الحقيقية للسكان المحليين، وإن صورت السياسة عكس ذلك، فمصلحة بريطانيا في تعطيل الخط كانت واضحة وهي التي أملت عليها السياسة التي اتبعتها، إذ كانت تخشى وصول ألمانيا إلى الخليج، بوابة الهند والعراق البحرية، وحصولها بعد ذلك على قاعدة بحرية، مما يقضي على سيطرة بريطانيا المتفردة على الخليج واهتزاز نفوذها السياسي والتجاري في الهند وتضاؤل نفوذها في العراق وتهديد مركزها في قناة السويس التي ستقل أهميتها ويُسلب منها نقل المسافرين والبريد والبضائع الخفيفة فيقل دخل بريطانيا من أرباح أسهمها في القناة، وسيطر على أذهان ساسة بريطانيا واقتصادييها الاعتقاد بأن ألمانيا ستمد خط ملاحة من الكويت إلى بومباي لتحتكر التجارة والشحن ونقل المسافرين من الهند إلى الكويت ثم إلى المشرق العربي وأوروبا بالسكة الحديدية،[51] أما مصلحة الكويت فلم تتضح من تعطيل وصول الخط إليها إلا إذا كان كلأ المراعي يعد مصلحة حقيقية في نهوض الأمم، ومما سبق نرى أنه حتى الكيانات الصغيرة التي نعمت بالثروات الضخمة كان خيار التجزئة ضاراً بشعوبها وكان من الممكن أن تنعم بخير أكثر ازدهاراً ضمن خيار الوحدة الشاملة، ولكننا ادخرنا هذا الازدهار للمحتل الغربي فكان تقدم بريطانيا معتمداً على تخلف بلادنا مهما خدع ترف المظاهر الاستهلاكية المفرطة أعين النظار.

 

 

 

* العراق

 

 

 

يخبرنا التاريخ وفقاً لضرورة الطبيعة والجغرافيا أن منطقة الخليج كانت هي الممر البحري لبلاد ما بين النهرين، وفي العصر الإسلامي حين كانت بلاد المسلمين غير مقسمة بالحواجز العالية كانت سواحل الخليج العربية والفارسية هي الوسيط الذي يحصل العراق من خلاله على حاجاته المعيشية من بضائع شرق آسيا وشرق إفريقيا وكانت التجارة نشطة رغم الاختلافات المذهبية التي ولدت انقسامات سياسية والتي عصفت بالمنطقة وأدت إلى الانشقاق بين الخلافة العباسية في العراق والقرامطة في ساحل الخليج والإباضية في عُمان، ومع ذلك لم يكف الخليج عن كونه ممر الطرق التجارية من وإلى العراق.[52]

 

وفي العهد العثماني كان الساحل العربي للخليج ضمن دولة واحدة تلم معظم العالم العربي ومنه العراق، وسواء ارتبط الساحل إدارياً بالعراق أم كان ولاية إحسائية منفصلة فقد كانت الدولة واحدة لا تؤثر في تواصلها التصنيفات الإدارية كما لا تؤثر هذه التقسيمات على تواصل المحافظات المختلفة داخل الدولة الواحدة، وفي التقسيمات الإدارية العثمانية الأخيرة كان هذا الساحل العربي كله إلى عُمان تابعاً لولاية البصرة، وكان الخليج نفسه يُسمى خليج البصرة.

 

ولكن عندما حلت التجزئة التي افتعلها الاستعمار الغربي بالمنطقة بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب الكبرى الأولى، اختلقت بريطانيا الكيان العراقي بما يفصله عن منافذه البحرية الخليجية التي حرص الإنجليز على السيطرة عليها وعدم السماح لأي جهة حتى لو كانت من عملائها بالسيطرة على ثرواتها ومواقعها الحساسة، وكانت عملية فرض الهيمنة البريطانية على الكويت في سبيل المصالح الاستعمارية هي قطع الشريان الأخير الذي يمكن أن يعيش الكيان العراقي منه لو استمرت العلاقة التكافلية بين الطرفين وفقاً للخريطة العثمانية الأخيرة قبل سقوط الخلافة الإسلامية، وليس وفقاً لتبعية أي طرف لآخر حسب التصنيفات القُطرية.

 

ولكن المخطط البريطاني جعل من بلد كبير نسبيا كالعراق بلا سواحل بحرية مكافئة لحجمه، في الوقت الذي جعل الكويت الصغيرة كلها ساحلاً على البحر، وهو ما بذر بذور الخلاف والحسد والبغضاء والخوف بين الطرفين، وهو تناقض لم يكن له وجود فيما سبق عندما كان ساحل الخليج الغربي مفتوحاً لأبناء الدولة العثمانية كلها، وأصبح القبول بالهوية العراقية المستحدثة القائمة على الخريطة البريطانية التي تجوف العراق من منطقة الساحل، قبولاً بخنق هذا الكيان نفسه ومن يعيش عليه، فكانت هوية التجزئة بذلك هي الهوية الضارة بأهل هذا الإقليم، ومن هنا كانت المحاولات المستمرة التي قام بها طيف الأنظمة العراقية المختلفة للخروج من هذا القمقم الذي حشر الاستعمار العراق فيه، ويؤخذ على هذه المحاولات أنها انطلقت من نفس الهوية القُطرية العراقية التي فرضتها التجزئة الاستعمارية، لأن الهدف منها كان متواضعاً وهو تعديل حدود القطر العراقي فقط ولم تكن انطلاقات من هوية جامعة غير مرتبطة بأي قطر من أقطار التجزئة، ولم يقصد منها تكوين نواة الوحدة الشاملة التي تحطم جميع الأسوار الاستعمارية وتلغي جميع أكشاك الحراسة التي أقامها الاحتلال الغربي، ومن هنا لم تتخذ أبعاداً جماهيرية كاسحة ضد الهيمنة الغربية ونواطيرها، وهي محاولات كلفت بدورها هذا البلد المنكوب أنهاراً من الدماء وجبالاً من الخسائر تعلق جميعها برقبة الخطيئة الأصلية وهي التجزئة وهويتها الانفصالية.

 

وقد وافقت الكويت في السابق على حلحلة الحبل المربوط حول عنق العراق وذلك بتأجيره جزيرة وربة المهجورة والشاطئ البري المقابل لها إلا أنها تراجعت بضغوط بريطانية،[53]تماماً كما خنق الأمريكيون والإنجليز مبادرة الأمير سلطان بن عبد العزيز الداعية إلى منح العراق منفذاً على البحر وفقاً لكرم الأخوة العربية وذلك بعد اندلاع أزمة الخليج سنة 1990،[54] وهو ما كان سيوفر كثيراً جداً من الخسائر على جميع الأطراف العربية مما يجعل المراقب يلاحظ بلا شك دور الغرب الواضح في التلاعب بمصائر بلدان المنطقة خارج حدود مصالح أهلها، ويرى الدكتور مؤيد الونداني أن هذه القضية "ستستمر في المستقبل مادام العراق محروماً من الشاطئ البحري الذي تمتع به عبر تاريخه الطويل".[55]

 

 

 

* تفتيت الوحدات الجغرافية الكبرى واختلاق هويات أصغر وأضعف داخل الهوية الجغرافية الواحدة

 

 

 

إضافة للانقسام الذي زرعته التجزئة الاستعمارية في الدولة العثمانية التي كانت تجمع بلادنا في وحدة فأصبحت منقسمة على نفسها، وجدنا هذه التجزئة تفتت الوحدات الجغرافية الأصغر وتجعل منها كيانات متعددة ومتعادية، فقد بنيت الهوية السورية المعاصرة على فصل لبنان وفلسطين والأردن عن سوريا الكبرى، فأصبحت الحواجز تفصل بين أبناء الوحدة الجغرافية الواحدة وتضع السلاح فيما بينهم، وهذا الانفصال قد أضر بالكيان السوري إذ فصل عنه هذه الأراضي الواسعة وجعل له هوية تختلف عن هويات هذه الفروع وعن الهوية السورية الكبرى.

 

وكذلك القول في الصومال الذي كان يضم مساحة واسعة قام المستعمرون الأوروبيون (البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون) باقتسامها واختلاق هوية صومالية مصغرة تقوم على استبعاد الأجزاء الواقعة في جيبوتي (الصومال الفرنسي) وأوغادين (في أثيوبيا) والشريط الشمالي الشرقي في كينيا، ولم تعترف الدولة العثمانية بكل عمليات الاحتلال الأجنبي التي قسمت الصومال إلى أن تنازل النظام الكمالي عن الأملاك غير التركية للدولة في معاهدة لوزان سنة 1923.[56]

 

ونفس الوضع ينطبق على وادي النيل الذي أصر الاستعمار البريطاني على فصل جزئيه المصري والسوداني عن بعضهما البعض، ورغم أن حكم محمد علي وسلالته للسودان لم يكن حكماً نظيفاً، إذ كان الاستغلال هو دافعه، فإن الحل لم يكن بالتجزئة والتقسيم كما شاهدنا اليوم أن مشاكل الجنوب السوداني لم تحل بالانفصال.

 

ولم يقف الأمر عند فصل جناحي وادي النيل عن بعضهما البعض، فقد جاء من يفاقم التجزئة والانعزال بالمطالبة بتقليص دور مصر والاقتصار على همومها الذاتية والتركيز على هويتها الخاصة، مما أدى إلى الإضرار بها، وتعليقاً على الرؤى المتناقضة لوضع مصر بين الوحدة مع محيطها والانعزال القُطري يعلق الدكتور عبد الوهاب المسيري على التجربتين الناصرية والساداتية بالقول إن عبد الناصر أدرك "أنه لا نهضة ولا مستقبل لمصر من دون انخراطها في مشروع عربي، فمصر وحدها لا تملك كل مقومات التنمية والنهضة، أما السادات فلم يفهم ذلك لأنه لم يقرأ التاريخ ولم يدرك ما أدركه جمال حمدان ومن سبقه من مفكرين بأنه لا نهضة لمصر دون أن تكون جزءاً من كيان سياسي أكبر، فمن أراد عزل مصر عن محيطها، عزلها عن حضارتها، السادات وكل البراجماتيين- النفعيين الذين رفعوا شعار "مصر أولاً".. نظرتهم للمستقبل نظرة سطحية، فهم يعالجون أزمات ومشاكل آنية دون النظر إلى المستقبل، تلك المعالجات تخلق على المدى البعيد مشاكل ضخمة، وهذا ما صنعه السادات حين رفع شعار "مصر أولاً".. واشتبك مع الدول العربية وتصور أن الولايات المتحدة ستقدم له حلولاً لمشاكله الاقتصادية، وأن (إسرائيل) ستحل له مشاكله السياسية، وفي الوقت الذي بدأت فيه دول العالم تدخل في تكتلات اقتصادية كبرى تفككت منظومة العمل العربي المشترك، وبدلاً من حل أزماتنا الاقتصادية والسياسية أصبحت مصر بكل تاريخها تابعاً ينتظر ما يأتيه من أمريكة... لقد تراجع دور مصر الإقليمي وأصبحت تابعاً يقبل كل ما يفرض عليه من إملاءات، فاعتمادنا على الولايات المتحدة أفقدنا القدرة على اتخاذ قرار سياسي منفرد".[57]

 

 

 

* الاستنتاج

 

 

 

كان ظهور هويات التجزئة في بلادنا مصلحة مؤكدة للاستعمار الذي تقوم علاقاته على مبدأ "فرق تسد" الذي درسناه صغاراً، ولهذا عمل على تجزئة الكيان العثماني الضخم بهويات استقلالية مصغرة قبل أن يوجه الضربة القاصمة بإنهاء الخلافة الإسلامية، وكانت هذه الهويات ضارة بأصحابها الذين فرحوا لبرهة بمظاهر الاستقلال الفارغة كفرح الصغير عندما يدخن أول سيجارة في حياته ويظن أنه أصبح رجلاً بذلك دون الاعتبار بما يتضمنه الموقف من أضرار مستقبلية، ومنهم من غفل عن الثمن الضخم الذي دُفع للمستعمِرين من ازدهار هذه المحميات للحفاظ على هذا "الاستقلال"، وليس من الحكمة اليوم بعد التجارب المريرة من الضعف والهزيمة والخيانة التي مرت بنا في الحياة القُطرية الاستمرار في الدفاع عن هذه الهويات الجزئية.

 

وإذا كانت الجغرافيا متنوعة فهذا لا يعني وجوب الانقسام السياسي، وهو أمر ملاحظ في جميع الدول الكبرى اليوم التي تحوي تنوعات جغرافية عديدة، وكثير منها يحتوي اختلافات عرقية ودينية وثقافية كثيرة جداً، ولا يضر هذا باستقرارها ونموها بل يكون عاملاً مساعداً على جذب الكفاءات من كل أنحاء العالم، ومع ذلك تصر الهيمنة الاستعمارية الغربية على رؤية "الهويات المتعددة في الشرق الأوسط" بواسطة عدسات مكبرة تكبيراً لا حدود له مما يجعل هذا الشرق "لا يمتلك هوية جمعية خلافاً للهند أو الصين أو أوروبا"،[58] ونسي الغربيون ونسينا نحن تبعاً لهم أن كل هذه "الهويات المتعددة" كانت مجتمعة في كيان سياسي واحد وُصفت مرحلته العثمانية بكونها من أكثر الدول التعددية استمراراً واستقراراً في التاريخ،[59] وأن تنوعها الحضاري، الذي ضم العرب على تنوعهم والأكراد والأتراك والأرمن واليونان والبلغار والصرب واليهود، أدهش نخبة أوروبا في زمنه.[60]

 

ويصر الغرب اليوم على إدامة الحواجز الشرقية التي صنعها بنفسه على أنقاض وحدتنا التي كان له دور رئيس في تدميرها في الوقت الذي ألغى هو كل الانقسامات الفرعية داخله، سلماً أو بالعنف، ولم يبق إلا الهويات الكبرى الجامعة، ومع ذلك يتساءل ببلاهة ما هو المشترك الذي يجمع بين المغرب وسوريا؟،[61] ولا يتساءل عما يجمع بين هولندا واليونان أو حتى بين فرنسا وبريطانيا مع ما بينهما من إرث العداوة الطويل وتناقض المصالح الكبير والاختلافات السياسية والاقتصادية والقومية واللغوية والدينية والثقافية المتجذرة، أو عما يجمع بين شذاذ الآفاق من كل جهات الأرض في كيان استيطاني صغير كالكيان الصهيوني أو أشباهه الكبرى في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، ويظن الغربيون أن كراهية الكيان الصهيوني "هي الشيء الوحيد الذي يوحد العرب" وأن اشتراك العرب في العداوة حياله يؤدي إلى تعزيز هذه الوحدة،[62] ولم يتساءل الغربيون عن سبب اشتراك العرب في كراهية كيان هناك دول قريبة منه ولكنها لا تحمل له نفس العداوة العربية مثل قبرص وبقية دول البحر المتوسط الأقرب إليه من كثير من العرب، ولم يتساءل الغربيون عن سبب وجود عداوة بين السودان والصهاينة وعدم وجودها بين دولة قريبة جداً من السودان كأثيوبيا والكيان الصهيوني، أليس ذلك دليلاً على وجود ما يوحد العرب والمسلمين من خلفهم قبل أن توجد القضية الفلسطينية وهو ما جعلهم يتفقون في معاداة الصهاينة، وأنه ليست هذه المعاداة هي التي وحدتهم؟ وهل نسي الغرب تاريخنا الطويل الحافل بالوحدة ليدعي أنها طرأت بسبب حدث معاصر؟

 

وإن استمرار الاحتفاء بالهويات الجزئية وعدم الاعتبار بالدروس المستقاة من إيجابيات الوحدة حتى في مرحلة ضعفها وتراجعها في آخر أيام الخلافة، وسلبيات التجزئة حتى في أزهى أزمانها، سيؤدي إلى مزيد من الانقسامات إذ ستطالب كل محافظة أو مدينة أو أقلية بالاستقلال بناء على تميز لهجتها أو هويتها وهذا طريق وعر سيقودنا إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وأن يصبح كل فرد فينا دولة بعلم ونشيد باسم تميزه عن أخيه وصديقه وجاره كما تثبت ذلك بطاقة هويته الشخصية المختلفة عن هوياتهم (!)، ويمكن أن تتعزز هذه المطالب الانفصالية بوجود الثروات الاقتصادية وستواجه حينئذ دولة التجزئة مطالب بتجزئتها ترفع في وجهها نفس الحجج التي رفعتها هذه الدولة للاستقلال عن الكيان الجامع الأكبر، ومن رفضوا يوماً شعار "نفط العرب للعرب" لأنه ملك لدوله النفطية خاصة دون بقية العرب، سيجدون أنفسهم في مواجهة مطالب انفصالية من دواخلهم ترفض مثلاً أن يكون "نفط السعودية للسعودية" بحجة أنه للمنطقة الشرقية وحدها دون باقي المملكة، وسيرفع ابن الجنوب العراقي نفس الحجة في مواجهة "نفط العراق للعراق" لأنه للبصرة وجوارها دون باقي المحافظات، وسيدعي ابن مدينة الأحمدي في الكويت نفس الادعاء ويقول إن نفط الكويت من حقه دون باقي الكويتيين، وسيطرب الاستعمار لهذه المعزوفات حينئذ كما يبدو اليوم في بعض الدول العربية حيث ترتفع الرايات الانفصالية حول الحقول النفطية في الوقت الذي تسخر الدول العظمى منا ومن ضعفنا إذ أن جميع دول الاستقلال الوهمي والتجزئة المجهرية غير قادرة على الاستقلال الحقيقي لأن قلة إمكاناتها الناتجة عن صغر مساحاتها تجعلها غير قادرة على إطعام مواطنيها أو الدفاع عن أنفسها أو كفاية حاجاتها وتضعها في منافسة مع جيرانها مما يجعل الحل بالتعلق بالأجنبي القوي لضمان البقاء أو التفوق على الأقران وبهذا فإن الخيانة من طبيعة هذه الدول بما يجر الضرر على مواطنيها وعلى محيطها وأمتها على حد سواء.

***

الهوامش

 

 

 

[1] شاخت وبوزورث، تراث الإسلام/ القسم الأول، سلسلة عالم المعرفة (8)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أغسطس 1978، ترجمة: الدكتور محمد زهير السمهوري، ص 252 (الفصل الرابع: برنارد لويس، السياسة والحرب).

 

[2] نيقولاي إيفانوف، الفتح العثماني للأقطار العربية 1516- 1574، دار الفارابي، بيروت، 2004، ترجمة: يوسف عطا الله، ص 52.

 

[3] Robert Aldrich (ed) , The Age of Empires, Thames & Hudson, London, 2007, p. 26.

 

[4] يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، مؤسسة فيصل للتمويل، استانبول، 1990، ترجمة: عدنان محمود سلمان، ج 2 ص 761 و 873.

 

[5] ديفيد جيلمور، المطرودون: محنة فلسطين، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1993، ص 41.

 

[6] دكتور حسن صبري الخولي، سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، دار المعارف بمصر، 1973، ج 1 ص 556.

 

[7] نفس المرجع، ج 1 ص 551.

 

[8] نفس المرجع، ج 1 ص 573.

 

[9] نفس المرجع، ج 1 ص 613.

 

[10] نفس المرجع، ج 1 ص 614.

 

[11] نفس المرجع، ج 1 ص 647.

 

[12] Laura Robson, Colonialism and Christianity in Mandate Palestine, University of Texas Press, Austin, 2012, pp. 158- 161.

 

[13] وليد الخالدي، فلسطين وصراعنا مع الصهيونية وإسرائيل، مؤسسة الدراسات الفلسطينية والنادي الثقافي العربي، بيروت، 2009، ص 264.

 

[14] سحر الهنيدي، التأسيس البريطاني للوطن القومي اليهودي: فترة هربرت صامويل 1920- 1925، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2003، ص 160- 161.

 

[15] نفس المرجع، ص 150- 151.

 

[16] نفس المرجع، ص 213 و227.

 

- ديفيد جيلمور، ص 40.

 

[17] سحر الهنيدي، ص 227- 228 و299.

 

[18] تيودور رتشتين، تاريخ المسألة المصرية 1875- 1910، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1950، ترجمة: عبد الحميد العبادي ومحمد بدران، ص 6.

 

[19] الدكتور محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي (1514- 1914)، مكتبة الأنجلة المصرية، القاهرة، 1993، ص 225.

 

[20] نائلة الوعري، دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين 1840- 1914، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان ورام الله، 2007، ص 34.

 

[21] لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، دار الفارابي، بيروت، 2007، ص 171.

 

[22] إريك وولف، أوروبا ومن لا تاريخ لهم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2004، ترجمة: فاضل جتكر، ص 406.

 

[23] رءوف عباس، صفحات من تاريخ الوطن، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2011، تحرير: عبادة كحيلة، ص 215.

 

[24] ألفت احمد الخشاب، تاريخ تطور حدود مصر الشرقية وتأثيره على الأمن القومي المصري 1892- 1988، دار الشروق، القاهرة، 2008، ص 169- 170.

 

[25] د. صبري أحمد العدل، سيناء في التاريخ الحديث (1869- 1917)، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2004، ص 164.

 

[26] نفس المرجع، ص 180- 182.

 

[27] نفس المرجع، ص 192.

 

[28] لوتسكي، ص 407- 410.

 

[29] يوجين روجان، العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، 2011، ترجمة: محمد إبراهيم الجندي، ص 210.

 

[30] لوتسكي، ص 411.

 

[31] دكتور عبد اللطيف بن محمد الحميد، البحر الأحمر والجزيرة العربية في الصراع العثماني البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، مكتبة العبيكان، الرياض، 1994، ص 152.

 

[32] أحمد شفيق باشا، حوليات مصر السياسية- التمهيد (1)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012، ص 148.

 

- رءوف عباس، ص 105.

 

[33] رءوف عباس، ص 232 و246.

 

[34] يوجين روجان، ص 210.

 

[35] لوتسكي، ص 407.

 

[36] سعد محيو، مأزق الحداثة العربية من احتلال مصر إلى احتلال العراق، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010، ص 77.

 

- هاري ماجدوف، الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى اليوم، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1981، ص 65.

 

[37] لوتسكي، ص 203- 204.

 

- يوجين روجان، ص 158.

 

[38] يوجين روجان، ص 271- 273.

 

[39] نفس المرجع، ص 273- 277.

 

[40] نفس المرجع، ص 278- 280.

 

[41] نفس المرجع، ص 311.

 

[42] Engin Akarli, The Long Peace: Ottoman Lebanon, 1861- 1920, University of Oklahoma Press, Berkeley, 1993, p. 184.

 

[43] موسوعة ويكيبيديا العربية: لبنان (2015/1/5)

 

http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86#.D8.A7.D9.84.D8.B3.D9.83.D8.A7.D9.86

 

 

 

[44] Engin Akarli, p. 192.

 

[45] سعاد محمد الصباح، مبارك الصباح: مؤسس دولة الكويت الحديثة، دار سعاد الصباح، الكويت، 2007، ص 296.

 

[46] صحيفة الوطن الكويتية، 2008/2/17، ص 26

 

[47] صحيفة الوطن الكويتية، 2008/12/17، ص 7.

 

[48] سعاد محمد الصباح، ص 297- 298.

 

[49] أستاذ دكتور عبد العزيز محمد الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الأنجلة المصرية، القاهرة، 1997، ج 3 ص 1388 و1400- 1402.

 

[50] نفس المرجع، ج 3 ص 1406- 1409.

 

[51] نفس المرجع، ج 3 ص 1360 و1382- 1384.

 

[52] د. حسين علي المسري، تاريخ العلاقات السياسية والاقتصادية بين العراق والخليج العربي 749- 1258 م، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1982، ص 203- 346.

 

[53] مؤيد الونداني، الاتحاد العربي في الوثائق البريطانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2013، ص 125 و678- 682.

 

[54] في ذكرى ضياع فرصة مصالحة ذهبية: إلى متى سنصغي إلى الأجنبي؟

 

[55] مؤيد الونداني، ص 65.

 

[56] يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، منشورات مؤسسة فيصل للتمويل، استانبول، 1990، ترجمة: عدنان محمود سلمان، ج 2 ص 865.

 

[57] الدكتور عبد الوهاب المسيري، حوارات (3): الهوية والحركية الإسلامية، دار الفكر، دمشق، 2010، تحرير: سوزان حرفي، ص 119- 120.

 

[58] برنارد لويس، الهويات المتعددة للشرق الأوسط، دار الينابيع، دمشق، 2006، ترجمة: حسن بحري، ص 205.

 

[59] Robert Aldrich, p. 43.

 

[60] أحمد عبد الرحيم مصطفى، في أصول التاريخ العثماني، دار الشروق، القاهرة، 1982، ص 131.

 

- زاكري كارابل، أهل الكتاب: التاريخ المنسي لعلاقة الإسلام بالغرب، دار الكتاب العربي، بيروت، 2010، ترجمة: د. أحمد إيبش، ص233.

 

[61] جورج حبش، الثوريون لا يموتون أبداً، دار الساقي، بيروت، 2011، حوار: جورج مالبرينو، ص 264.

 

[62] بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الأوسط، النايا للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2011، ترجمة: أدهم مطر، ص 429.

أضافة تعليق
آخر مقالات