مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2015/01/23 05:00
محمد شعبان صوان
نظرات في كتاب "دور السلطان عبد الحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين" للدكتورة فدوى نصيرات

(تتحدد مسئولية السلطان عبد الحميد بزيادة عدد اليهود المعترف بإقامتهم في عهده بمقدار 15 ألفاً بمن فيهم الزيادة الطبيعية لليهود الأصليين في فلسطين قبل الهجرات، وهذه الزيادة الضئيلة تمتد على مدى أكثر من ربع قرن رغم كل "التسهيلات" التي يدعي الكتاب أن السلطان قدمها،

وليس كما ذكر أن عدد اليهود زاد من 5 آلاف إلى 80 ألفاً في ذلك العهد، ولا حتى من 24 ألفاً إلى 80 ألفاً، وهو رغم ذلك إنجاز ضئيل في تقويم المؤرخين، مما يؤكد أن التسهيلات المدعاة لا قيمة لها في بناء الوطن القومي اليهودي، وهذا ما أكده التاريخ والمؤرخون وبريطانيا نفسها التي منحت وعد بلفور لتسهل إقامة وطن قومي يهودي لم يكن له وجود قبلها، على عكس ما أراد الكتاب الإيهام)

* مقدمة

لم تكن فكرة إعادة البحث في تقويم موقف السلطان عبد الحميد ومراجعته خطأ في حد ذاتها، فليست كل المسلمات صحيحة ولا الاستمرار في اعتناقها مؤد إلى تطور ننشده، أي أن المراجعة المستمرة ضرورة ليس في مجال التاريخ وحده بل في كل المجالات العلمية التي لا بد من استمرار البحث فيها، وقد سبق لي كتابة دراسة عن الهجرة الصهيونية إلى فلسطين وموقف الدولة العثمانية منها لاسيما في زمن السلطان عبد الحميد، وهي تحتوي على كثير مما يمكن إيراده هنا ولذا سأكتفي بالإحالة إليها عند اللزوم دون تكرار ما جاء فيها وعلى الباحث عن الزيادة مراجعتها وهي منشورة على الشبكة بعنوان: آثار التغريب السياسي على المجتمع الإسلامي: التحدي والاستجابة/ 2 (موقع التجديد العربي، 2013/1/8)، بالإضافة إلى دراسة أخرى تتطرق للموضوع باختصار وهي بعنوان: سياسات آخر أيام الخلافة: قضايانا بين الوحدة والتجزئة (موقع التجديد العربي، 2013/3/6)، وسأحيل للدراسة الأولى بكلمة [آثار] وللدراسة الثانية بكلمة [سياسات]، وسأشير لمواضع الاستشهاد من كتاب الدكتورة فدوى نصيرات بوضع أرقام الصفحات بين قوسين، ولمحاضرتها في جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية (2013/11/16) بكلمة (محاضرة).

* التوظيف السياسي آفة البحث العلمي

مأخذي على محاولة الدكتورة فدوى نصيرات هو اختلاطها بمحاولات التوظيف السياسي ضد أطراف سياسية معاصرة ولصالح أطراف أخرى منافسة لها، وهذا التوظيف لم يكن مخفياً سواء في محاضرة الدكتورة بإشراف الدكتور إبراهيم علوش ولا في مقدمة كتابها بقلم الأستاذ خالد الحروب، مما يجعل من أي فكرة أو شخص او حتى دين عرضة للسهام إذا قام أي طرف باتخاذه شعاراً سواء بحق أو دون حق، فهل علينا الاسترسال بالهجوم لينال الإسلام نفسه كونه شعار التنظيمات المسلحة؟ وهل علينا تدمير المسيحية كونها شعاراً للمحافظين الجدد؟ وهل علينا شطب اليهودية كونها ذريعة للصهيونية؟

وإذا كان هناك من طرف يجب أن ينأى عن توظيف الأبحاث العلمية في القضايا السياسية فهو لا شك جميع المهتمين بقضية فلسطين التي كانت ضحية واضحة لتوظيف قضية المحرقة اليهودية في السياسة مع أن مكانها هو البحث الأكاديمي في قاعات الدراسة بين المختصين للخروج بنتائج على أسس علمية بحتة لا تبتغي منافع مادية لطرف أو آخر لاسيما عندما تكون هذه "المنافع" هي طرد شعب والحلول محله.

* من أين أتى التفريط الحقيقي؟

وكان الأجدر لو انطلق بحث الدكتورة فدوى من نية البحث عن الحقائق ليس بهدف إرغام أنوف أطراف لا تعجبنا وقد تتخذ من فكرة الخلافة شعاراً لها، ولا بهدف تبرئة التيارات المنافسة التي "قادت حركات التحرر ضد الاستعمار الغربي ثم أسست المرحلة الاستقلالية العربية" ومع ذلك ضاعت فلسطين كاملة في عهودها المتلاحقة لتتفق فيما بعد على الاعتراف بالشرعية الدولية التي تسلّم ثلاثة أرباع فلسطين على طبق من ذهب للاستيطان الصهيوني، كما أنها فشلت ليس في هذا المجال وحده بل في تحقيق أي شعار متكامل من شعاراتها عن الدولة "القومية والاشتراكية والليبرالية"، ثم نأتي لنضع المسئولية الكبرى على السلطان عبد الحميد وكأن ما فعله من "تفريط" لا راد له ولم يكن هناك من حكم فلسطين بعده وبنى صرح الوطن القومي أو كأنه لا قدرة لجميع من حكموا دولة الاستقلال والتجزئة على نقضه أو تعديله أو القيام ببطولات تغطي على موقع موقفه في الضمير الجمعي العربي والفلسطيني، ومادامت قضية فلسطين هي ميزان الحكم على السلطان فإنني حتى الآن لم أفهم كيف يدان عبد الحميد بسبب بضعة مستعمرات متفرقة وبضعة آلاف من المهاجرين، ولا تدان الأنظمة "القومية والاشتراكية والليبرالية التي قادت معارك التحرر ضد الاستعمار الغربي" ومع ذلك سلمت وتسلم اليوم 78% على الأقل من فلسطين لملايين الصهاينة، ثم تصنف في دائرة البناء والنهوض ومعاداة الاستعمار، ولا أدري كيف يخطّأ السلطان لمفاوضته هرتزل لمدة ست سنوات كان فيها الجانب الصهيوني هو الذي يتوسل الموافقة، في الوقت الذي يُمتدح فيه زعماء رجعيون وتقدميون، ثوريون وملكيون، قوميون ووطنيون، مازالوا يتوسلون هم المفاوضات ويقدمون العطاءات على أمل قبول الصهاينة بالشرعية الدولية؟

وعلى كل حال فالموافقات الرسمية على الهجرة اليهودية وإقامة الوطن القومي صدرت من التيارات التي وصفت بالتحرر في الدولة العثمانية، وبالعروبة منذ الانفصال عن الخلافة العثمانية: فممن رحب بالصهاينة الوالي محمد علي باشا (الذي برأته الدكتورة ”ص 101“) ومدحت باشا أبو الدستور العثماني وخير الدين التونسي وأعضاء المؤتمر العربي الأول في باريس كالشيخ عبد الحميد الزهراوي، وقد أحجم المؤتمر الذي مثّل الآمال القومية بالتحرر عن التعرض للخطر الصهيوني، ومن النهضويين الذين كانت لهم مواقف متخاذلة من الصهيونية شبلي شميل (الذي بالغت الدكتورة في مدحه في كتابها عن المسيحيين العرب ولم تجعل من موقفه من الصهيونية منطلقاً حصرياً لإدانته كما فعلت مع السلطان عبد الحميد) ويعقوب صروف وفارس نمر ورفيق العظم، ثم دعا الشريف حسين إلى استقبال اليهود بالكرم العربي ولجأ ابنه الأمير فيصل للحصول على مساعدة الصهيونية ضد الفرنسيين في سوريا ووقّع لذلك اتفاقية فيصل- وايزمان مع زعيم الصهاينة مرحباً بالهجرة وبالوطن القومي اليهودي، كما أيد أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد إنشاء الجامعة العبرية (وليس العربية) في القدس وحضر حفل افتتاحها إلى جانب دهاقنة الاستعمار والصهيونية مثل اللورد بلفور والجنرال اللنبي وحاييم وايزمان وهربرت صموئيل[1] [آثار] مع أن السلطان عبد الحميد كان قد رفض رفضاً قاطعاً بناء هذه الجامعة رغم الإغراء بإبعادها شباب العثمانيين عن السفر للخارج والتأثر بالأفكار الغربية التي يمقتها السلطان [سياسات: فقرة موقفه من فلسطين والحركة الصهيونية، النقطة الأولى] ولم تأت الدكتورة على ذكر ذلك القرار الهام رغم أن كتابها "لا يغادر صغيرة ولا كبيرة" من مواقف السلطان المتعلقة بفلسطين إلا أحصاها (ص 36) لأن ذكر ذلك لا يناسب تأكيدها بأن السلطان لم يفعل شيئاً لدرء الاستيطان وأن قراراته كانت حبراً على ورق وتعد لاغية بمجرد صدورها وأنه كان يتراجع عنها دائماً، ويزداد عجبنا حين نعلم أن الشيخ رشيد رضا (الذي اتخذت الدكتورة موقفه دليلاً على الوعي العربي بالخطر الصهيوني (ص 30 و142 و206) كتب مقالاً في صحيفة المنار في سبتمبر/ أيلول 1911، وذلك بعد سنوات من تحذيراته في نفس الصحيفة من الخطر الاستيطاني، مفاده أن سوريا تحتاج العلم والمال اليهوديين وعليها استقبال اليهود استقبالاً حسناً بشرط ألا يؤدي ذلك إلى سيطرة الحركة الصهيونية على فلسطين(!) وأفتى بشرعية تحالف الهاشميين مع "أهل الكتاب" البريطانيين والفرنسيين الذين "سخرتهم" العناية الإلهية لخدمة المسلمين،[2] ثم لم يمانع الملك عبد العزيز آل سعود عندما احتاج دعم بريطانيا، في منح فلسطين "للمساكين اليهود" أو حتى غيرهم كما ترى بريطانيا التي لا يخرج هو عن طاعتها إلى أن تحين الساعة.[3]

ثم كان توقيع اتفاقيات الهدنة بعد حرب النكبة اعترافاً عربياً ضمنياً بالكيان الصهيوني،[4] ثم طالب مندوبو الدول العربية للمرة الأولى بتنفيذ قرار التقسيم ووقعوا بذلك ميثاقاً مع لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة في سنة 1949،[5] أما سياسة الثورة المصرية فتم التصريح عنها في إجابات بعض قيادات مجلس الثورة على تساؤلات رجال السفارتين البريطانية والأمريكية عن نياتهم تجاه الكيان الصهيونية فكان الرد دائماً أن الأولوية المطلقة للقضايا الداخلية كالجلاء والاستقلال والتنمية "أما قضية فلسطين فليست على أجندة مجلس قيادة الثورة الآن"،[6] وكما يقول الدكتور رءوف عباس المتخصص في تاريخ مصر: "لم يكن الدخول في حرب ضد إسرائيل يوماً ما على جدول أعمال عبد الناصر، بل صرح ذات مرة في خطاب علني أنه ليس مستعداً في الدخول في حرب ضد إسرائيل إذا سعت لجرنا إليها"،[7] ويضيف إنه رغم غياب الخطة العربية لتحرير فلسطين، ظل التحرير شعاراً تردده الأنظمة العربية دون أن تعنيه، بما في ذلك مصر، ورغم أن ثورة يوليو من تداعيات النكبة 1948، فإنها لم تعمل على تحرير فلسطين، ورغم أنها رفضت الصلح مع الصهاينة، فإنها كانت ترى أن تحقيق التحرير واجباً عربياً جماعياً، ومن هنا نشأت دبلوماسية مؤتمرات القمة العربية التي كانت سلبية تماماً، وكان الخط السياسي المصري والعربي هو المطالبة بتطبيق قرارات الأمم المتحدة بالتقسيم والعودة أو التعويض،[8] وبعد تورط مصر في فخ النكسة حدث تحول جوهري بمجرد القبول بالقرار 242، إذ أصبح الخط السياسي هو التركيز على تحرير الوطن (سيناء) وإنهاء حالة الحرب مع الصهاينة مع محاولة التوصل إلى تسوية مناسبة لحقوق شعب فلسطين في إطار تسوية شاملة إن أمكن ذلك،[9] ثم توافق جميع الزعماء العرب التقدميين والرجعيين منذ سنة 1982 في قمة فاس على مشروعي الملك فهد والرئيس بورقيبة القائمين على التسليم بالشرعية الدولية التي تمنح أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين (78%) للصهاينة في ظل حدود آمنة ومعترف بها، ودخل الرجعي والتقدمي في مفاوضات السلام منذ مؤتمر مدريد (1991) ومنذ ذلك الوقت أصبح التعبير عن السلام بصفته خياراً استراتيجياً من لوازم السياسة العربية (1996) ومازالت المبادرة العربية (2002) هي الخيار العربي الوحيد لدى الثوري والتقليدي، أليس هناك إذن سبب وجيه للأثر الذي تركه حكم السلطان عبد الحميد في ذاكرة شعوب الدولة العثمانية عامة وفلسطين خاصة وأقرت الدكتورة بوجوده (ص 49)؟

* تجريم السلطان عبد الحميد ليس جديداً

ويطالعنا الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي بأن نغمة الهجوم على موقف السلطان عبد الحميد ليست جديدة، فقد سادت فترة من الزمن في القرن الماضي، وكانت براءته مستجدة بينتها أبحاث علمية لم تقبض من خزينة السلاطين بعد زوال دولتهم ونقضت الفكرة السلبية الأولى،[10] ولست ضد المراجعة التاريخية المستمرة، ولكن كما قلت إن التوظيف السياسي يفسد عمل الباحث ويلقي بشبهة التحيز البدئي على دراسته ونتائجه.

* دراسة بهدف الإدانة المسبقة

وقد لاحظت أن القاسم المشترك بين صفحات الكتاب هو الرغبة الشديدة في إدانة موقف السلطان مما يضعنا أمام موقف عاطفي معاكس للمواقف العاطفية المؤيدة التي انتقدتها الدكتورة، والأدلة على ذلك عديدة منها:

1- إغفال الظرف التاريخي للدولة العثمانية: الكتاب يتجاوز تقدير حقيقة جوهرية وهي أن الدولة العثمانية كانت تعيش حالة الاحتضار في آخر أيامها بعدما عمرت زمناً من أطول أعمار الدول في التاريخ، ومن الطبيعي في هذا الوضع أن يكون موقفها ضعيفاً أمام الغرب في أوج قوته، ولعل كل ما يورده الكتاب من مواقف التراجع أمام الدول الكبرى، مرده إلى هذه الحقيقة التي يعترف بها جميع المعجبين بالتاريخ العثماني ويقرون بأن الدولة كانت آنذاك في حالة غير مثالية ومع ذلك قامت بإنجازات كبرى، ولكن الدكتورة المحترمة ترفض بعنف أخذ هذا الظرف في الحسبان (ص 18 و231) مع أنها تذكره بوضوح وتفصيل، وتطالب بأن تكون إجراءات الدولة حاسمة وناجحة تماماً ومؤدية إلى الوقف الكلي للهجرة (ص 17) وهو ما لم تستطعه أقوى الدول حتى اليوم حين تعجز عن التحكم الصارم في الهجرة غير الشرعية على الأقل، كما قال حاييم وايزمن في اعترافه عن الدخول إلى فلسطين العثمانية "في جنح الظلام"، والذي اتخذت منه الدكتورة حجة ضد الدولة (ص 95) مع أن الهجرة غير الشرعية مشكلة عانت وتعاني منها دول كثيرة إلى اليوم، ولم يكن عدم النجاح في وقف الهجرة نهائياً بسبب التراجع السياسي فقط كما يدعي الكتاب (ص 42 و232)، وهذه الهجرة غير الشرعية حقيقة لا يتطرق بحث الدكتورة إليها مطلقاً ويحمّل مسئولية تزايد الأعداد للتساهل الرسمي وحده وهذا ليس صحيحاً، كما أنه أعطى المهاجرين غير الشرعيين صفة المتمتعين بالامتيازات لرفضهم الجنسية العثمانية وهو قول أيضاً ليس صحيحاً، وعدم تقدير الظرف التاريخي الذي كانت الدولة تمر به من أزمات مالية وفساد إداري وامتيازات أجنبية، مما هو طبيعي جداً في دولة تعيش آخر أيامها، رغم ذكر هذا الظرف بوضوح (ص 50 و76 و91 و132 و173 و231)، ليس من مصلحة الدراسة التي تحاول إظهار الحقائق كما وقعت، فلا يجوز أن نطرح التساؤل الاستنكاري بتبسيط مخل عن سبب عدم إلغاء السلطان فرمان تملك الأجانب الصادر سنة 1869 (ص 140) بصورة تلغي كل الظروف السياسية القائمة في ذلك العصر والمتعلقة بالامتيازات الأجنبية، أو التساؤل باستنكار من البرج العاجي عن معنى السماح بالهجرة الفردية دون الجماعية وعن معنى السماح بالهجرة إلى غير فلسطين وعن معنى السماح بمنح الجنسية العثمانية (ص 181) بطريقة تلغي كل الظروف المحيطة التي اعترف بها الكتاب (ص 173 و176)، ومن الطريف أن ما تراه الدكتورة تساهلاً وتفريطاً لم يره هرتزل نفسه بهذه الصورة: "بيد أن هرتسل يدرك، تدريجياً، أن موقف السلطان، بالرغم من الاحترازات البلاغية والتلاعبات المالية، كان دائماً عديم المرونة: قبول هجرة يهودية متفرقة في الدولة العثمانية مع رفض الحماية القنصلية واشتراط قبول المواطنة العثمانية بما يشمل وجوب أداء الخدمة العسكرية".[11]

وحبذا لو أخبرتنا حضرة الدكتورة بنموذج عربي واقعي أفضل في رأيها، أو بالنتيجة الأفضل التي كان يمكننا الحصول عليها من مجموع الظروف الدولية التي شرحتها بنفسها ولكنها لم تقبل أن تأخذها في الحسبان وأصرت على الإدانة وهو توجه غير تاريخي، وعلى كل حال ليست شروح المؤرخين هي العاطفية لسبب بسيط وهي أنهم من الصهاينة والأجانب والعرب من غير الإسلاميين السياسيين الذين لا يدفعهم دافع للتعاطف مع السلطان بل إن هجوم الكتاب هو الانفعالي الذي لا يأخذ الظرف التاريخي في الحسبان مع أن هذه تهمة "اللاتاريخية" هي الفكرة الأساسية التي يهاجم الحداثيون الإسلاميين بها، ويبدو لي أنه من مزايا الدولة العثمانية أنها حتى في زمن ضعفها تراجعت خطوات دبلوماسية ولكنها لم توقع على الاستسلام حين رفضت ما أسمته الدكتورة فدوى منح البراءة أو الترخيص أو الوعد أو الميثاق الفرماني لهرتزل في الوقت الذي استسلمت فيه دولة التجزئة وهي في كامل إمكاناتها وقوتها وعنفوانها أمام الزحف الغربي وسلمت فلسطين رسمياً للشرعية الدولية، وإذا كان النموذج الحميدي لا يرضي طموح الدكتورة في مقاومة المشروع الصهيوني رغم كونه رفض (ص 27) منح الوسيلة الوحيدة التي كان من الممكن تأسيس الكيان الصهيوني بها كما فصل ذلك الدكتور عبد الوهاب المسيري في حديثه عن "الحل الإمبريالي" الذي اكتشفه هرتزل [آثار]، وكانت تلك الوسيلة التي رفض السلطان منحها هي وثيقة الاستيطان الرسمية التي أسست فيما بعد الدولة اليهودية ولكن برعاية بريطانيا، ولولا البراءة التي منحتها للصهاينة لما أدت إنجازاتهم إلى ما أدت إليه،[12] فلتدلنا حضرة الدكتورة على نموذج عربي وطني أو قومي من الذين قدم مقدم الكتاب بمدحهم يرضي طموحها وطموحنا في هذا المجال.

وبهذا يتبين أن دولة الخلافة في أسوأ حالاتها لم ترتكب ما ارتكبته الدولة الوطنية في أحسن حالاتها، وهذا هو سر التمسك بحالة الوحدة التي تحن إليها أجيالنا واليأس من دولة التجزئة مهما كانت شعاراتها براقة، ولهذا ليس من الإنصاف أن تحاكم هذه الفترة العثمانية وكأنها الفترة المثالية التي يدعو إليها أتباع الوحدة الإسلامية، فهي قبل أي شيء فترة احتضار طارئ في حالات الوحدة المماثلة التي تكون القوة والمنعة هي الأصل فيها، وفهم هذا الظرف هو وظيفة المؤرخ لا ليبرئ أو يدين بل ليرسم الأحداث كما حدثت دون تجاوز يخرج الحكم من صفته التاريخية إلى وضع يحمل الأحداث متطلبات غير ممكنة بشرياً كمن يدين مثلاً ثورة يوليو بسبب التزامها الوضع القطري وفشلها في تحقيق الوحدة العربية التي رفعت شعارها، ويأتي بكل الأفعال المناقضة لفكرة الوحدة في سياسة الرئيس جمال عبد الناصر كاعترافه بكيانات التجزئة العربية ودخوله جامعة الدول العربية التي ينص ميثاقها على الحفاظ على حدود وسيادة دول التجزئة وزياراته لحكام التجزئة وتوقيعه اتفاقيات معهم وتصريحاته الخاصة بشأن الأخوة والتضامن بين أكفاء، ويمكن للمؤرخ حينئذ أن يتساءل على غرار تساؤل حضرة الدكتورة فدوى: لماذا قبل الرئيس ناصر باستضافة الجامعة العربية في عاصمته رغم أنها تقر التجزئة العربية؟ ألم يكن بإمكانه على الأقل نقل مقرها من القاهرة؟ أو يدين الحكم الناصري وحقيقة التزامه بقضية فلسطين حين قبل قرارات الأمم المتحدة أو مبادرة إيدن أو مبادرة روجرز أو قصّر في إعداد جيشه الذي هُزم هزيمة نكراء في نكسة 1967 ويأتي حينئذ المؤرخ بتصريحات الرئيس عن عدم امتلاكه خطة لتحرير فلسطين وشهادة المقربين منه كالمرحوم أحمد الشقيري الذي اعترف بندمه على دخول الجامعة العربية وتصديقه الزعامات الرسمية وغير ذلك من "أدلة" عن العلاقات الناصرية الأمريكية التي تناقض شعار معاداة الاستعمار ليخرج المؤرخ المتعجل بنتيجة كون الرئيس ناصر مجرد نصاب سياسي (كما وصف الدكتور علوش السلطان عبد الحميد في المحاضرة)، وأنه رفع شعارات ليسوق نفسه في العالم العربي لصالح السياسة الأمريكية التي نصبته زعيماً، وسيجد "أدلة" على كل ما سبق من نفس نوع أدلة الدكتورة فدوى بل أقوى منها، ويمكن للمؤرخ أن يتساءل على غرار أسئلة الدكتورة: لماذا وافق الرئيس ناصر على مبادرة إيدن في البداية أو مشروع روجرز في النهاية؟ وذلك دون أن يتعب هذا المؤرخ نفسه لدراسة الظروف التي أحاطت بمصر آنذاك وهل كانت تسمح لأي مخلص بتحقيق حلم الوحدة والتحرير أم لا، ولكنه في كل الأحوال يمكنه القول كما قيل عن السلطان عبد الحميد في الكتاب إن سياسته لم تترجم موقفه المعلن (ص 47)، وهو استنتاج يمكن سحبه على كل القيادات الثورية والقومية والتقدمية العربية التي فشلت في تطبيق معظم شعاراتها الوحدوية والتحررية، وإذا كان الكتاب يدين السلطان "لتردده" مع اليهود "على أمل" الحصول على أموالهم (ص 47 و150 و231- 232) رغم أن ما سلم به وفقاً لقول الدكتورة نفسها كان فقط "جزءً" من طموحات الصهاينة و"بشكل غير مباشر" و"لم يتوقع" هو نفسه ما آلت إليه الأمور، ورغم أنه حافظ على عروبة فلسطين (ص 95) ورفض منح الميثاق الفرماني لهم (ص 31)، فإن كل ذلك حتى لو قبلنا بحدوث تقصير كما تقول الدكتورة (ص 229) لا يقود آلياً ولا يتفق مع تحميله المسئولية الكاملة عن بناء البنية التحتية للكيان الصهيوني وتسرب الأراضي الفلسطينية للصهاينة، وإذا كانت لا ترى في كل إنجازاته ما يبرئه تبرئة كاملة (ص 230) فلتدلنا على القيادة العربية المثالية التي يمكن أن تجتاز اختبارها بنجاح وتحصل على الدرجة النهائية في مقاومة الصهيونية، وهل يمكننا مساواة موقفه أو حتى عدم تفضيله على مواقف القيادات العربية التي سلمت بالإجماع بخطة التقسيم ثم بنتيجة حرب 1948 واقتصرت مطالبات "المتطرفين" منها على الانسحاب الكامل من كل الأراضي المحتلة سنة 1967؟ فلا هي حافظت على عروبة فلسطين ولا هي رفضت ثمن أراضيها التي بيعت بأبخس مما عرض على عبد الحميد فرفض كل الإغراءات المالية كما تذكر الدكتورة نفسها (ص 180)، ولم يقتصر تفريطها على تفريط السلطان عبد الحميد الذي لم يتمكن من منع التسلل كلياً، بل منحت فلسطين لملايين اليهود الذين توافدوا تحت سمع القيادات العربية وبصرها.

وإذا كانت الدكتورة ترفض نظرة التفخيم من بعض المؤرخين لموقف السلطان عبد الحميد بسبب بعض التراجعات، فقد كان الأجدر بها أن تقدم ككثير من المؤرخين المحايدين، الذين كتب كثيرون منهم في هذا الموضوع بتجرد وهم موجودون ومتوافرون لا كما تدعي قراءتها احتكار الإنصاف والاكتشاف، أقول كان عليها أن تقدم درساً في القراءة الموضوعية التاريخية التي تأخذ الظروف في الحسبان وتعطي تفسيراً لجميع الأحداث وأن لا تكون قراءتها بنفس الدرجة من الانفعالية التي ترفضها ولكن على الطرف المقابل، وأن لا تتخذ موقفاً غير تاريخي آخر وإن كان بشكل معاكس، فلم تكتف بعدم التفخيم كما طالبت غيرها في محاضرتها بل أقدمت على الذم والقدح والإدانة غير الموضوعية أو المتزنة فتدعي على السلطان المسئولية الكاملة عن نشوء البنية التحتية التي قام عليها الكيان الصهيوني (ص 139)، في إغفال واضح لمسئوليات بريطانية وعربية ودولية أكبر، وكان الأفضل لو وزنت حالة الضعف التي مرت بها الدولة آنذاك وفهمت إمكاناتها الحقيقية وذكرت الكثير الذي تحقق من هذه الإمكانات الضعيفة لاسيما عدم منح الإقرار الفرماني الرسمي، الذي كان لازماً لنشوء الكيان اليهودي، رغم الحاجة الملحة لأموال اليهود التي كانت ستحل مشكلة الدولة الرئيسة لو منح هذا الوعد لجمع الأموال على أساسه، مقارنة باستسلام دولة التجزئة بكل طيفها الأيديولوجي، ولو حدث هذا التوازن في الحكم لكان أن أخذ كل ذي حق حقه ولا يكون الموقف الأكاديمي الذي تدعيه الدكتورة رد فعل انفعالياً على مواقف الآخرين كما بدا من حشدها الأدلة الحقيقية وغير الحقيقية لمجرد الإدانة.

2- إسقاط هموم الحاضر على الماضي: وهذا يقودنا إلى أن قراءة الحوادث الماضية تقتضي وضعها في سياقها الزمني وعدم إسقاط متطلبات أو أحوال أزمنة لاحقة عليها، وهو ما طالبت به نفس الدكتورة في كتابها، ومع ذلك فإنها لم تحاول تطبيق هذه الفكرة على عموم الكتاب القائم على إسقاط هموم عصرنا بحجمها الحالي على عصر مضى لم يكن لها فيه هذا الحجم الضخم، نعم توالت التحذيرات والفرمانات من السلطان نفسه ولكن كان هناك قضايا أخرى شغلت ذلك العصر ولم تكن قضية الهجرة اليهودية إلا جزءً يسيراً من قضاياه وهمومه، وهو ما لم تحاول الدكتورة قياسه ووضعت السلطان أمام مسئوليات تتعلق بالكيان الصهيوني الذي قام سنة 1948، ومن الأدلة التي توضع إلى جانب التحذيرات التي صدرت في ذلك العهد اجتماع الزعيم المصري الكبير مصطفى كامل باشا مع هرتزل مرتين وثناؤه على اليهود مقارنة بتمرد الأرمن وإصغائهم لتحريض الدول الكبرى، وتلك هي قضية العثمانيين في ذلك الوقت: "وهاهم اليهود لا يثورون ولا يهيجون ولا يشتكون ولا يتألمون بل يحمدون الدولة ليلاً ونهاراً في السراء والضراء ويسبحون في كل آونة بنعمها عليهم وحسن رعايتها لهم، وما ذلك إلا لأنه لا يوجد في الدول الأوروبية دولة تدعي الدفاع عنهم والعمل لمصالحهم فهم ليسوا بآلات في الدولة ضد الدولة بل هم يعرفون من أنفسهم أنهم عثمانيون ممتعون بكل الحقوق العثمانية، وأما العناصر التي كالأرمن تستعملها بعض الدول كإنكلترا فهي تثور بعوامل الدين ودسائس دينية"،[آثار] فهل يمكن أن يجرؤ أحد على اتهام هذه الشخصية المجمع على نزاهتها وإخلاصها بالخيانة بسبب هذا التصوير الذي لا يستسيغه عصرنا ولكنه كان مقبولاً في زمنه لضآلة الشأن اليهودي؟

وهناك أيضاً قول أحد معارضي السلطان عبد الحميد البارزين وهو محمد كرد علي الذي عرض القضية من موقع المتابع ومع ذلك لم يأخذ هذا المنحى الشديد للدكتورة رغم معارضته الحاسمة للسلطان ومع ذلك عرض القضية كالتالي في كتابه خطط الشام (1925) نقلاً عن أحد الواقفين على أسرار الصهيونية وهو السيد عمر الصالح البرغوثي الذي كتب ما ملخصه إن العمل الصهيوني الجدي شُرع فيه سنة 1897 عندما عقد المؤتمر الأول في بازل بسويسرا (وهو ما يفسر تسرب بعض الهجرات فيما سبق قبل أن يتضح الخطر وذلك حين كانت المسألة اليهودية خيرية زراعية قبل أن يحولها هرتزل إلى اقتصادية سياسية وكان اليهود مجرد لاجئين من اضطهاد أوروبا الشرقية كبقية اللاجئين إلى الدولة العثمانية التي احترزت منهم رغم كل شيء)، وعندما "برزت الروح الاستعمارية بشكل جلي فقاومتها الحكومة العثمانية بوضع العراقيل أمام هجرتهم وقيدتهم بقيود جعلت هجرة اليهود إلى فلسطين في حكم المستحيل تقريباً... وانعقد المؤتمر الثالث في بازل أيضاً سنة 1899 وصرح فيه هرتسل بأن مساعيه كانت متجهة للحصول على امتياز من السلطان عبد الحميد ولكنه لم يوفق"، وكادت آمال الصهاينة في فلسطين يقضى عليها بسبب أوامر الباب العالي بتحديد مدة الإقامة لليهود فيها بعدما ثبت له انتعاش الحركة الصهيونية، فاحتجت إيطاليا والولايات المتحدة على الأوامر العثمانية "فرفض الأتراك كل تدخل بهذا الشأن" فتوجه هرتزل في سنة 1901 لمقابلة السلطان عبد الحميد الذي منحه وساماً (لإثارة غيرة الدائنين الفرنسيين والحصول على مكاسب للدولة العثمانية منهم) فظن هرتزل أن مهمته أنجزت (ولهذا صدرت عنه تصريحات صحفية متفائلة اتخذتها الدكتورة مطعناً في السلطان رغم أنها لم تكن مثمرة كما سيأتي، ولهذا لم يلتفت لها محمد كرد علي وقال عن هرتزل:) ولكنه "فشل في سياسته ومفاوضته" رغم كل التنازلات التي منحها للسلطان "وظل اليهود يباشرون بعض الأعمال الاقتصادية والزراعية في فلسطين في شيء من التقية والتكتم" ودخلت الصهيونية دور الجمود والتراجع بوفاة هرتزل سنة 1904 وشعر قوادها أن "استرداد الأرض المقدسة شيء بعيد المنال حتى إن الحصول على قطعة من الأرض أمر عسير... ولما غُلبت تركيا وحلفاؤها وعقد مؤتمر باريز، دخلت الصهيونية في طور جديد"،[13] هذه هي الصورة التي يعرضها أحد المعارضين البارزين للسلطان عبد الحميد، وهو معارض أدرك النكبة سنة 1948 ومع ذلك لم يحمل السلطان جريرتها، وهو يضع الحوادث في مكانها: هزيمة تركيا أدت إلى دخول الصهيونية طوراً جديداً، وليست تركيا هي التي أدخلت الصهيونية هذا الطور، وهذه هي صورة الأحداث كما وقعت في حجمها الطبيعي، وإن المزايدة على ذلك باتهامات مضخمة وصلت إلى نهايتها المنطقية عند بعض "المراجعين" باتهام السلطان صلاح الدين الأيوبي نفسه بتسهيل الاستيطان اليهودي في فلسطين رغم غرابة هذا الاتهام الذي لم يخطر على بال أحد في زمنه، ولكنها روح "المراجعة" التي تدعي الإتيان بما لم يعلمه حتى أصحاب الشأن أنفسهم.

ومن معارضي السلطان عبد الحميد البارزين، السياسي العربي السوري المخضرم الأستاذ فارس الخوري (1877- 1962) الذي عاصر مختلف العهود العثمانية والاستعمارية والاستقلالية وكان قريباً من القضية الفلسطينية وعاش مختلف تطوراتها في تلك العهود، ولما خُلع السلطان عبد الحميد قال قصيدة في ذمه بسبب استبداده، وبعد تتابع الأحداث وتوالي الكوارث على بلادنا قال يوما لمحمد الفرحاني وفقاً لما جاء في كتاب "فارس الخوري وأيام لا تنسى": "لم أندم في حياتي على شيء ندمي على القصيدة التي نظمتها إثر إعلان الدستور العثماني وهجوت بها السلطان عبد الحميد الثاني، حيث تأكد لي فيما بعد بما لا يقبل الجدل أن هذا الخليفة الإسلامي قد راح ضحية ثأر اليهودية العالمية التي ساءها رفضه لاقتراح تيودور هرتسل واتخاذه مختلف الوسائل لمنع اليهود من الهجرة إلى فلسطين ووضعه قانون الجواز الأحمر الخاص بكل يهودي يدخلها للسياحة والزيارة، ومنعه إياهم من تملك الأراضي، مما أدى لحنقهم عليه وشروع منظماتهم بالعمل مع الدول الاستعمارية على مناوأته شخصياً وعلى كيان الدولة العثمانية"،[آثار] فأين هو من اكتشافات الدكتورة فدوى أن السلطان عبد الحميد هو الذي سهل قيام الكيان الصهيوني ويتحمل المسئولية الأولى والأخيرة بناء بنيته التحتية وفي تسرب الأرض للصهاينة؟ وإذا كان رجل بهذا الحجم لم يلحظ ما لحظته الدكتورة، هل يمكن وصفه أيضاً بالغفلة والتفريط؟

ومن معارضي السلطان الذين أنصفوا موقفه من فلسطين الشيخ أسعد الشقيري أحد وجوه جمعية الاتحاد والترقي ووالد الأستاذ أحمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية والذي كان معتقلاً في زمن عبد الحميد ومع ذلك لما رأى ما حاق بوطنه بعد زمن السلطان أضفى على موقفه مسحة عاطفية رغم الخلاف السياسي ولم يبع نفسه للأعداء الذين "حرروه من الاستبداد العثماني" فكان "يتحدث بحرارة المؤمن المنافح عن أيام الباب العالي في إستانبول وعن الموقف الشهير الذي وقفه السلطان عبد الحميد في رفضه استقبال هرتسل مؤسس الصهيونية"،[14] ولم يتبن كذلك أي اتهام للسلطان مع توفر الدواعي الشخصية للانتقام.

وقد اقترح أحد الدبلوماسيين العثمانيين، واسمه علي نوري بك، والذي أصبح من معارضي السلطان عبد الحميد، على هرتزل خطة للإطاحة بحكم السلطان لتحقيق أهداف الصهيونية، وذلك كما جاء في مذكرات هرتزل (1904/2/24)، أي أنه حتى عدو السلطان ومن لا يأبه بفلسطين لم يستطع اتهامه بتسهيل مهمة الصهيونية وكان يرى أن القضاء على حكمه هو السبيل لتحقيق أهدافها.

وهناك أيضاً قول المؤرخ اليهودي إيلان بابه أيضاً في معرض تقويم تطور الاستيطان الصهيوني إن المجتمع الفلسطيني الريفي لم يشعر بآثار الصهيونية إلا بعد الحرب الكبرى الأولى (1914- 1918) رغم إحساس بعض القيادات المحلية بهذا الخطر منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، وإن الصهيونية كانت زوبعة في فنجان لمعظم السكان الفلسطينيين، فقد كانت المستعمرات قليلة، وقلة من القرى احتكت بها، ولم يكن قبل الحرب والحملات الكبرى لشراء الأراضي أن شهد الفلاح الفلسطيني أحداثاً ستغير حياته جذرياً [آثار].

والتفسير الأقرب هو أن كل المقاومين والمحذرين كانوا يتحدثون عن خطر آت وليس معاصراً ولهذا يجب وضع الإجراءات العثمانية في خط متصاعد كما قالت الدكتورة إنها تفعل (ص 231) ولكنها لم تفعل، فالتحذيرات من نوايا اليهود لا يعني أن خطرهم بلغ الزبى وجاوز الطبيين لاسيما أن الدكتورة نفسها تتحدث عن تطور في الاستيطان إذ كان في البداية فردياً حتى سنة 1900 قبل أن يتحول إلى التنظيم (ص 100) كما أن علاقة أوائل المهاجرين مع الفلسطينيين كانت عادية وغير عدائية (ص 185 و187)، ولهذا رأينا أن الإجراءات العثمانية تتصاعد مع الزمن وزيادة وضوح الخطر، ويمكننا أن نشبه الأمر بالتحذيرات في زمننا من كثرة العمالة الآسيوية على المستقبل السياسي لبعض الدول العربية وهي تحذيرات يشارك فيها مسئولون رسميون ومع ذلك نجد استمرار تدفق الوافدين من هناك مع استمرار الإجراءات ضد كثرة أعدادهم، فهل يخيل لأحد منا أن هذه الدول التي بلغت العمالة الآسيوية فيها أعداداً أعلى من سكانها الأصليين تنوي شراً بمستقبل رعاياها أو حتى بسيادتها على أراضيها؟ أم أن التفسير الأقرب والذي ربما لا يكون تفكيراً صائباً أن هذه الدول تعتقد أن سيادتها كفيلة بإزاحة أي غريب وبأي عدد عندما يتعدى حدود الإقامة؟ وهذا ما حدث بالفعل في زمن الدولة العثمانية عندما رحلت الآلاف من اليهود من فلسطين زمن الحرب الكبرى لاتهامهم بالولاء للحلفاء، وقد قدر مؤرخون هذه الأعداد بثلث المستوطنين كلهم [آثار] مع توقف الهجرة إلى فلسطين،[15] وهو ما حدث أيضاً في تصدي العثمانيين لعمليات استيطان أكثر خطراً في زمنهم من الاستيطان الصهيوني بسبب وقوف دول كبرى خلفها بشكل أكبر من تأييدها للاستيطان الصهيوني الذي لم تقف دولة خلفه بشكل رسمي كما يبدو من كلام الزعيم المصري المذكور آنفاً، ولهذا أبدت الدولة حزماً في رفض الاستيطان الفرنسي والبريطاني والأمريكي بل حتى استيطان أصدقائها الألمان الذين كانوا يحلمون بنقل مليوني مستوطن على طول خط حديد بغداد، وقال لهم السلطان "لا" مدوية رغم حاجته إلى التأييد الألماني على كل الصعد السياسية والعسكرية والتقنية والاقتصادية [مقال: عندما تصبح الفنون الهابطة مصالح غربية عليا علينا تبجيلها (موقع التجديد العربي: 2012/10/14)]، ولهذا لا تصلح المصالح لتفسير "تفريط" السلطان عبد الحميد في أرض فلسطين، كما كان الموقف العثماني الرافض للاستيطان الصهيوني هو حجة بريطانيا في رفض مشروع هرتزل للاستيطان في سيناء حتى لا تثير المشاكل مع السلطان العثماني.[آثار]

وبغير هذه النظرة التاريخية التي تنظر للحدث وفق ظروف زمنه قام بعض المطبعين بسحب تهمة تسهيل الاستيطان اليهودي على حوادث قديمة جداً لا علاقة لها بالصهيونية المعاصرة كاستقبال العثمانيين يهود الأندلس الفارين من البطش الإسباني واسترسل بعض المعارضين في الأحلام ليروا السلطان صلاح الدين الأيوبي مسهلاً الاستيطان اليهودي منذ ثمانية قرون حينما كان اليهود مجرد أفراد والخطر آتياً من فرنجة أوروبا ومع ذلك تم إسقاط الصهيونية المعاصرة على القرون الخالية،(!)[16][آثار] وعندما نريد وضع قضية الهجرة اليهودية في سياق أحداث عصرها يمكننا الاطلاع على مؤلفات ضخمة ككتاب هنري لورنس (مسألة فلسطين) وليس بتسليط المكبر على بقعة محددة لم تكن في حينها هي الشغل الشاغل لإدارة الصراع العالمي أو المطالبة بتحقيق أهداف لم تصبح مركزية إلا في أزمنة لاحقة.

3- إلصاق جرائم الآخرين بالعثمانيين: ومن أدلة الرغبة الملحة في إدانة السلطان عبد الحميد دون مستند حقيقي، تحميل السلطان "المسئولية الأولى والأخيرة" في نجاح سيرورة البنية التحتية التي أسست عملياً لقيام الكيان الصهيوني وفي تسرب الأراضي الفلسطينية للصهاينة (ص 34 و43 و47 و233)، ألا يجد القارئ في هذه العبارات تحميلاً للتاريخ أكثر مما يجب وإغفالاً لدور كل من تعاقبوا على فلسطين بعد الدولة العثمانية ومنحهم براءة غير محدودة ينسينا دور بريطانيا المركزي زمن الانتداب، والذي أجمع عليه المؤرخون وأصبح من أساسيات تاريخ القضية الفلسطينية، ودور الزعامات العربية بشقيها الثوري والتقليدي في تسليم فلسطين؟ هذا بالإضافة إلى تحميل السلطان مسئولية الاعتراف الدولي من حكومات العالم، الذي حققته الصهيونية، ومسئولية ضمان حقوق إقامة دولة يهودية (ص 27 و43)، بل التمهيد أيضاً لوعد بلفور (ص 178) وهو تحميل للموقف أكثر مما ينبغي بمراحل: وكأن بريطانيا ودول الغرب كانت تنتظر أن يصل الصهاينة لمفاوضة السلطان كي تلتفت إليهم، وكأن الغرب كله لم يخترع الصهيونية قبل هرتزل بثلاثة قرون، وكأنه لم يلتفت أحد قبل هرتزل نفسه، لا نابليون زمن الحملة الفرنسية على الشرق ولا ساسة بريطانيا زمن محمد علي إلى فوائد الكيان اليهودي في فلسطين، وكأن الصهاينة لم يتصلوا بأحد، حتى الإمبراطور الألماني، قبل السلطان عبد الحميد ولا بعده حتى كان هو الذي "رفع" مكانتهم وهيأهم للاتصالات الدولية، فأي تجاوز هذا للحقائق التاريخية المعروفة والموثقة؟

كذلك القول إنه ساعد على تأسيس دولة لليهود في فلسطين (ص 43 و186) (تماماً كما "ساعد" صلاح الدين من قبله على ذلك وفقاً "لاكتشافات" أخرى).

4- التركيز على مواقف عابرة لا تعبر على مسار الأحداث ولا نتائجها: تأويل الكلام الذي صدر من عزت باشا العابد عن الموافقة على دخول الصهاينة لأراضي الدولة وفعل "ما يشاءون" وتبني استنتاج هرتزل "لغمزة" wink من الباشا تخيل منها زعيم الصهيونية "عدم الاعتراض" على ما يريده الصهاينة،[17] وتصويره "كجواب نهائي" للسلطان (ص 168) مع أن "الرد النهائي" باعتراف الدكتورة نفسها في الصفحة القادمة (ص 169) أتى بعد ذلك من تحسين بك وكان مختلفاً عن "الغمزة" السابقة، أو حتى عن تأويل هرتزل وإضافة الدكتورة على استنتاجه لهذه "الغمزة" التي من المهم عندما نحاول فهم أهميتها أن نضعها إلى جانب مدى تحقق مطالب هرتزل على الأرض لنعرف متى حقق الصهاينة "ما يشاءون" كما أوعز عزت باشا في إشارة حمّلها خيال هرتزل ما لا تحتمل ولا يمكن أن نجد تصديقاً لها على أرض الواقع، كما لا يمكن أن نجعل من أية "غمزة" في أية مفاوضات هي الميزان الحقيقي لتقويم عملية التفاوض، لاسيما أن هناك كلاماً كثيراً يقال في المفاوضات لغايات غير تطبيقية، وهذا هو بالضبط ما فعله عزت باشا في هذه المقابلة مع هرتزل (فبراير/ شباط/ فيفري 1902) كما سيتبين بعد قليل، وبهذا أصبحت الظنون الخاطئة في عملية التقويم التي تبناها الكتاب أدلة موثقة ويقينية لا خلاف عليها بل أصبحت هي جواب السلطان النهائي وموقف الدولة الرسمي(!)

ومن ذلك تصيد الأخطاء وتضخيم الحوادث بطريقة تخرج عن الإطار البشري في التعامل مع أية ظاهرة أو حدث دون الاهتمام بالنتائج الحقيقية لما يوصف بالتفريط: فمرة يلام السلطان لأنه لم يطرد هرتزل أثناء زيارته لفلسطين (ص 38) ويصبح دخوله فلسطين عنواناً لتفريط السلطان (ص 38)، وأخرى لأنه سفره على نفقته (ص 145)، أو استقبله بتكريم (ص 37)، أو فاوضه (ص 28)، أو قابله (ص 25 و148)، دون إعطاء الحدث وزنه كما بدا وقته حين كان هرتزل مجرد صحفي وليس رئيس وزراء على غرار بن غوريون الذي كان يتصل بزعماء العرب خفية في البداية ثم صار خلفاؤه الأكثر إرهاباً كمناحيم بيغن وإسحق شامير وأرييل شارون يجتمعون مع العرب في وضح النهار، ودون ذكر ما أهمية كل ذلك مادام هذا التكريم والاعتناء والحرص والوفادة والمفاوضات المترددة والمتساهلة كما يقول الكتاب قد أسفرت جميعها عن عدم منح هرتزل ما يريد خلافاً لوضع خلفائه مع بريطانيا والعرب، فلا معنى للتساؤل عن مهمة هرتزل في فلسطين وبأي صفة قابل الإمبراطور الألماني فيها وتضخيم هذا الحدث وإعطائه أبعاداً غير تاريخية لأن هرتزل وقتها كان بلا صفة رسمية ولا أهمية له وهو مجرد صحفي يحمل مشروعاً مغامراً كبقية مشاريع ذلك العصر والتي يسعى أصحابها للفت أنظار الزعماء، مع أن كل المآخذ على السلطان هي الفرمانات الجزئية التي استفاد منها الصهاينة العمليون أنصار التسلل، الذي لم يكن له أية نتيجة إيجابية، دون أنصار هرتزل السياسيين.

بل إن المؤرخ جون هاسلب الذي لقب السلطان عبد الحميد بالسلطان الأحمر في كتابه عنه يضع هذا "التكريم" لهرتزل في إطار مناقض للتكريم الحقيقي فنقرأ أن هرتزل حصل على علبة تبغ مرصعة بالجواهر بدلاً من مطالبه التي كانت ستغير مجرى التاريخ،[18] وقد لجأ كتاب الدكتورة إلى انتزاع الإدانة من أي حدث ولو بالقوة: فالسلطان تظاهر بتلبية مطالب هرتزل الذي لم يأخذ رفض السلطان على محمل الجد وأنه مجرد موقف تفاوضي لانتزاع المزيد (ص 178) مع أن المفاوضات فشلت كما جاء في الكتاب في غير موضع، واتهم الكتاب السلطان كذلك بكونه عزل (جميع) الولاة المخلصين (ص 181)، وهو كلام ليس دقيقاً كما سيأتي، كما أن عدم تتبع السلطان لسفرات هرتزل وإعاقتها يعني بالتأكيد تواطؤاً، وتصريح السلطان بكون اليهود عاشوا بأمان في الدولة العثمانية "شكل أكبر عامل جذب لليهود إلى فلسطين" (ص 179) مع أن هذا الكلام قيل لتذكيرهم بجميل الدولة عليهم وعدم قبولها بمزيد من المطالب السياسية،[19] وهكذا تُحوّر الحقائق وتُلوى أعناقها لتُحشد بأي ثمن وتُسخّر في سبيل الإدانة وحدها.

ويسترسل حشد الأدلة الضعيفة بالقول إن السلطان كان يعلم بأنه يمكن لليهود التسلل إلى فلسطين من أنحاء الدولة التي سمح لهم الاستقرار فيها (ص 17)، وبهذا انقلب رفض السلطان الاستيطان في فلسطين إلى قبول به عبر الحفر في النوايا التي لم تغر هرتزل نفسه ولم يفهم منها ما فهمته الدكتورة حين لم يوافق على الهجرة اليهودية إلى أنحاء الدولة العثمانية كمقدمة للوثوب على فلسطين[20] (ص 177) رغم أن العرض مغر لو كان بهذه البساطة ولكن هرتزل عده من دلائل عدم المرونة[21] وليس التساهل والتفريط الذي يدعيه الكتاب.

وعلى أي حال نحن بانتظار الكشف عن نموذج عربي وطني أو قومي لم يتورط يوماً في الموافقة على مفاوضة الصهاينة مفاوضات "مترددة ومتساهلة ومتراخية" كما وصفت مفاوضات السلطان (ص 36 و37 و149) تجاه الصهاينة ولكنها خرجت بنفس النتيجة السلبية لمطالبهم وجعلتهم يفشلون في تحقيق أهدافهم السياسية (ص 31 و43) كما حصل مع السلطان عبد الحميد وفقاً لإقرار الدكتورة ومقدم كتابها، هذا فضلاً عن تقديم نموذج عربي عن عدم القبول باستيطانهم ثلاثة أرباع فلسطين وذلك رغم عدوانهم ووضوح خطرهم، ولا مانع حينئذ من صرف الصهاينة من بلادنا بعلب سجائر فاخرة عوضاً عن أرضنا وحقوقنا.

5- عدم ذكر الإجراءات العملية التي اتخذها السلطان ضد الهجرة اليهودية: وذلك مع كون الكتاب "لا يغادر صغيرة ولا كبيرة" إلا أحصاها (ص 36)، بل النص على كون السلطان لم يفعل شيئاً (ص 17) وأن كلامه يناقض فعله (ص 32 و232) وأن المنع الحكومي لم يؤد إلى تخفيف الاندفاع اليهودي نحو القدس (ص 71 و75 و76 و79 و81 و82 و87 و131 و218 و220) وأن القرارات كانت حبراً على ورق ولم تنفذ (ص 75 و81) والمبالغة في ذكر "انهيار جميع القرارات والقيود التي فرضت على الهجرة اليهودية إلى فلسطين" سنة 1888 نتيجة بعض التراجع (ص 92) وهذا ليس صحيحاً حتى بمنطق الدكتورة التي اعترفت بعدم استجابة الدولة لكامل طلبات القناصل (ص 107) وأنها كانت تضع الكثير من المعيقات في وجه المستوطنين (ص 125)، وأنها ظلت متمسكة بمنع الشركات اليهودية الخارجية من شراء الأراضي في فلسطين (ص 134)، وأن المستوطنين اليهود لم يكونوا يستطيعون جلب عمال من الخارج بسبب قيود الهجرة (ص 185) كما أن المستوطنين قرروا مقاومة الفرمانات العثمانية وتسهيل الهجرة في اجتماعهم السري بفلسطين سنة 1902 (ص 170)، ولو كانت الإجراءات غير مؤثرة فلم الاهتمام بمعارضتها؟ ولماذا طالب هرتزل السلطان بإلغائها (ص 178)؟

ومن المهم ملاحظة أن التراجع عن الإجراءات المشددة لم يؤد إلى الترخيص كما يوحي الكتاب (ص 34) بل إلى تخفيف التشديد بعض الشيء مع استمرار سياسة المنع وهو ما كان له نتائج هامة لم يذكرها الكتاب، فأغفل عزل الولاة المتساهلين (ص 213) أو ذكر الأمر عرضاً وكأنه ليس إنجازاً مهماً (ص 214)، والاقتصار على ذكر "إبعاد كثير من الولاة المخلصين" (ص 231) بل عزل "جميع" الولاة المخلصين (ص 181) بمجرد أن يتخذوا إجراءات عملية ضد الصهيونية (المحاضرة) مع أن العكس هو الصحيح وفي هذا يقول الدكتور أنيس عبد الخالق محمود: "كان عزل المتصرف رءوف باشا، المشهور بحماسه وتأييده سياسة السلطان، بتأثير من الوزير المفوض الأمريكي في استانبول، اليهودي أوسكار شتراوس، بينما أدت الاحتجاجات العربية إلى عزل متصرفيْن، هما رشيد باشا وأحمد رشيد بك، في حين كان لضعف المتصرفين الآخرين إبراهيم حقي باشا ومحمد جواد بك وعثمان كاظم بك، وتسهيلهم مهمة الصهاينة بالاقتراض من الشركة الأنكلو- فلسطينية، الدور الأكبر في عزلهم، كما قام رجال تركيا الفتاة بعزل آخر متصرف خلال حكم السلطان عبد الحميد، علي أكرم بك، عن منصبه، لتشدده في تنفيذ تعليمات السلطان"،[22] ويجب أن نذكر أن الوالي المخلص رءوف بك استمر في الحكم 12 سنة وهي مدة استثنائية لوال وليس سنتين كما ادعت الدكتورة (ص 78)، هذا بالإضافة إلى أن آخر ولاة السلطان، علي أكرم بك، تميز بالتشدد في تطبيق القوانين ولم يعزل إلا بعد ثورة الاتحاد والترقي 1908، وقد حاول الكتاب رسم الانطباع بوجود معارضة لسياسة أكرم بك في العاصمة (ص 85) حيث مقر السلطان ولكن يجب التنبيه من واقع الأبحاث الجادة أن هذا الانطباع لا ينطبق على السلطان نفسه الذي كان داعماً لسياسة واليه الذي قام بإجراءات كثيرة في كبح التمدد الصهيوني وأن المعارضة كانت من مراكز قوى منتفعة وأنه ظل في منصبه إلى قيام الثورة ضد السلطان،[23] وهذا يناقض قول الدكتورة إن زيارة هرتزل أدت إلى عدم اتخاذ أي إجراء فعال ضد الهجرة وإنه ضمن عدم اتخاذ قرارات سلبية (ص 92- 93)، مع أن هذا يمكن أن يرضي الصهاينة العمليين التسلليين وليس هرتزل الباحث عن الميثاق الفرماني والوعد السياسي ولم يكن مهتماً بالهجرة الفردية (ص 152) بل ضد فكرة التسلل غير الشرعي (ص 177)، ولهذا فلا معنى للاستنتاج بأن التسهيلات أعقبت زيارة هرتزل (ص 88 و177) لأنها لم تكن من مطالبه الكبيرة أصلاً.

وهناك أيضاً إغفال عودة نصف المهاجرين اليهود تاركين فلسطين بسبب التضييق العثماني [آثار]، وهو ما يؤكده بن غوريون نفسه الذي قال: "لقد قام نصف المهاجرين إلى فلسطين في تلك الأيام الأولى بالعودة من حيث جاءوا على نفس السفن التي قدموا عليها"، ويضيف باحثون آخرون مصدقين إنه حدث أكثر من ذلك، إذ ربما عاد 80% من مجموع الهجرة الثانية (34 ألفاً) إلى أوروبا أو أكملوا طريقهم إلى أمريكا،[24] ويغفل الكتاب أهمية تجميد مشروع مونتفيوري رغم الاعتراف بتعطيله (ص 101)، وينكر الاستجابة لمطالب أهل فلسطين (ص 173 و220) مع ذكر العكس الذي يؤكد تلك الاستجابة في أكثر من مثل (ص 133 و190 و194- 195 و209) والنص على عدم التفات السلطان لشعب فلسطين وإقراره إعدام معارض الصهيونية(!) (ص 38 و212 و214) مع أن الحكم صدر لأسباب تآمرية أخرى كما سيأتي، ومع نص المؤرخين ستانفورد شو والدكتور حسان حلاق على خلاف ذلك الإهمال المزعوم لنداءات شعب فلسطين [آثار] ونص حلاق على غض الحكومة النظر وعدم معارضتها للمقاومة الشعبية الفلسطينية للمشروع الصهيوني،[25] وقد ذكرت الدكتورة نموذجين لذلك (ص 197 و214) ولكن دون أي استنتاج يناظر الاستنتاجات المعاكسة من ظواهر أقل شأناً، أو الخروج بأي فكرة تناظر "تواطؤ الحكومة العثمانية في انتقال الأراضي"، وتغفل أهمية رفض الوساطة الألمانية رغم التأييد الألماني للصهيونية (ص 158- 159) ومع ذلك فضّل الإمبراطور ويلهلم صداقة الدولة العثمانية على مشاريعه الخاصة بالصهيونية و"تراجع عن موقفه" نتيجة "فتور السلطان" (ص 160- 163)، والتركيز بعد كل هذا الإنجاز على عدم طرد هرتزل أثناء زيارته فلسطين (ص 161)، فلماذا لم يحاول الكتاب موازنة هذا الرفض القوي لمساعي ألمانيا مع الضعف الذي وسم موقف الدولة من ضغوط أخرى بدل الانشغال بتفاصيل عقيمة كملاحقة صحفي جوال وجعل "التساهل" في دخوله الأراضي العثمانية "تلخيصاً لسياسة التفريط التي وسمت الحقبة الحميدية" (ص 38)؟ في الوقت الذي لا يذكر الكتاب إنجازاً هاماً هو رفض السلطان عبد الحميد إنشاء الجامعة العبرية التي احتفى بها أنصار التغريب فيما بعد في عهد الانتداب البريطاني، وجاء رفض السلطان رغم الإغراءات التي قدمها هرتزل في هذا الشأن، وبهذا يتبين أن المؤرخين الآخرين الذين اتهمهم الكتاب بتشتيت القارئ لم يكتفوا بذكر القرارات النظرية كما ذكر الكتاب (ص 131) بل كان لهذه القرارات آثار عملية جعلت من زوال السيادة العثمانية على فلسطين زلزالاً بتعبير الدكتور وليد الخالدي.[آثار]

والصحيح أن الكتاب يذكر التصريحات الرسمية مقابل الثغرات وحدها ولا يذكر الإنجازات الكثيرة التي تحققت أو يذكرها دون الالتفات إلى أهميتها أو استنتاج ما يترتب عليها فوقع فيما اتهم الآخرين به.

6- تحريف الوقائع العملية المتعلقة بالموقف من الهجرة الصهيونية: وذلك كما لخصت الدكتورة موقف السلطان بقوله لهرتزل: "إعمل ما تشاء" (المحاضرة)، والموافقة على إعدام عازوري بسبب موقفه من فلسطين (ص 212 و214)، ومكافأة كاظم باشا بسبب تفريطه (ص 212)، وعدم ذكر عزله (ص 213)، والادعاء بعزل أكرم بك، والادعاء أن اليهود "تمكنوا من تحقيق أهدافهم حتى لو لم يقدم السلطان أي تعهد رسمي" (ص 173) وكلها أحداث ملفقة لا أصل لها (فالحكم على نجيب عازوري لم يكن بسبب موقفه من الصهيونية بل بسبب تأسيسه حزباً قومياً هدفه إنشاء امبراطورية عربية والتحرر من الدولة العثمانية،[26] أما كاظم باشا فقد تم عزله من متصرفية القدس في نفس الوقت الذي طالب فيه عازوري باستبعاده من المنصب في القدس على خلفية تساهله مع الصهاينة (1904) (ص 213) ونقل إلى حلب وهو ما لا تذكره الكاتبة وتكتفي باقتباس نص يقول إن السلطان لم يفعل شيئاً ضد تساهل كاظم باشا مع الصهيونية وإنه تمت مكافأته والحكم بإعدام عازوري مما يوحي بأن سبب الإجراءين هو سياسة التفريط بفلسطين (ص 212)، أما علي أكرم بك فلم يعزله السلطان بل عُزل بعد ثورة الاتحاد والترقي التي حاولت لبرهة مقاربة المسألة الصهيونية بشكل مختلف)، وقد نقضت الدكتورة بنفسها بعض اتهاماتها عندما قالت بعد الجملة الأخيرة عن تحقيق الأهداف الصهيونية وفي الصفحة التالية "فشلت المفاوضات في تحقيق أهدافها المباشرة" (ص 174) وإذا كان اليهود قد حققوا أهدافهم بالتسلل فما هي أهمية المفاوضات المطولة ولماذا دخلوا فيها؟

ومن التحريف أيضاً الادعاء بأن هرتزل لم يأخذ رفض السلطان على محمل الجد لأنه موقف تفاوضي (ص 178)، مع تكرار الاعتراف بفشل المفاوضات ثم الاستدراك بأن السلطان غض النظر عن التسلل، وإيجاد الانطباع بكون الإجراءات العثمانية ليست سوى حبر على ورق ولا قيمة عملية لها وهذا ليس صحيحاً لأن ما يؤخذ عليه هو التراجع أمام ضغوط الدول الكبرى وإصدار فرمانات جزئية ولكن كل ذلك لم يلغ القيود المفروضة على عكس استنتاج الكتاب بأنه غض النظر وهناك فرق كبير بين التراجع التكتيكي مع إبقاء القيود، وغض النظر ورفع الحظر وإلغاء الإجراءات، بل الادعاء بأن أي قرار يصدر يصبح لاغياً وباطلاً من تلقاء نفسه (ص 218)، ولهذا وجدنا أن عرض الدكتورة للأحداث نفسها يختلف عن عرض خبير متخصص كالدكتور عبد العزيز محمد عوض الذي ذكر جميع التراجعات ولكنه لم يبخل بذكر مواقف الثبات والتمسك بالقرارات أيضاً فلم يخرج بنتائج متطرفة كنتائج الدكتورة.[27]

وإذا كان السلطان يراوغ هرتزل وأهالي المنطقة في وقت واحد (ص 181) وهو يريد إدخال اليهود دون إثارة الأهالي فلماذا كان يرسل الجواسيس الذين يرسلون له التقارير عن الاستيطان، والمسئولين المرتشين "خلافاً لإرادة السلطان" (ص 188- 189) فهل وصل السلطان إلى حد خداع جواسيسه الذين ينفذون إرادته المباشرة؟ وهل كان السلطان يسعى لاختلاق مشكلة أقلية جديدة مع اتفاق الجميع بمن فيهم الدكتورة على سياسته المناقضة لذلك؟ أم أنه يمهد السبيل لاستقلال اليهود عن دولته؟

7- الاعتماد على الأرقام الصهيونية المتحيزة: وذلك لإثبات أعداد المهاجرين اليهود في زمن السلطان عبد الحميد، وتبرير هذا بكون المراجع العربية والصهيونية اعتمدتها وأنها تعتمد على الإحصاءات الصهيونية والعثمانية وهذا كله ليس صحيحاً، فالإحصاء صهيوني وليس عثمانياً أو على الأقل هناك أرقام عثمانية أكثر وثوقاً كما بين أكثر من باحث، والرقم الصهيوني استهدف التمويه والتضليل أو تضخيم الحضور اليهودي كما يقول الخبيران في الموضوع الدكتور محمد عيسى صالحية[28] والدكتور سلمان أبو ستة،[29] وذلك لأسباب سياسية معروفة، وهي أرقام طالها بالنقد والتعديل باحثون جادون لم يستسلموا للادعاءات الصهيونية وأهدافها منهم الدكتور محمد عيسى صالحية،[30] والبروفيسور جستن مكارثي[31] الذي بنى عليه كل من الدكتور سلمان أبو ستة[32] وهنري لورنس الذي أشار إلى المبالغة في الأرقام السائدة،[33] وقد اعتمدوا أرقاماً عثمانية معدلة تعتمد على منطق أقرب إلى الواقع حيث كانت الدولة العثمانية تحرص على إحصاء النفوس لأجل التجنيد ودفع الضرائب،[34] ولكننا لا نجد أثراً لكل ذلك في بحث الدكتورة المعتمد على جهة كان من صالحها تضخيم أرقام الحضور اليهودي في فلسطين، وليس من الإنصاف اعتماد أرقام الصهاينة المتحيزة وإسباغ الصفة العثمانية عليها لاسيما أن المكتب الصهيوني في فلسطين أكد إحصاءات العثمانيين سنة 1914 كما أوردها مكارثي،[35] وزيادة على اعتماد الأرقام الصهيونية فإن الدكتورة تعرضها بصورة أكثر تطرفاً فلا تذكر أهمية اليهود العثمانيين الأصليين الذين لم يكونوا صهاينة بل كانوا ضد الصهيونية،[36] وكان تطور القوة الصهيونية على حسابهم ومؤدياً لتراجع قوتهم،[37] مما يجعل الزيادة الكلية من 24 ألفاً سنة 1882 إلى 80 ألفاً سنة 1908 وهي أكثر من خمسين ألفاً سببها الهجرة فقط والجميع في سلة الصهيونية في نظرها وهذا ليس صحيحاً، ويبلغ مزاد الأرقام منتهاه عندما تصبح الزيادة من 5 آلاف (بدلاً من 5% من سكان فلسطين) إلى 80 ألفاً، وهو ما صرحت به الدكتورة في محاضرتها في جمعية مناهضة الصهيونية وما صرح به مقدم الكتاب الأستاذ خالد الحروب (ص 46) وعريف المحاضرة الدكتور إبراهيم علوش مما يجعل هذه التأكيدات المتلاحقة أكبر من مجرد سهو عابر، ومن ذلك القول إن المهاجرين اليهود رفضوا الحصول على الجنسية العثمانية والخضوع لسيادة الدولة، والحقيقة أن مجموع اليهود في فلسطين قبل الحرب الكبرى وفقاً لأرقام جستن مكارثي الواقعية كان ستين ألفاً، منهم أقل من 39 ألفاً يقيمون بصورة قانونية بمن فيهم اليهود الأصليون الذين كان تعدادهم قبل الهجرات 15 ألفاً ولهذا من الطبيعي أن يكون رقم الهجرة المعترف بها بعد كل "التسهيلات" الرسمية وغير الرسمية والشرعية وغير الشرعية في حدود العشرين ألفاً، وأكثر من عشرين ألفاً غير معترف بإقامتهم ولم يحصلوا على الجنسية العثمانية،[38] أي لم يكونوا متمتعين بامتيازات وهم من المصنفين بكونهم ممنوعين من الإقامة،[39] أي هجرة غير شرعية لم تتمكن أكبر الدول من منعها في أراضيها حتى اليوم، ومن ذلك الادعاء أن المهاجرين الذين لم يحصلوا على الجنسية العثمانية لكونهم رافضي حملها بلغ عددهم خمسين ألفاً (ص 31 و217- 218) وهذا ليس صحيحاً لوجود كثير من المقيمين بلا انتساب لأي جنسية،[40] ولأن عدد جميع اليهود بمن فيهم المحليون والمهاجرون بلغ 60 ألفاً فقط سنة 1914 وبالأرقام المضخمة 85 منهم 35 من المحليين وذريتهم، وإذا أردنا تحديد مسئولية السلطان عبد الحميد سنجد أن عدد اليهود المعترف بهم زاد من 15 ألفاً قبل الهجرات (1881) إلى أقل من ثلاثين ألفاً سنة 1908[41] بمن فيهم الزيادة الطبيعية لليهود الأصليين الذين كان كثير منهم من غير الصهاينة بل من أعداء الصهيونية، فالأمر ليس كبيراً إلى الحد الذي يصوره كتاب الدكتورة فدوى، والذين حملوا الجنسية من المهاجرين وخضعوا للقوانين العثمانية عددهم أكبر من الذين لم يحملوها من المقيمين إقامة قانونية وهم المسجلون بالقنصليات ويتمتعون بالامتيازات وهناك قسم كبير غير معترف بهم،[42] ولا يتمتعون بالامتيازات على عكس ما ادعاه الكتاب (ص 217)، المهم أن عدد الدكتورة ليس صحيحاً مطلقاً، وفي أفضل الأحوال يمكن القول إنها رغم اطلاعها على الاختلافات الكبرى في موضوع الأرقام (ص 78) والتي تجعل من الممكن أن تنقلب النتائج رأساً على عقب اختارت الاعتماد على أرقام ظنية وبنت عليها نتائج قطعية لا تترك مجالاً للتسوية مع آراء أخرى محتملة جداً، وفي هذا المقام هي ترفض منح الجنسية للمهاجرين (ص 181) وتذم عدم منحها في نفس الوقت من باب عدم التزام المهاجرين بالقوانين العثمانية (ص 217- 218).

وإذا كان يمكن القول إن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني "بدأ" في فلسطين في زمن السلطان عبد الحميد (ص 107)، فهذا لا يقود بشكل آلي إلى الموافقة على الاستنتاج المضخم بأن البنية التحتية زرعت في هذا الزمن وأن السلطان يتحمل وحده المسئولية عن تسرب الأراضي الفلسطينية للصهيونية في تجاوز كبير على الحقائق التاريخية التي أكدت أن بريطانيا هي التي أسست البنية التحتية التي لم يكن لها أي أساس راسخ قبل ذلك وإلا فلا معنى أصلاً لصدور وعد بلفور، وفي هذا يقول الدكتور وليد الخالدي إنه لولا البراءة البريطانية لما أدت إنجازات الصهيونية إلى ما أدت إليه بعد وعد بلفور.[43]

8- الاعتماد على حصر الاحتمالات التاريخية بصورة تحكمية: فعندما يكون الحدث مبهم الدوافع عند الكاتبة تلجأ بطريقة ظنية لسبر النوايا والخفايا التي تنافي الحقائق المعروفة عن هذه الحوادث، وفرض إجابة واحدة لا شريك لها على الحدث، مع أن تفسير التاريخ لا يكون وفق القاعدة الرياضية: إذا كان... فإن، لأن الخيارات البشرية متعددة ولا تخضع لحسابات رياضية، فمثلاً: إذا كانت الدولة العثمانية بعد السلطان عبد الحميد لم تسلم فلسطين للصهاينة فإنه لم يُعزل بسبب موقفه الرافض تسليم البلد (ص 226) وهذا يناقض الحقيقة المعروفة أن جمعية الاتحاد والترقي كان لها مقاربة مختلفة في بداية حكمها عن مقاربة السلطان عبد الحميد للمسألة الصهيونية، ولهذا قامت بعزله على أمل الإفادة من الصهاينة، ولكنها تراجعت عن ذلك فيما بعد ثم تذبذب موقفها في نهاية الحرب،[آثار] وكونها دافعت عن فلسطين ضد الحلفاء لا يستلزم بالضرورة أنها لم تحاول التفاهم مع الصهاينة في فترات أخرى كما هو مثبت في التاريخ، لاسيما أن المجال الصهيوني كان ساحة لتنافس القوى العظمى على كسب وده ولم يختر الصهاينة جانب الحلفاء بشكل حاسم إلا في مرحلة متأخرة.

ويترتب على ذلك الرأي الحصري للدكتورة وصف إدارة السلطان للدولة بالفشل الذي تسبب في عزله وليس قضية فلسطين هي السبب في ذلك كما تقول رغم إشارات كثير من الضالعين في دراسة المرحلة أن إدارته نجحت في تأجيل انهيار الخلافة ثلث قرن، حتى لو قلنا مع الكاتبة المحترمة إنه نجح في المحافظة على حكمه (ص 12)، ولن يمكننا الإحاطة بأقوال المؤرخين في هذا المجال، ويكفي بعض الاقتباسات، منها قول المؤرخ ديفيد جيلمور: "لقد كان تفكك الامبراطورية العثمانية على المدى البعيد حتمياً لأن الدول الغربية لم تستطع كبح جماح أطماع كل منها الأخرى في دول البلقان والشرق الأوسط، ولكن السياسة الحكيمة التي انتهجها السلطان عبد الحميد في المناطق الغربية (كذا في الأصل والصحيح: العربية) الخاضعة له أبطأت عملية التفكك، وفي محاولة منه لتأكيد تطابق المصالح بين الأتراك والعرب أقام المساجد والمدارس في جميع أنحاء سوريا والشرق، وأمر بإنشاء خط الحجاز الحديدي... استطاع عبد الحميد وخلفاؤه من تمديد عمر حكوماتهم وبالرغم من أن فساد العثمانيين ومطالبهم الخاصة بالتجنيد ونظامهم الضرائبي أثار قدراً من الاستياء في فلسطين، فإن الأتراك لم يواجهوا كراهية شعبية حتى نشوب الحرب العالمية الأولى، ولا غرابة في أن الكثيرين من الفلسطينيين الطاعنين في السن ينظرون إلى العهد العثماني بحنين وخاصة في ضوء ما مرّوا به من عهود لاحقة".[44]

ويقول الدكتور عادل مناع: "هناك اعتقاد مغلوط فيه وهو أن دور التنظيمات العثمانية قد انتهى مع اعتلاء السلطان عبد الحميد الثاني الحكم، أو حين تعطيل الدستور وحل البرلمان سنة 1878، هذه النظرة تختزل التنظيمات... إن العمل في الإصلاحات والقوانين لم يبدأ، فعلاً، في مجالات معينة، إلا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، فإقامة البلديات في المدن الصغيرة ومجالس الإدارة والمحاكم ودوائر الحكومة كمكاتب المعارف والنفوس وغيرها استمرت في ذلك العصر، والشيء نفسه يقال بالنسبة إلى افتتاح المدارس الابتدائية في المدن والقرى الكبيرة، وكذلك استمرت عملية تسجيل الأراضي وانتقال معظمها إلى الملكية الخاصة بدلاً من الدولة والأوقاف، فالسلطان عبد الحميد حارب رجال الإصلاح كجزء من محاربة الفكر الليبرالي، لكنه لم يرد عزل دولته عن مستجدات التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال العصرية، والتي كانت ضرورية أيضاً لتعزيز سيطرة أجهزة الدولة على ولايات الامبراطورية كافة. استمرت عملية شقة الطرق بين المدن الفلسطينية في عهد السلطان عبد الحميد، الأمر الذي سهل الاتصال بين السكان... كما أقيمت شركات جديدة لنقل المسافرين بالعربات على تلك الطرقات... واهتمت السلطات العثمانية بمنطقة شرق الأردن... أما المجال الأهم الذي أدخله العثمانيون في عصر السلطان عبد الحميد إلى هذه المنطقة فكان مد سكك الحديد... نجح السلطان عبد الحميد الثاني، جراء سياسته الإسلامية وتقريبه الكثيرين من الشخصيات العربية، في كسب ولاء وتأييد الأغلبية الساحقة من سكان المنطقة حتى حدوث الانقلاب وعزله عن العرش".[45]

أي أن إدارة السلطان عبد الحميد لم تكن فاشلة [سياسات: فقرة ثمار الإصلاح الحميدي في تقويم المؤرخين] كما يدعي كتاب الدكتورة، نعم لقد وُصفت هذه الإدارة بالاستبداد والأوتوقراطية والفردية ومحاربة الحرية، ولكنها لم تكن فاشلة، وليس من الضروري أن تكون الإدارة الديمقراطية هي الناجحة، وفي ظل ما عانته الدولة من التفكك والاستبداد المضاعف وفقدان الأراضي بعد تسلم أنصار الحرية الحكم، لم يفت ملاحظة العثمانيين في زمنهم والتأريخ فيما بعد، أن ما خسرته الدولة العثمانية من أراض في غضون مدة قصيرة من الحكم الدستوري أكثر مما خسرته في ربع قرن من الحكم الحميدي منذ احتلال مصر (1882)،[46] ولهذا فإن تهمة الفشل التي ألصقتها الدكتورة بحكم السلطان عبد الحميد منافية للواقع.

ومن الأمثلة كذلك على تجاوز الكتاب في الاستنتاجات الحصرية بعيداً عن الاحتمالات المتعددة الأكثر رجحاناً تعليق الدكتورة على "غمزة" عزت باشا لهرتزل بأنه لا مانع من أن يفعل الصهاينة "ما يشاءون" (ص 168) وهذا يعني في نظر الدكتورة أنه "يمكن أن تفهم هذه النصيحة أن بإمكانهم الحصول على فلسطين، ونحن لا نمانع بذلك، ولكن علينا أن نكون حذرين وإلا خسرنا كل شيء" وهي عبارة مستقى بعضها من استنتاجات هرتزل مع بعض الإضافات أيضاً، ولكن من حقنا التساؤل: أين هو التصديق العملي لهذه العبارة لاسيما في ضوء فشل هرتزل في الحصول على طلبه الميثاقي وهو ما رددته الدكتورة نفسها في أكثر من موضع، فمتى تمكن الصهاينة من فعل "ما يشاءون" إلا بعد انقضاء العهد العثماني؟ وهل يمكننا أن نجعل من "همسة" قيلت في أروقة مفاوضات معقدة هي القول الفصل، مع تناقضها مع ما حدث على الأرض؟ والحقيقة هي بكل بساطة كما يقول هنري لورنس: "لا ينجح هرتسل إذاً في كسب اهتمام الحكومة العثمانية بمشاريعه، على العكس، فهذه الحكومة إنما تسعى إلى استخدامه هو، فمهندس سياسة السلطان العربية، سكرتيره الثاني الشهير عزت بك، يقترح هجرة يهودية إلى ولايات أخرى غير فلسطين، وهو إذ يقترح على هرتسل الاكتتاب في قرض يصل قدره إلى مليوني جنيه عثماني... والبرهنة على نفوذه في أوروبا بالتحرك فيما يتصل بالمسألة الأرمنية، إنما يضعه على محك الاختبار، وفي اللحظة المباشرة يجري منحه ميدالية عثمانية سوف تسمح له بإثبات الحالة الممتازة لعلاقاته بالباب العالي"،[47] هذه هي حقيقة أهداف المفاوضات وما قدم فيها من "تنازلات" بما فيها من همسات وغمزات، لم يأخذها مؤرخنا مأخذ الجد، وعمليات تكريم، يفسرها الشد والجذب في الموقف السياسي العام دون أي داع للاستنتاجات المضخمة التي تبني أبراجاً شاهقة من الإدانات على أسس غير راسخة.

ومثل آخر: إذا كانت المفاوضات مع هرتزل قد فشلت فإن ذلك بسبب فشله في جمع المال (ص 43)، والحقيقة ليست بهذه الحدة، ومع أن هناك تساؤل استنكاري جوهري يحتل مكاناً ضخماً في كتاب الدكتورة (ص 46 و146 و156 و164 و171- 172 و180- 181) وهو لماذا استمرت المفاوضات طويلاً لو كان السلطان رافضاً فكرة بيع فلسطين من أساسها بحسم؟ فإنها لم تضع له إلا جواباً واحداً من عندها عندما قالت: "فلماذا لم نقل إن المفاوضات باءت بالفشل بسبب عدم تمكن هرتزل من تحقيق مطالب السلطان المالية؟ لأن هذا التفسير هو الأقرب إلى الصحة في تفسيرنا لمفاوضات هرتزل- عبد الحميد، إذ لو كان عبد الحميد يتخذ موقفاً صارماً لما دخل المفاوضات التي دامت ست سنوات مع هرتزل زعيم الحركة الصهيونية" (ص 180) وتلجأ الدكتورة أيضاً إلى تفسير الموقف استناداً إلى خاطرة لهرتزل بعد فشله بأنه لو تمكن من جمع المال لقبل السلطان عرضه (ص 174) مستبعدة أية احتمالات معقولة أخرى رغم أنها ذكرت هذه الاحتمالات (ص 172- 173) ولكنها لم تفند إلا ما لا أهمية له منها (ص 181)، مع أن الحقيقة التي لم تنقضها الدكتورة، مخالفة لاستنتاجاتها التي حاولت إلزام السلطان بها وهي موافقته على بيع فلسطين لولا عجز هرتزل عن توفير المال اللازم (ص 182) في نفس الوقت الذي تقول فيه إنه رفض كل الإغراءات المالية رغم حاجة الدولة للمال (ص 180)، ثم تعود في نفس الصفحة لتضع احتمالاً ضمن النوايا وتصف موقف بقية المؤرخين بالعاطفي لأنه لا يفسر "التنازلات" التي قدمت للاستيطان والهجرة وأنها جاءت الآن لتصحح هذا الخلل وهو ما لم يستطعه أحد قبلها، أما الحقيقة فهي بكل بساطة كما يعرضها في سياقها الطبيعي المؤرخ هنري لورنس: "وفي فبراير/ شباط 1902، تستدعي السلطات العثمانية هرتسل إلى القسطنطينية، فهو مدعو الآن إلى تنفيذ وعوده فيما يتعلق بتنمية الدولة العثمانية، وهو يرد على ذلك مطالباً بحرية الهجرة ويتحدث عن إنشاء الجامعة العبرية (التي لم تجعل الدكتورة عدم قيامها من إنجازات الموقف العثماني)، فيجاب بالاستعداد لقبول دخول اليهود إلى أي مكان في الدولة ما عدا فلسطين، وبشكل متفرق ودون أي تنظيم عام (وهذا هو جواب السلطان في تلك الزيارة لا ما أوحت به الغمزات والهمسات)، ويتحسس هرتسل غواية قبول فكرة استقرار في الأناضول وفي بلاد الرافدين يكون مرتكزاً للوصول على أثر ذلك إلى فلسطين (ومع ذلك لم يوافق على العرض ولم يقرأ فيه ما قرأه كتاب الدكتورة من تنازلات غير مغفورة)، والواقع أن الباب العالي إنما يستخدمه كأداة ضغط في مفاوضات أكثر جدية بكثير مع مجموعة مالية فرنسية لأجل تجميد الديْن العثماني... وفي أواخر يوليو/ تموز 1902، يرجع هرتسل إلى القسطنطينية بناء على طلب من العثمانيين، الذين كانوا في المرحلة الأخيرة لمساومتهم مع الماليين الفرنسيين، فمن المفيد لهم أن يبينوا أنهم يتمتعون، بوجود هرتسل معهم، بحل بديل، بل يبدو أن عبد الحميد قد فكر للحظة باهتمام في مقترحات زعيم المنظمة الصهيونية، فاليهود، غير التابعين بشكل مباشر لدولة من الدول، سوف يكونون مكتتبين في الديْن العثماني، لا يميلون إلى استخدام السلاح المالي في ممارسة ضغوط سياسية، بيد أن الثمن الذي يتوجب دفعه في مقابل ذلك، التنازل عن فلسطين في الأمد الطويل، إنما يبدو له ثمناً باهظاً، وعندما تتم تسوية الأمر مع الفرنسيين، يجري صرف الفييناوي (أي هرتزل وهو من فيينا) بأدب"،[48] وهو ما اعترفت به الدكتورة نفسها (ص 175) ولكنها لم تبن عليه أية نتيجة كما تبني نتائجها التي تدين السلطان على أوهى من ذلك بكثير، وفضلت استنتاجاتها الظنية المنافية للوقائع.

وبهذا يتبين لنا أن السلطان استخدم هرتزل حرفياً لتحقيق أهداف الدولة العثمانية دون الاستجابة لمطالبه، أي أنه تلاعب به، وحتى لو صدقنا منطق الكتاب وهو أن السلطان كان يراوغ هرتزل لتحقيق أقصى قدر ممكن من الأرباح دون تقديم أي تنازلات، وكونه يريد الأخذ دون العطاء (ص 219)، فما المشكلة في ذلك؟ فمرحى لكل مفاوضات عهود التجزئة اليمينية واليسارية والتقليدية والثورية التي تلاعب الصهاينة والغرب فيها بالمفاوض العربي رغم تسلميه منذ البداية بالتنازل المجاني عن 78% من أرض فلسطين، أما "تنازلات" السلطان للهجرة والاستيطان فأمر وضحه المؤرخون وليس بحاجة إلى نزعة مهدوية تعيد الحق إلى نصابه بعدما فرط به جميع المؤرخين كون تبريراتهم "عاطفية" في نظر المؤلفة المحترمة، ذلك أن الذين شرحوا الموقف هم من الصهاينة والأجانب أو من أصحاب توجهات ليست إسلامية سياسية ليكونوا من المتعاطفين مع الخلافة أو مع السلطان عبد الحميد، فوجود اليهود في فلسطين آنذاك إما كان قبل أن يصبحوا خطراً جاثماً وكانت هناك توقعات بشأن أهدافهم البعيدة إلا أنهم كانوا مجرد شراذم لا قيمة لها ولم يكن هناك صهيونية قبل سنة 1897 ثم لما اتضح الخطر المنظم منذ سنة 1900 تصاعدت الإجراءات ضدهم وكانت تتراجع تكتيكياً كما يقول الأستاذ عوني فرسخ [آثار] أمام نفوذ الدول الكبرى بسبب الضعف العثماني العام الذي اعترفت به الدكتورة نفسها (ص 91) وليس لكسب أموال اليهود التي نصت الدكتورة على رفض السلطان (كل ما عرض عليه من مال ص 180)، إلا أن السيادة العثمانية على البلاد كانت حائلاً دون تحقق الحلم الصهيوني كما ثبت فيما بعد وكان زوالها هو الزلزال الذي تعرضت له القضية الفلسطينية في قول الدكتور وليد الخالدي [آثار] كما وجد هناك تسلل غير شرعي ما زالت أقوى الدول غير قادرة على الحد منه وظلت هناك أعداد هامة من غير المسموح بإقامتهم وليسوا من رافضي الجنسية العثمانية أو المتمتعين بالامتيازات الأجنبية على عكس ما صرحت حضرة الدكتورة، هذه هي تفسيرات التسلل الصهيوني وليس فيها أي تناقض مزعوم مع الأحداث أو مع موقف السلطان من الهجرة (ص 180)، لأن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه على الوجه الأكمل، لاسيما لو كان سياسياً في دولة تلفظ أنفاسها (هل كان القبول بمبادرة روجرز مثلاً تعبيراً عن التواطؤ والخيانة أم عن الضعف والهزيمة؟) ولم يكن الأمر تواطؤاً ولا خيانة في سبيل مصالح لم تحددها الدكتورة بدقة، على عكس تشجيع الانتداب البريطاني وإقرار الزعامات العربية بشتى توجهاتها للاستيطان الصهيوني.

9- العجز عن تفسير دوافع السلطان تفسيراً يتفق مع ما قام به فعلاً: لم تستطع الدكتورة تقديم تفسير مقنع يجمع بين رغبة السلطان عبد الحميد في مال اليهود بطريقة تستدعي الإدانة في نظرها (ص 25- 26 و33 و47 و147 و150 و168) مع استعداده لتلبية مطالب هرتزل (ص 180)، وفي نفس الوقت تمسكه بأرض فلسطين كثمن "يستحيل دفعه" (ص 150 و180)، على الأقل في مواجهة الرأي العام الإسلامي لاسيما مع بدأ التململ العربي (الحقيقة أن قادة القومية العربية منذ البداية كانوا من المرحبين بالهجرة اليهودية علناً ولم تكن فلسطين من أسباب أي تململ ضد العثمانيين بل إن قادة القومية صرحوا للصهاينة بأن عدم التفاهم العربي الصهيوني سببه فتن الأتراك وأن آخر آثار هذا العداء والتحاسد زال قبل الحرب الكبرى بفضل عمل اللجنة العربية الثورية السرية،(!)[49] وإذا كان السلطان يصر على تقديم المال أولاً قبل منح البراءة الفرمانية لتملك الصهاينة فلسطين (ص 168- 169)، فكيف سيدبر أمره لو حصل على هذا المال مع رفضه أو على الأقل "عدم قدرته" على منح الفرمان بشكل مباشر (ص 176)؟ وإذا كان يريد المال بهذه اللهفة فلماذا لم يقدم الوعد الفرماني الذي نص هرتزل نفسه على أنه الوسيلة الضرورية أو السلة التي سيتمكن بها من جمع المال من أثرياء اليهود (ص 175 و[آثار])، ولماذا "رفض تقديم أي تصريح مباشر يمكنه أن يقنع أو يطمئن كبار رجال المال اليهودي أو الصهاينة" كما قالت الدكتورة نفسها (ص 27 و176)؟ ولماذا لم يراهن على الصهاينة لتقديم خدمات كبرى كما راهن عليهم زعماء الدول العظمى في ذلك الزمن لتقديم خدمات مشابهة لبلادهم [آثار]؟ وهل سيتجاوز السلطان الرأي العام الإسلامي وهموم الدولة العثمانية الأساسية المتعلقة بالتدخل الخارجي في شئونها (ص 102) والتي كانت الأقليات من مشاكلها الرئيسة بطريقة أثارت تحفظ الدكتورة نفسها من موقف السلطان تجاه الهجرات الأجنبية (ص 227) في موقف لا أجد تفسيراً له في ضوء ما أكده التاريخ وذكره كثير من المؤرخين عن استخدام الدول الكبرى للأقليات في عملية التدخل في شئون الدولة العثمانية؟ ففرنسا تحمي الكاثوليك والموارنة، وروسيا تحمي الأرثوذكس، وبريطانيا التي لا أقلية مهمة تطابق مذهبها تحمي اليهود والدروز، وذلك وفقاً للامتيازات الأجنبية التي ترفضها الدكتورة نفسها، فهل هذه الحقيقة الساطعة أيضاً نحتاج للاستدلال عليها وتبرير موقف السلطان منها؟

وعلى كل حال قال المؤرخ يوجين روجان في هذا الموضوع: "كانت تداعيات تدخل أوروبا في شئون الدولة العثمانية باسم الأقليات خطيرة إلى حد لا يدع فرصة للباب العالي بالسماح لها بالاستمرار.. (و) في أعقاب حرب القرم قررت الحكومة أن تخاطر بالتعرض لغضب الشعب في الداخل حتى تحول دون تدخل الأوروبيين مرة أخرى باسم أقليات الإمبراطورية"،[50] ويقول المؤرخ زاكري كارابل: "إن الدين من حيث كونه مصدر توتر لم يتم إلغاؤه تماماً، بل كان العلمانيون الأوروبيون افتراضياً هم الذين زادوا في تفاقم الأمور، وعلى الرغم من أن الفرنسيين والإنكليز والروس، على طريقتهم الخاصة، قد جانبوا جميعاً جادة الحماس الديني السائد في القرون الوسطى وعصر الإصلاح، فإنهم ظلوا يتعاطفون مع أبناء دينهم، وبنتيجة ذلك، فقد عقدوا أحلافاً مع تلك الجماعات الدينية الموجودة ضمن الامبراطورية العثمانية التي يجمعهم بها دين واحد، فلما احتاج التجار الفرنسيون مثلاً إلى شركاء في لبنان وسوريا، انتقوهم من العرب الكاثوليك والموارنة، ولما احتاج الدبلوماسيون والمصرفيون الروس إلى تراجمة، التمسوهم من مجتمعات السلاف في البلقان الذين كانوا ما يزالون جزءً من الدولة العثمانية. لقد أصبحت الصلات ما بين هذه الجماعات والقوى الأوروبية مبرراً للتدخل في الشئون الداخلية للدولة العثمانية، وتحول نظام الامتيازات القديم إلى سلسلة من القوانين سمحت للأوروبيين بالتصرف بشكل يشبه الحصانة ضمن الإمبراطورية، فلا تستطيع السلطات العثمانية مسها، وبسط الدبلوماسيون والتجار الأوروبيون حمايتهم على من ساعدوهم، فأوجد هذا الأمر توتراً بين المسيحيين واليهود الذين عملوا لصالح الأوروبيين، وبين المسلمين الذين لم يعملوا لهم، وما بدأ على شكل علاقات ملائمة مبنية على التعاطف الديني أضحى أمراً مثيراً للنفور والحساسية، ثم هوة لم تهدد فقط الجهد العثماني المبذول للإصلاح، بل أيضاً الاستقرار الداخلي للدولة برمتها ووحدتها الجامعة"،[51] فهي قضية أوضح من عين الشمس في تاريخ الدولة وأقر بها حتى مؤرخو الغرب ففيم إنكار وجودها أو استنكار موقف السلطان منها لاسيما أنه ما يرفضه هو دخول أتباع الأديان الأخرى إلى دولته ولا يرفض الأتباع الداخليين لهذه الأديان وليس لديه تحفظ على الأديان الأخرى في حد ذاتها كما حاول الكتاب الإيهام؟ وهل كل ما يفعله مرفوض سواء رضي باليهود أم رفضهم؟ وهل سنجد أنفسنا أمام الدكتورة تدافع عن هجرة الأقليات وتهاجم رفض السلطان للهجرة اليهودية التي ترفضها هي نفسها في نفس الوقت؟ ألا يتجلى في هذا الموقف الرغبة الحصرية في الإدانة مهما كان الموقف السلطاني؟

ولو كانت "النصيحة" التي قدمها عزت باشا العابد لهرتزل كي يحقق الصهاينة "ما يشاءون" صادقة، فهل كان هذا يعني أن الدولة تريد طعن نفسها بمشكلة أقلية جديدة تنشئ حكومة تستقل عن الدولة كما كان السلطان يدرك جيداً (ص 86 و80- 81)؟ أم أن الأمر كله مجرد مناورة لتحقيق أهداف مالية ولدى غير الصهاينة أنفسهم؟ وبهذا نرى أن التناقض ليس في تفسيرات المؤرخين بل في طرح الدكتورة، وفي النهاية لا نقع على الثمن الذي قبضه السلطان مع رفضه "كل ما عرض عليه من مال"، وإذا كان هذا هو المتوقع وليس غريباً وأن الغريب هو عدم الحسم مع الصهاينة وتقديم بعض التنازلات الجزئية (ص 180) فما الذي منع السلطان من استكمال الصفقة وقبض الثمن الهائل غير رأيه باستحالة تقديم فلسطين لليهود وانفصالها عن الدولة العثمانية كما تقر الدكتورة بنفسها، أليس هذا إنجازاً كبيراً قياساً بالظرف المحيط (الضعف الشامل وتكالب الأعداء) وبالثمن المعروض (تعافي الدولة كلها من ديونها والقضاء على تبعيتها) وبمواقف من جاء فيما بعد (الاستسلام)؟ وإذا كان هذا الرفض هو واقع الحال الذي يؤكد أن الدولة العثمانية لم تتعاف من ديونها ولم تقبض ثمن فلسطين في نهاية كل تلك المفاوضات العسيرة واللف والدوران من جانب السلطان، أي أن الصفقة لم تتم في آخر الأمر، فما هو موضوع الإدانة التي تريد الدكتورة المحترمة الحديث عنه؟ أفلا ينتفي موضوع القضية أصلاً بعدم وقوع الجناية؟ وإذا كان أقصى ما سجلته الدكتورة على السلطان هو إصدار الفرمانات الجزئية لمصلحة بعض اليهود والإذن لهم بمقتضاها بشراء مساحات محدودة من الأراضي الفلسطينية (ص 18) فهل تصلح هذه الثغرة لتحميل السلطان "المسئولية الأولى والأخيرة" عن نجاح بناء البنية التحتية للوطن القومي اليهودي بطريقة تجعلنا نتساءل عن سبب وعد بلفور وأهمية الانتداب البريطاني مادامت البنية التحتية قد تم بناؤها في العهد العثماني وعملية البناء سائرة دون معيقات؟

10- التطرف في الاستنتاج دون بقية الباحثين: فالمعلومات التي توردها الدكتورة فدوى ليست اكتشافات جديدة، ومع كونها معروفة لمعظم الباحثين في هذا المجال، لم يستنتج أحد ممن بحث هذا الموضوع بتفرغ استنتاجاتها العنيفة، وعلى عكس ما تصوره من أنها جاءت لتضع النقاط على الحروف وتحدد المسئوليات بدقة، فإن حكم التاريخ على موقف السلطان عبد الحميد بكونه مناوئاً للمشروع الصهيوني ومعرقلاً إياه وليس مسهلاً كما تقول هي، لا يقتصر على الباحثين العرب "العاطفيين" والمرتبكين في دفاعهم عن السلطان، بل نجد هذا الحكم مستقى من الباحثين الأجانب والصهاينة أيضاً الذين لم يكن همهم أي دفاع عن السلطان مثل المفكر الصهيوني آحاد هاعام والمؤرخ الأمريكي الصهيوني مايكل أورين والمؤرخ الصهيوني مردخاي نائور والمؤرخ الفرنسي هنري لورنس هذا فضلاً عن تقويم المؤرخين العرب الذين لا ينتمون للتيار الإسلامي بأي حال من الأحوال (الدكتور وليد الخالدي، الدكتور محمد عيسى صالحية، الدكتور محمد عبد العزيز عوض، جورج أنطونيوس، الدكتور عادل مناع، الدكتور حسن صبري الخولي، الأستاذ عوني فرسخ وحتى الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي المحسوب على التوجه الإسلامي كان حكمه متوازناً وليس محابياً إذ ذكر الثغرات ولكن دون أحكام متطرفة) [آثار] و[سياسات]، مما يجعلنا أمام تقويم متفرد للدكتورة يصح أن نصفه بالعاطفي لاسيما أنه يستند لنفس المعلومات المعروفة التي لم يقدم أحد من المتخصصين في الموضوع على طرح تقويمها من قبل، وأشدد على صفة المتخصصين لأن هناك فئة من المثقفين غير المتخصصين في دراسة الموضوع وإن كانوا من المؤرخين إلا أن تقويمهم قام على أساس اقتطاع حادث واحد من هنا أو هناك وبناء حكم ضخم عليه وهو أمر لا يليق قبوله من مؤرخ وذلك لعدم تخصصه بالموضوع مع حفظ كل التقدير له في مجال دراسته.

11- ازدواجية المعايير في معالجة الظاهرتين الاستعمارية والصهيونية: ومن ذلك امتداح شخصيات مهدت للاحتلال الأجنبي في بلادنا بحجة موقفها الرافض للصهيونية (ص 211) مع أن من يقاوم الاستعمار الصهيوني الضئيل في ذلك الزمن من المفترض أن يقاوم الاحتلال الغربي المهيمن، والتغافل عن دور هذه الشخصيات المشبوه، كنجيب عازوري، والادعاء بأنه عُزل بسبب موقفه المدافع عن فلسطين (المحاضرة) وكذلك القول إنه حكم عليه بالإعدام لنفس السبب وهذا كله غير صحيح مطلقاً فقد ترك هو منصبه "للتفرغ لمقاومة الاستعمار العثماني" وصدر عليه الحكم بالإعدام لنشاطه الاستقلالي،[52] وقد وصل حد ارتباط نجيب عازوري بالمصالح الأجنبية إلى تبرير الاحتلال الأجنبي لبعض أقطار العرب التي يخرجها من دائرة العروبة التي يتحدث عن نهضتها ويجمّل الدوافع الاستعمارية التي قادت إلى احتلالها، سواء كان هذا الاحتلال بريطانياً يستبد بمصر أو فرنسياً يرتكب الأهوال في الجزائر، وينفي- كما فعل ولي الدين يكن- عن أهل مصر القدرة على حكم أنفسهم "فلم يختلف، في هذا الحكم، لا عن كرومر الإنكليزي ولا عن محمي كرومر، البروتستانتي فارس نمر" كما يقول الدكتور محمد الناصر النفزاوي،[53] وربما كنا سنجد تفسيراً لهذه النزعات التغريبية في يأس عازوري وإحساسه بالتراجع والفساد الذي أصاب الدولة العثمانية مما دفعه للجوء إلى الحل الخارجي كما فعل بعض المعاصرين الذين ضاقوا بالاستبداديات العربية، إلا أن هذا التفسير سرعان ما يتبدد حين نراه يسحب إعجابه بالغرب على عدوانه التاريخي الذي أجمعت الأمة على إدانته وذلك حين قال: "تقدم فرنسا من بين كل الدول الأوروبية، المساعدة الأسخى والأكثر عفوية للمظلومين والتعساء، فالأمة الفرنسية بجوهرها أمة الفروسية، وهي التي بادرت إلى الحملات الصليبية الخطيرة التي عادت نتائجها بفوائد على العالم بأسره"،[54] ولهذا لم يكن من الغريب أن يتمتع نشاط عازوري بتأييد الحكومة الفرنسية،[55] و"هناك دلائل تشير إلى أنه كانت للعازوري وبعض زملائه صلات بوزارة الخارجية الفرنسية التي كانت توحي ببعض توجهاتهم" كما تقول الدكتورة زاهية قدورة، وتضيف إن عازوري كان يتصور قرب انبلاج فجر الحرية، ولكن ذلك لا يستند إلى برنامج وضعه هو أو وضعته حركات التحرر العربية، بل إن الدول الكبرى المتصارعة على أشلاء الدولة العثمانية هي التي ستمنح، أو إحداها، الحرية للعرب وتعينهم على إقامة دولتهم المستقلة، ويراهن عازوري بحماس على فرنسا، كما كان يبدي ارتياحه لنظام الامتيازات الأجنبية (وهي من أسباب ضعفنا الواضحة في ذلك الزمن ولم يكن الأمر خافياً آنذاك مما يلقي بظلال من الشك على حقيقة النهضة والحرية التي كان عازوري يسعى إليها)، كما كان ماسونياً،[56] وقام بتأسيس المحافل الماسونية في مصر ولم يكن يخفي اتصالاته بالدول الكبرى،[57] ولكن كل هذه الارتباطات لا تستدعي أية إدانة من جانب الدكتورة فدوى وتجعل من عازوري شهيد القضية الفلسطينية في مواجهة التفريط المزعوم للسلطان عبد الحميد الذي كان مشغولاً بمواجهة أطماع أحباب عازوري الفرنسيين والماسونيين.

كما يمتدح الكتاب دور الشيخ رشيد رضا ويغفل عن موقفه المتساهل من الصهيونية كما سبق ذكره، ويتغافل الكتاب عن دور المقطم كجريدة مؤيدة للاحتلال البريطاني، ويعرضها كجريدة كشفت الخطر الصهيوني الذي يتساهل السلطان عبد الحميد في مواجهته مع أننا سنرى أن كثيراً مما قيل ليس سوى "كلام جرائد"، كما أن المقطم في زمنها كانت محل هجوم المناهضين للاحتلال والصهيونية كصحيفة الكرمل والتي عنفت المقطم في سنة 1912 لفتحها الصفحات لمقالات الصهاينة الذين جاهروا بأطماعهم في فلسطين،[58] ويذكر الكتاب دور محمد علي باشا الذي "لم يوافق" على المشروع الصهيوني (ص 101) رغم ما ذُكر عن تخاذله تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الجزائر أيضاً [سياسات: فقرة موقفه من فلسطين والحركة الصهيونية، النقطة الأولى]، ويبدو أن انشغال الكتاب بمحاولة إثبات التفريط على السلطان عبد الحميد بكل الوسائل لفت نظر الكاتبة عن بقية المتخاذلين.

12- الاعتماد على مصادر غير موثقة لوقائع يفترض كونها مفصلية: كالادعاء برفض معظم المهاجرين اليهود (50 ألفاً) الجنسية العثمانية والخضوع لأحكام القانون العثماني ليتمكنوا من التمتع بالامتيازات (ص 217- 218)، والاعتماد على تصريحات هرتزل لإدانة السلطان حتى لو كانت صادرة من جنون عظمة الزعيم الصهيوني وتصوره أن على الدولة العثمانية أن تلاحقه عندما يدخل فلسطين لو كان لديها بعد نظر بل ظنونه الخيالية بأن السلطان سيقبل مشروعه لو توفر المال (ص 174 و161) والاسترسال في حشد أدلة الإدانة دون وجه حق كالاعتماد على المقالات الصحفية التي كتبت زمن السلطان وتذكر ما هو مناقض لما حدث فعلاً وهي إشارة واضحة للافتقار لأدلة ثابتة مما ألجأ الكتاب للاستعانة بكلام الجرائد: فالمقطم تكتب أن الجمعية الصهيونية ظفرت بمرادها من السلطان والأهرام تنشر كثيراً من المقالات التي تعبر عن عطف السلطان على اليهود واستعداده لمنحهم إذناً بالإقامة في فلسطين (ص 30 و210) كما تذكر أن السلطان بالغ في إكرام هرتزل وسلم له بما طلبه وحصل اليهود على أكثر مما يبتغون، وتقول المقطم إن جميع النازحين اليهود تجنسوا بالجنسية العثمانية (هل نسينا أن الدكتورة تذكر العكس تماماً في مآخذها على سياسة الدولة ص 217- 218؟) والأهرام تنشر على لسان هرتزل إن السلطان لا يلبث أن يصدر إرادة موافقة لمشروع الإسرائيليين (ص 207- 210)، والأهرام تكتب أيضاً عن اتفاق وشيك بين ألمانيا والدولة العثمانية لإرسال 10 آلاف فلاح ألماني إلى الدولة العثمانية وتحذر الصحيفة من أنهم سيأكلون الأخضر واليابس، وكل ذلك يؤكد شيئاً واحداً لو صدق صدور هذه التصريحات المنافية لنتائج المفاوضات النهائية سواء مع الصهاينة الذين كانوا يحلمون بهجرة غير مقيدة إلى فلسطين أو مع ألمانيا التي كانت تحلم بتوطين مليوني مستوطن على طول خط حديد بغداد، وهو أنه لا يجوز اقتطاع تصريح من هنا أو هناك وجعله معبراً عن سياسة الدولة العامة لاسيما عندما تتشابك الأهداف وتتعدد المناورات ووجوب الاهتمام بالنتائج النهائية وحدها لا كما يفعل الكتاب في حشد هذه التصريحات كأدلة دامغة.

13- تحريف الأرقام بصورة عنيفة تخدم هدف الإدانة: كالنص على أن ولاية الوالي المخلص رءوف باشا سنتان لخدمة غرض تهميش إنجازاته مع أن ولايته استمرت دون بقية الولاة لمدة 12 سنة (1877- 1889) كما في جميع المراجع، وعدد المهاجرين ارتفع من 5 آلاف إلى 80 ألفاً في زمن حكم السلطان عبد الحميد (ص 46) لغرض تضخيم المسئولية العثمانية مع أن الكتاب نفسه يؤكد رقماً مختلفاً: من 24 ألفاً إلى 80 ألفاً والذي يعده الدكتور سلمان أبو ستة وغيره من المؤرخين مازال رقماً صغيراً.

14- عدم أخذ الظروف المحيطة بإجراءات حظر الهجرة في الحسبان: كعدم تقدير أن الخطر آت من جهة شرق أوروبا فيتساءل الكتاب ويستنكر الاقتصار على منع يهود روسيا وشرق أوروبا (ص 75 و84 و134) مع أن سبب ذلك واضح جداً وهو كون الهجرات الكثيفة الأولى أتت من روسيا وشرق أوروبا كما تنص على ذلك جميع المراجع [آثار] حتى أن الكتاب نفسه ينص على أن العرائض الفلسطينية كانت تطالب بوقف هجرة اليهود الروس (ص 31) والصحافة تحذر من خطر اليهود الروس (ص 210).

ورغم نص الكتاب على ضعف الدولة (91 و132) يتساءل باستنكار لماذا كل هذا التغيير في التعليمات التي تصدرها (ص 89)، كما أن الدكتورة تتجاوز الحقائق المادية ولا تقدر ظرفها أيضاً عندما تعترف بأن الحركة الصهيونية لم تبدأ فعاليتها ونشاطها في بدايات الهجرة، ثم تصم اعتراف السلطان بخطر الهجرة سنة 1895 بأنه "متأخر" رغم أن الحركة الصهيونية لم تكن قد نشأت بعد (ص 81) والهجرة المنظمة لم تكن قد بدأت وفق تواريخ الدكتورة نفسها التي تذكر سنة 1900 كبداية.

15- إغفال حقيقة أن السيادة السياسية هي العامل الحاسم في تغير وضع فلسطين: كما أشار لذلك الدكتور وليد الخالدي حين قال إن انتقال السيادة على فلسطين من العثمانيين إلى البريطانيين هو الحدث الفصل في عملية بناء الدولة اليهودية بين المؤتمر الصهيوني الأول (1897) وإعلان قيام إسرائيل (1948)،[59] وأن انهيار الدولة العثمانية كان زلزالاً أصاب بلادنا كزلازل 1948 و1967 و1990،[60] ولهذا لو استمرت الصهيونية ألف عام أخرى تحت السيادة العثمانية لما حققت حلم الدولة اليهودية، وفي هذا يقول الدكتور حسن صبري الخولي: "ولا ريب في أن الانتداب البريطاني كان الأداة التي هيأت الجو الصالح لتنفيذ هذه الأهداف تنفيذاً سريعاً. ولقد ظلت الصهيونية تسعى منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، لتنفيذ مخططاتها لتهويد فلسطين، غير أن ما حققته في هذا السبيل كان ضئيلاً لا يمكن أن يؤدي إلى تحقيق أحلام الصهيونية لو سار الأمر على مثل هذه الوتيرة، لأن الحكم العثماني لفلسطين قبل الحرب العالمية الأولى كان عقبة حالت دون تحقيق الصهيونية برنامجها"،[61] ولعله من التبسيط أن نحصر هذه الحقائق ببعض المراجع التي تشير إلى "التأسيس البريطاني للوطن القومي اليهودي"،[62] أو القول إن قواعد الدولة اليهودية أرسيت بين إقرار صك الانتداب سنة 1922 وخطة التقسيم سنة 1947،[63] أو القول إنه رغم وجود اليهود في فلسطين بعد الحرب الكبرى الأولى "فإن عددهم كان ضئيلاً يقدر بحوالي 58 ألفاً في عام 1918، ولذلك تطلب تحقيق المهمة الصهيونية تهجير اليهود إلى فلسطين وشراء الأرض العربية لتوطينهم"... "أما البرامج الصهيونية فقد دخلت حيز التنفيذ في عام 1920، وهو العام الذي شهد الموافقة البريطانية على أول حصة نسبية (كوتا) للهجرة، ولكن المخططات البريطانية لم تكتسب الصفة الرسمية إلا في 29 أيلول (سبتمبر) عام 1923 حينما أصبح الانتداب البريطاني على فلسطين رسميا"،[64] وذلك بتنازل تركيا الكمالية عن الأملاك العثمانية في معاهدة لوزان.[65]

ولهذا لم يكن الخلاف بين الصهاينة المؤيدين للتسلل والصهاينة المؤيدين للحصول على تأييد دولة كبرى خلافاً نظرياً، والمقارنة بين نتائج الحل الإمبريالي البريطاني والحل التسللي في الزمن العثماني تؤكد ما ذهب إليه الدكتور عبد الوهاب المسيري من أن هذا الحل هو السبب في نجاح هرتزل فيما أخفق فيه آخرون وهو السبب في استمرار مشروعه وتحوله إلى واقع ملموس حيث أخفقت مشاريع أخرى،[66] ولو كان شراء الأراضي ينقل سيادتها لأصبحت لندن مدينة عربية وهذه النقطة تم إغفالها لمصلحة أن الشراء والتسلل سيحققان المشروع الصهيوني (ص 27) وهو ما ثبت فشله.

16- التخبط في تقويم رسالة السلطان لشيخه وتوجيه النقد المتناقض نحو الإدانة فقط: تتضح الرغبة الشديدة في توجيه نتائج الدراسة نحو إدانة موقف السلطان عبد الحميد بأي ثمن في تقويم رسالته إلى شيخه محمود أبي الشامات، فبداية نطلع على أن الوثائق الشخصية لا أهمية كبيرة لها في تقويم الحدث التاريخي، لا بأس، ولكننا ننتقل فجأة من إثارة الشكوك العديدة حول أصالة هذه الوثيقة بكل وسيلة حتى لو كانت مهزوزة وضعيفة (مثل الاعتراض على استخدام السلطان للتاريخ الرومي وليس الهجري مع أن ذلك التقويم الرومي هو الذي كان معتمداً في الدولة العثمانية ويمكن لأي قارئ لمذكرات السلطان عبد الحميد أن يرى بأي تقويم كان يؤرخ وكيف بدأ الحديث بانتقاد التقويم "الحكومي" المختلف عن "الديني") المهم أنها بعد أن تحاول إقناع القارئ بعنف بعدم ثبوت هذه الوثيقة تنتقل فجأة إلى أن السلطان كتبها ليبرئ نفسه أمام شخص لن يعترض على مضمون حديثه وليضفي على روايته الصدق والشرعية الدينية وليؤكد اتهام خلفه وشقيقه السلطان عبد المجيد الثاني (مع أن عبد المجيد لم يكن خليفة عبد الحميد ولا شقيقه وليس سلطاناً أصلاً بل ابن عمه وتولى بعده بسلطانين وكان آخر خلفاء الدولة)، فهي تريد سلب محاسن الوثيقة وإثبات مساوئها فقط سواء بتصديقها أم بتكذيبها ثم تسترسل الدكتورة في تكذيب الادعاء بتفريط الاتحاد والترقي وبأن السلطان خلع لأجل موقفه من فلسطين وهو ما سبق الحديث عن تداخلاته بعيداً عن منطق إذا كان... فإن، وتدعي خلافاً لكل تقويمات المؤرخين أنه فشل في إدارته، مما يؤكد للقارئ أن هدف البحث هو إدانة السلطان ليس إلا سواء بسبب معقول أو دون سبب، ربما لأنه في نظر الكاتبة المحترمة هو مصدر شرعية التنظيمات المسلحة التي تدعي العمل على إحياء الخلافة والتي تختلف معها في التوجه السياسي.

17- التناقض والتطرف في الاستنتاج: الخلاصة التي عرضتها حضرة الدكتورة (ص 231- 233) وركزت فيها على ضرورة عدم تبرئة السلطان عبد الحميد تبرئة (كاملة)، متضاربة مع بعضها البعض وغير تاريخية حتى لو قبلنا برفضها أخذ الظروف التاريخية المحيطة بالدولة العثمانية آنذاك في الحسبان، فهي تقول: "لقد حاول السلطان المراوغة من أجل تحقيق أهدافه، وهي تخليص الدولة العثمانية من ديونها مقابل منح الصهاينة جزءاً من طموحاتهم في فلسطين - ولكن بشكل غير مباشر- وهو ما يفسر لنا دخوله في المفاوضات مع هرتزل (رأينا أن السبب كان هو مناورة الفرنسيين وليس الرغبة بما عند هرتزل)، ونقله لكثير من الولاة المخلصين (الوالي الوحيد المنقول هو رءوف باشا بعد 12 سنة من الولاية، والحكم على نجيب عازوري بسبب لا علاقة له بفلسطين بل لتمرده على الدولة، ثم كان النقل من نصيب الولاة المتساهلين مع الصهيونية إلى أن تم تعيين وال متشدد هو علي أكرم بك إلى آخر أيام السلطان)، وضعف تجاوبه مع طلبات الأهالي بوقف الهجرة والاستعمار (رأينا أنه تجاوب مع الأهالي كما نص على ذلك أكثر من مؤرخ)، فكيف يمكننا أن نجعل من الاقتصار على منح الصهاينة "جزءً" فقط من طموحاتهم، وبطريقة "غير مباشرة" أيضاً، وهو ما أدى إلى "ما لا يتوقعه السلطان نفسه" (ص 232)، كل ذلك مؤدياً إلى تحميله "المسئولية الأولى والأخيرة في نجاح سيرورة البنية التحتية التي أدت إلى قيام الكيان الصهيوني" رغم أننا رأينا أن جميع الأدلة التي ساقتها في هذا الاستنتاج غير دقيقة على الأقل، وهو استنتاج يقفز على البديهيات التي أقر بها البريطانيون أنفسهم في وعد بلفور (التسهيل) الذي أصبح من المسلمات في تاريخ القضية الفلسطينية.

* غير السلطان عبد الحميد أحق بالإدانة

ولست أرى أن إدانة الماضي هو الهدف الأسمى للمؤرخ لاسيما في ظل تأييد أنظمة وتوجهات باعت من فلسطين أكثر من تردد السلطان وتساهله وفرطت بالأرض أكثر مما فرط، ولكننا لا نستطيع اختزال تجارب تاريخية كبرى ومراحل حافلة بالحوادث والمداخلات المتضاربة في موقف نضخمه فلا يعجبنا مع توفر مواقف إيجابية أخرى، وقضية الهجرة اليهودية لم تكن في واجهة الأحداث التي شغلت العصر الحميدي ولم تكن مركز الصراع الدولي ولم تتحول إلى قضية محورية في المنطقة إلا بعد ذلك حين لم تأخذ حظها من اهتمام "القيادات الوطنية التي حاربت الاستعمار" والتي فضلت التعامل مع شئونها الداخلية وعدم التركيز على قضية فلسطين رغم كونها، حسب جميع البيانات الانقلابية الأولى، في مقدمة القضايا التي يعلن أي نظام جديد عن تكريسه كل الجهد لها لأنها شغلت المواطن العربي مما أدى إلى استخدام "القيادات الوطنية التي حاربت الاستعمار" شعارات التحرير لتسويق أنفسها، وهذه الحقيقة عاشها كثير من أحياء زمننا حتى فقدوا الثقة بأي نظام عربي مهما بلغت شعاراته تطرفاً من النواحي القومية والوطنية والمقاومة، فليس من الإنصاف أن نسقط هذه الصفات الإعلامية، أي الرغبة في تسويق أنظمة الحكم، على الحكم الحميدي مع أنها ألصق بالقيادات العربية المعاصرة لاسيما عندما نقيس الإنجازات والإخفاقات ودرجات الاهتمام والتقصير، كما ليس من الإنصاف تحميل السلطان عبد الحميد "المسئولية الكبرى أو الكاملة أو الأولى والأخيرة" وكأنه لا دور حاسماً للانتداب البريطاني ولا تخاذل عربياً سلم فلسطين وانشغل بقضاياه الخاصة ووقّع على طلب الشرعية الدولية بتقسيم فلسطين أولاً ثم بمنح الصهاينة زيادة على ما ربحوه في التقسيم ما سرقوه في نكسة حزيران 1967، وهذه التبرئة لكل من جاء بعد السلطان من أنظمة وطنية وتصويرها بأنها ضد الاستعمار رغم ما أصاب فلسطين في زمنها وامتداحها والإشادة بأدوارها مما يؤلف ازدواجية واضحة في المعايير التاريخية.

* الدراسة أهم من الإدانة

ورغم ذلك فعندما نريد تقويم المرحلة الناصرية بمجموعها، هل يكفي أن نختزلها في نكسة 1967 مثلاً رغم هول وقعها على الأمة وننسى أحداث كبرى أخرى كالجلاء البريطاني وتأميم القناة وبناء السد العالي والوحدة مع سوريا وإسقاط حلف بغداد وحرب اليمن وحرب الاستنزاف وغيرها من الحوادث التي يجب وضع النكسة في سياقها وفي سياق الوضع الدولي المهيمن، أما إذا أصر المعترضون على كون حادث في القضية الفلسطينية هو ميزان الجرح والتعديل فإننا سنرى حينئذ أن غير السلطان من بقية الزعامات العربية التقليدية والثورية والرأسمالية والاشتراكية واليمينية واليسارية أولى منه بالإدانة والتخوين بمراحل، فإذا كان السلطان قد رفض منح "الترخيص الفرماني" لتملك الصهاينة في فلسطين، فإن القيادات العربية اليمينية واليسارية أجمعت على منح هذا الترخيص الرسمي علناً على رءوس الأشهاد لشرعية الكيان الصهيوني على 78% من أرض فلسطين والخلاف بين "المتطرف" و"المعتدل" في رفض أو قبول الإملاءات والمستجدات التي فرضها الصهاينة في الفتات الذي بقي للشعب الفلسطيني.

وعلى كل حال أرى أن علينا أن نتعلم من الآخرين كيف نتعامل مع تاريخنا، فرغم الكوارث التي تسبب بها الغرب للعالم، نجد أن النغمة السائدة في الطرح التاريخي الغربي هي وجوب وضع الحوادث في سياقها وعدم إسقاط الحاضر على الماضي وعدم جلد الذات ووجوب التعلم من الأخطاء رغم أن هذه الشعارات ترفع في مواجهة جرائم كبرى ارتكبها الغربيون ضد الآخرين ومن الصعب التجاوز عنها ومع ذلك يرفض الغربيون إدانة ماضيهم وهو ما أجدر بنا التعلم منه وعدم جعل التاريخ ساحة لتصفية حسابات بين أطراف سياسية متنافسة على السيطرة الحالية.

* ملخص النقد

ملخص النقد هو أن كتاب الدكتورة فدوى نصيرات يقوم على إغفال الظرف التاريخي الذي كانت تمر به الدولة العثمانية فينكر حقائق خلاف موضوعه الأساسي مع أنها أوضح من الشمس كخطورة هجرة الأقليات وحقيقة التقويم في الدولة العثمانية وتسلسل السلاطين وتواريخ تولي الولاة وحقيقة مكانة الفكر الصهيوني عند ساسة الغرب وغير ذلك من الأخطاء الفادحة التي تدل على ضرورة الإلمام بموضوع الدراسة قبل الإقدام على بناء أحكام كبرى أو "ثورية" كما جاء في المقدمة، فإذا كانت هذه هي أخطاء معلوماتية فما بالنا بصلب الموضوع؟ ويعتمد الكتاب على أرقام أعداء الدولة العثمانية بل ويستخدمها بطريقة أكثر تطرفاً من الأعداء أنفسهم بالإضافة إلى استخدام أرقام مختلقة أصلاً ويحمّل الدولة العثمانية، بمعايير مزدوجة، وزر جريمة كبرى تمتد على مساحة زمنية أكبر من عمرها وشارك فيها أطراف أخرى أكثر أهمية منها لاسيما الانتداب البريطاني ويليه الحكام العرب الذين منحوا ما رفض السلطان منحه ومع ذلك حصلوا على نياشين البطولة والثناء في مقدمة الكتاب (ص 39)، وحُمّل السلطان المسئولية وحيداً في تجاوز واضح للمعايير التاريخية، ومن ثم فلا عجب أن تتفرد الدكتورة بالنتائج التي وصلت إليها رغم أن المعلومات التي تستند إليها ليست جديدة وقد اطلع عليها الكثير من الباحثين قبلها إلا أنهم وضعوها في حجمها وسياقها التاريخيين وأجمعوا على أن ما حققته الصهيونية في زمن الدولة العثمانية كان ضئيلاً وأن التأسيس للوطن القومي اليهودي كان بريطانياً ولم يخرجوا من نفس المعلومات بما خرجت به الدكتورة التي صورتهم جميعاً بصورة المرتبكين المتناقضين العاطفيين الذين يشتتون قراءهم ويضيعونهم (ص 131) رغم أن معظمهم من الأجانب والصهاينة ومن غير أنصار الإسلام السياسي وليس عندهم مودة أيديولوجية للخلافة الإسلامية والسلطان عبد الحميد، ومع ذلك كانوا في نظر الدكتورة يحتاجون مهدياً يعيدهم إلى صوابهم وهو ما قامت به في نظر نفسها ونظر مقدمها (ص 35 و46) مع أن الأمر لم يكن بحاجة إلى مهدي لأن التاريخ بيّن أن الدور الحاسم في بناء الوطن القومي اليهودي لم يكن من نصيب العثمانيين بل من نصيب من أصدروا وعد بلفور المشئوم الذي ما صدر إلا لبناء كيان لم يكن له وجود قبل الدور البريطاني ومن ثم من التجاوز أن نحمل الأحداث التاريخية قبل بريطانيا فوق ما تحتمل لحساب تبرئة الإنجليز والزعامات العربية المتواطئة بهدف تحقيق تصفية حسابات مع حوادث لاحقة وجماعات معاصرة لا علاقة لها بتلك المرحلة.

* فشل التوظيف السياسي للأطروحة

وفي النهاية أعيد التأكيد على أن الكتاب غير صالح لإثبات الهدف الأساسي منه وهو تحميل السلطان عبد الحميد "المسئولية الكبرى أو الوحيدة" ومن ثم تصفية الحسابات مع تيارات إسلامية معاصرة تدعو للخلافة الإسلامية، لأننا لو استخدمنا الميزان الحساس للدكتورة فدوى ستكون الأنظمة القومية والتقدمية واليسارية فضلاً عن الأنظمة الرجعية والتقليدية واليمينية هي أولى ضحاياه وسنحكم بشطبها قبل شطب النظام الحميدي وذلك لأنه رغم حالة الاحتضار رفض منح الترخيص الفرماني للوطن اليهودي وبيع فلسطين بشكل مباشر (ص 133) باعتراف الجميع مع أن الساحة الفلسطينية لم تكن هي الأكثر لهيباً في زمنه في الوقت الذي بدأت القومية العربية والليبرالية التغريبية بالترحيب بالهجرة والصهيونية وانتهت في عز أيامها وأقصى ما يمكن أن تصل إليه، وهي التي لا يمكن أن تكون عزيزة مكتفية أبداً بسبب حالة التجزئة، بالمصادقة على منح فلسطين مجاناً وليس حتى بيعها بثمن معقول وعلى الترخيص الفرماني للكيان الصهيوني على أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين لملايين اليهود وليس لبضعة آلاف من الذين "تهاون" السلطان عبد الحميد في دخولهم فلسطين، وإذا كان السلطان قد "تهاون" زمن الاحتضار فإنه "نجح في الحفاظ على عروبة فلسطين" كما يقر الكتاب (ص 95) ذلك لأن "إنجازات" الصهيونية في زمنه كانت ضئيلة بكل المقاييس وجميع الأرقام المعروضة، ولذلك قامت دعوى الدكتورة وأنصارها المثقفين على التلاعب بهذه الأرقام بصورة واضحة، ففضلاً عن رفض السلطان منح الوعد الفرماني الذي لم يتأسس الوطن القومي والدولة اليهودية إلا بإقراره بريطانيّاً بوعد بلفور وفقاً لسعي هرتزل واكتشافه "العبقري" الذي ما كان ليحقق حلمه لولاه (ص 163) كما قال بنفسه (ص 151) وأثبتته الأحداث، وقد اعترفت الدكتورة أن الحصول على وعد من السلطان عبد الحميد آنذاك لا يعادله أي وعد آخر (ص 145)، فإن أرقام التسلل الذي مارسته الصهيونية العملية كانت ضئيلة جداً ولا تسمح بنشوء الدولة اليهودية في ضوء استمرار السيادة العثمانية المعادية التي طردت بجرة قلم آلاف اليهود إن لم يكن عشرات الآلاف منهم زمن الحرب الكبرى بصفتهم حلفاء للأعداء، وذلك وفقاً لإحصائيات الأرقام التي تستند إليها الدكتورة، وفي التقويم النهائي رفض السلطان عبد الحميد منح الصهاينة الإقرار الرسمي الذي كان ضرورياً وحاسماً في نشأة الكيان الصهيوني كما ثبت فيما بعد، وهذا هو سر إعجاب الأجيال والمؤرخين بالموقف العثماني رغم "التفريط" المزعوم (ص 36 و38) لأنه كان تفريطاً قزماً مقارنة بما شهدته القضية الفلسطينية بعد ذلك وهذا ما لم يغب عن إدراك حتى معارضي عبد الحميد كالشيخ أسعد الشقيري والأستاذ محمد كرد علي والأستاذ فارس الخوري، وهو ما أكده تغير الحال جذرياً فيما بعد بتهويد فلسطين زمن الانتداب البريطاني والاستقلال العربي، كما أن غير السلطان من الزعماء الكبار قد باع وسلم وخان وتواطأ ووقّع في زمن المقاومة والتحرير والثراء على ما لم يقبل به عبد الحميد رغم الضعف والفقر والحاجة، ولم يستطع أحدهم أن ينجز في زمن صعوده ما أنجزه عبد الحميد في زمن الهبوط والضعف والتراجع والهزيمة، وهذا هو سر جعلها "حالة معيارية" رغم رفض الكتاب لذلك (ص 39) ولكننا لا نستطيع مجاراته في هذا الرفض في ظل العجز المطلق لجميع أنظمة التجزئة العربية سواء القومية أو الوطنية والثورية أو التقليدية عن الإتيان بما هو أفضل في تلك المرحلة وما بعدها إلى هذا اليوم.

* الخلاصة والاستنتاج

لا يمكننا فهم التاريخ دون وضع الحوادث التاريخية في إطار أزمانها، وفي ذلك يكرر الأستاذ الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي في كتابه النفيس "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها" التأكيد على وجوب النظر إلى الظروف التي كانت سائدة عند وقوع حادث معين وعدم الحكم عليه بمعايير عصور لاحقة،[67] وأنه للحكم على ظاهرة عامة أو حادث معين يجب الأخذ في الحسبان كافة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العصر،[68] وأنه عند النظر في حادث تاريخي يجب أن يكون ذلك في ضوء الملابسات التي أحاطت به من ناحية، وتبعاً للمعايير السائدة في زمن وقوعه من ناحية أخرى، أي ليس وفقاً لمعايير لاحقة.[69]

وعن موضوعنا خاصة يقول الدكتور أنيس عبد الخالق محمود "إن موقف السلطان عبد الحميد الثاني من النشاط الصهيوني يجب أن لا يُدرس مجرداً عن ظرفه، بل لا بد من مراعاة الظروف العامة التي كانت سائدة في عهده معياراً عند تقويم موقفه، فقد كان البناء العام للدولة عند اعتلائه العرش متداعياً من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقد بذل السلطان عبد الحميد أقصى ما بوسعه لإعادة الحياة إلى دولته المتداعية، ولكن التيار كان أقوى منه، ومن هذا المنطلق يجب ألا ينحصر تقويمنا لموقف السلطان في تحديد مسئوليته في تقدم العمل الصهيوني خلال حكمه، بل يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار ظروف الدولة العثمانية يومذاك، والأخطار الداخلية والخارجية التي كانت تتهددها، والوسائل والأساليب التي لجأ إليها اليهود في التسلل والاستيطان في فلسطين، وهذا هو الإطار الذي يجب أن يدرس ضمنه موقف السلطان عبد الحميد"،[70] وبكل أسف فإن كتاب الدكتورة فدوى لم يلب المتطلبات الأساسية لدراسة التاريخ التي يتكلم عنها هذان المؤرخان وهي ليست خاصة بهما بل معايير عامة متفق عليها إلا أن كتاب الدكتورة طالب من العثمانيين التصرف كسوبرمان خارج إطار تاريخهم.

إن الصورة التي يرسمها كتاب الدكتورة فدوى هي أن سياسة السلطان عبد الحميد العملية تجاه الهجرة الصهيونية إلى فلسطين تناقض تصريحاته الحازمة لأنه لم يستطع مقاومة الضغوط من الدول الكبرى لصالح الهجرة اليهودية وهذا هو سبب تسرب المستوطنين إلى فلسطين وتملكهم الأراضي في البداية، ومع ذلك فإننا نلحظ مقاومة عنيفة حتى لألمانيا حليفة العثمانيين، كما نرى بيئة طردت نصف عدد الواصلين إلى فلسطين من اليهود، ثم يدعي الكتاب أن السلطان أراد تحقيق أهدافه المالية عن طريق التفاوض المرن مع الصهاينة لمدة طويلة دون منح فلسطين دفعة واحدة مع إمكان قبول تسللهم من بقية الأراضي العثمانية، وهو ما لم يقبل به هرتزل ولم يستطع من جهة أخرى جمع المال المطلوب ولا تحقيق الطموحات العثمانية التي كانت ستمنحه فلسطين لو لبى مطالبها، وفشل المفاوضات المستمرة زمناً طويلاً يعود لفشل هرتزل في جمع المال، ولكننا في المقابل لا نعرف ما هو سبب عدم مساعدة السلطان لهرتزل على جمع هذا المال الذي يتلهف السلطان للحصول عليه بأي شكل مع توضيح هرتزل أن وعد السلطان هو السلة التي سيجمع بها المال، بل لماذا رفض السلطان جميع الإغراءات المالية، كما يقول الكتاب مناقضاً نفسه، ولا نعرف كيف نفسر "موافقة" السلطان على دخول اليهود فلسطين مع إقرار الجميع برفضه القاطع اختلاق مشكلة أقلية جديدة تؤدي للانفصال عن الدولة العثمانية، أي أن القضية الفلسطينية كانت قضية عثمانية عامة لا يمكن التهاون فيها، وليست قضية شعب فلسطيني "تنعم" عليه الدولة بالحماية، ولهذا قال مؤرخون يهود إن جهود هرتزل باءت بالفشل لأنه "لم يكن على القدر الكافي من الوعي بمدى حساسية تركيا إزاء مشكلات الأقليات"،[71] إلا لو قلنا إن تراجعه التكتيكي كما وصفه بعض المؤرخين، في مواجهة الضغوط، سيبقي الأمر تحت سيطرة الحكومة العثمانية في ساحة لم تكن هي الساحة الأكثر احتداماً في ذلك الزمن كما تؤكد شهادات عاصرت تلك الأحداث من مراقبين مؤيدين ومعارضين لحكم السلطان، وثبتت أهمية تلك السيادة العثمانية عندما رحل عشرات الآلاف من المستوطنين اليهود أو ثلث عددهم زمن الحرب الكبرى بعدما رحل عشرات الآلاف من الذين هاجروا إلى فلسطين بسبب الإجراءات العثمانية "التعسفية" كما وصفها مؤرخ صهيوني بارز هو مايكل أورين،[آثار] مما جعل كل الإنجازات الصهيونية ضئيلة الحجم في المحصلة.

وسنجد تفسيراً لهذه المفاوضات المستمرة مع هرتزل عندما نعلم أن السلطان كان يمارسها مع إظهار الاعتناء بضيفه اليهودي للضغط على دائنيه الفرنسيين، ولمّا حصل منهم على مراده صرف هرتزل بعلبة تبغ ثمينة مشكوراً على ما قدمه من خدمات، فأين نجد مفاوضاً مع الصهاينة بمثل هذه المهارة؟ ويظل كل ما حققه الصهاينة ضئيلاً جداً وعرضة لأي هزة تطيح به مادامت السيادة العثمانية قائمة ولهذا قال مؤرخون إن زوال هذه السيادة هي الحدث الحاسم في عملية نشوء الكيان الصهيوني بين مؤتمر بال وإعلان قيام الكيان وذلك على عكس استنتاج الكتاب أن هذه السيادة هي المسئولة الأولى والأخيرة عن نشوء البنية التحتية الصهيونية وتسرب الأراضي الفلسطينية للصهاينة في تجاوز واضح على دور الانتداب البريطاني والحكومات العربية، وهو استنتاج انفعالي يراد منه وفقاً للمحاضرة ومقدمة الكتاب تصفية حسابات معاصرة أدانت تقصير الحكومات العربية القومية والثورية وطالبت بحكم الخلافة الإسلامية، ولا علاقة له بالتقويم الأكاديمي للأحداث الماضية ولهذا لجأ الكتاب إلى التحريفات الواضحة في الأرقام والأخبار وتفرد دون بقية المؤرخين بالرغبة الشديدة في إدانة الحكم العثماني في هذه النقطة رغم أنه لميكشف معلومات جديدة وكل ما ادعاه هو تصحيح تحيزات المؤرخين الذين سبقوه رغم أن كثيراً منهم لم يكونوا من أنصار الإسلام السياسي ولا حتى عرباً أو مسلمين بل من الأجانب والصهاينة.

ولو أردنا تطبيق الميزان الذي عرضه الكتاب لتقويم كل الأحداث المتعلقة بتاريخ القضية الفلسطينية لكانت الحكومات والزعامات التقدمية هي أولى الضحايا وهو ما يسعى الكتاب لتجنبه أو صرف الأنظار عنه، فإذا كان السلطان عبد الحميد خليفة الدولة العثمانية الذي وصف بالدموية والاستبداد والطغيان والحكم الفردي المطلق ومعاداة الحرية، "كان عنده رغبة شديدة بحل كل مشاكل الدولة العثمانية ورفع السيطرة الأوروبية عن الدولة" (وأي حاكم مخلص في موضعه لا يكون عنده مثل هذه الرغبة؟) ومع ذلك تعترف الدكتورة نفسها بأن "المحرم وحدود المحرم هو الذي وقف في طريق عبد الحميد، فهرتزل أراد التعهد وعبد الحميد أراد المال، وعبد الحميد لم يكن قادراً على منح التعهد بشكل مباشر... وعندما أصر هرتزل على التعهد أسقط السلطان أي ضمانة أو حتى الوصول إلى أي تفاهم مع الصهاينة في الأمور المالية" (ص 176)، وإذا كان هذا السلطان الموصوف بالاستبداد المطلق حريصاً على عدم إغضاب الرأي العام الإسلامي إلى درجة التزلف فرفض الإغراءات المالية التي قدمها هرتزل في موضوع فلسطين لأنه لا يمكنه التورط في عمل كهذا رغم أنه كان مستعداً لتلبية مطالب الصهاينة بصورة غير ظاهرة أو صريحة أو معلنة، وكل ما عمله هو إصدار فرمانات جزئية لصالح تملك اليهود والإبقاء على شعرة معاوية بينه وبين هرتزل وذلك لمحاولته التخلص من الديْن العام وإنعاش البلاد اقتصادياً بالأموال اليهودية، وفي المقابل كان لا يستطيع أن يقدم شبراً واحداً من فلسطين فكان يريد الأخذ دون عطاء إلا أن هرتزل لم يقم وزناً لأي عطاء من قبل السلطان خارج أراضي فلسطين (ص 177- 178)، أي أن السلطان ظل يناور إلى أن فشلت المفاوضات مع الصهاينة كما يؤكد الكتاب، فهل نرى وصفاً أشد إنصافاً للسلطان الذي ناور مفاوضه ليأخذ منه دون عطاء ولم يتنازل عن شبر؟ ألم يقم الكتاب بهذا الوصف بإلغاء كل ما قاله عن سلبيات الموقف السلطاني الذي لا نجد هذا المديح له في أشد الكتب إعجاباً به؟

وبماذا نصف حكم وحكام التجزئة العربية الذين انتحلوا الوحدة والحرية والديمقراطية والاشتراكية والشعبية والوطنية والقومية والإسلام بطيفه المذهبي ثم قدموا فلسطين أو ثلاثة أرباعها على الأقل رسمياً وفرمانياً للاستيطان الصهيوني وقبلوا بهجرة ملايين اليهود من كل أنحاء العالم إليها دون التفات إلى رأي عام ولا خاص والمتطرف منهم من لا يزال يطالب على استحياء بعودة أهل فلسطين إليها، فمن هو المستبد أيها الحكماء وما هو الحكم الأكثر تمثيلاً ومراعاة لشعبه؟؟؟ وإذا كان المأخذ على السلطان عبد الحميد هو الفرق بين النظرية والتطبيق (ص 230) فلتدلنا الدكتورة على مكان واحد في العالم كانت النظرية فيه مطابقة تماماً للتطبيق أو حتى قريبة منه كما كان التطبيق العثماني قريباً من النظرية إلى الحد الذي جعل زواله إيذاناً بزوال آخر العوائق في وجه هجرة اليهود وشرائهم الأراضي كما يقول المؤرخ الصهيوني المعدود ضمن اليهود العشرة الأكثر انتشاراً في العالم مايكل أورين،[72] أو زلزالاً بتعبير الدكتور وليد الخالدي، فأين نجد هذا التوافق لاسيما من الأنظمة العربية الثورية والتقدمية واليسارية التي تحوز على إعجابها أو حتى من الأنظمة المعتدلة واليمينية والوراثية التي تسكت عن مفاسدها؟
أضافة تعليق
آخر مقالات