مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2017/06/03 07:25
استبداد الجهل العلماني وحرية الاعتقاد في الإسلام

مهنا الحبيل

مدير مكتب دراسات الشرق الإسلامي بإسطنبول

أسوأ ما يتعرض له منهج الحوار الفكري وتبيان الحقوق الإنسانية والدستورية للأسرة البشرية، هو تأميم المفاهيم لمصالح قوى التطرف والقهر السياسي أو الديني، سواء كانت أنظمة مستبدة أو مؤسسات ثيوقراطية، أو جماعات دينية متطرفة، فيتداخل التوظيف السياسي الفجّ مع حرية المفهوم وأثره الإنساني.

وتُستثمر حالات الإرهاب المتوحش -الذي ضرب العالم الإسلامي والمدنيين في الغرب- لتكريس أسباب انفجاره وعوامل انتشاره السرطاني الخبيث، فلا يسلم العالم الإسلامي من رياحه الحارقة ولا يسلم أبرياء الغرب، وتستمر المزايدات باسم مكافحة الإرهاب من ذات مسببيه وناشريه في المعمورة، إما بتوظيفهم للفكرة الدينية أو عبر استبدادهم وقهرهم لشعوبهم، وحرمانها من أبسط حقوقها المدنية والسياسية.

هنا نفهم هذه الحملة التوظيفية للموقف من اعتقاد كل دين ومنسوبيه على مدى التاريخ، بل والمذاهب الأيديولوجية المتعددة في التاريخ الإنساني، واعتبار المسلمين في مساحة استثناء من ذلك، وأنهم يجب أن يقروا لكل الديانات بأنهم من أهل الإيمان، باعتبار ذلك مدخلا للسلم الأهلي.

"تُستثمر حالات الإرهاب المتوحش -الذي ضرب العالم الإسلامي والمدنيين في الغرب- لتكريس أسباب انفجاره وعوامل انتشاره السرطاني الخبيث، فلا يسلم العالم الإسلامي من رياحه الحارقة ولا يسلم أبرياء الغرب، وتستمر المزايدات باسم مكافحة الإرهاب من ذات مسببيه وناشريه في المعمورة"


وهذا تناقض صارخ وإحلال للفكر اللاهوتي والديني في العالم محل الاعتبارات القانونية الحقوقية الجمعية، فمسألة إعلان دين كفره بالدين الآخر -كالمسيحية أمام اليهودية واليهود أمام المسلمين والمسيحيين، وكفر الشيوعيين بالرأسمالية الغربية، والليبرالية باليسار الراديكالي- هي مساحة فكر لحق أقره الإسلام قبل غيره، ولم يجعلها شرطاً للتسامح المدني. وثبتها في كلمته الخالدة: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليفكر".

إن هذا المعنى المهم والدقيق في مسيرة المعرفة الإنسانية، بأن مساحة كفر كل دين أو مذهب بدين الآخر مسألة حرية شخصية، تنقض اليوم ليطلب من الأزهر أو غيره تحويل هذا المعتقد الديني القائم على خلافات جوهرية إلى مادة سياسية، يحتج بها الاستبداد على قصوره الأمني واستبداده على الحقوق المدنية والقيم الديمقراطية.

والأخيرة هي التي تُنظّم الميثاق الدستوري المدني للحياة الوطنية، وعلاقات الناس بكل مذاهبهم عبر هذه القيم الحقوقية المشتركة، حينها يتمتع كل أهل دين بحقوقه الدينية والوطنية، ويلتزم منسوبوه بنظام مشترك فتطمئنُ نفوسهم وتستقر مواطنتهم وسلامتهم ومستقبلهم، وتبقى لكل دين مساحته التي يعبّر بها عن تباينه مع الدين الآخر، دون تحريض على منتسبيه أو استباحة لحقوقهم.

وفي الحالة الإسلامية حيث مرت على حاضر العالم الإسلامي أزمنة طويلة من القهر السياسي، ومخالفة النهج الواجب لإقرار العدالة والحقوق السياسية عبر عهودٍ عدة؛ فإنّ هذا المفهوم تعرض لتوظيفات سياسية عديدة، ومع ذلك بقيت مسألة شراكة الأقليات وحضورهم الوطني تتطور إيجابياً، حتى صيغت في مفاهيم دستورية بعد الاستقلال.

لكن نقض قرار الحرية والشراكة الشعبية عبر المستبدين قوّض هذا الصعود الفكري، ومنع تطوير العلاقات الوطنية الجامعة لحاضر العالم الإسلامي، ولعب الغرب القديم والجديد على هذه العلاقة فحرص على تفجيرها سياسياً.

وساعدته في هذا الزمن حرب الإرهاب الكبيرة التي يمارسها الغلو الديني المتوحش باسم السلفية الجهادية، وقد ساهم توظيف الاستبداد لها ولخطاب بنيتها الأيديولوجية -عند الموالين له- في انتشار ظاهرة التوحش التكفيري للمسلمين أنفسهم، ثم انتقل ليضرب المسلمين وطوائفهم وأقلياتهم المتعددة.

إننا هنا -وبلا لكن وبكل وضوح- نعتبر أن استهداف المدنيين الأبرياء من مسيحيي المشرق ومدنيي الغرب، من التوحش السلفي الجهادي الطائفي المسلح باسم داعش أو غيرها، مدانٌ وعملٌ إجرامي يعتدي على الكرامة الإنسانية، التي أقرها الإسلام وتعهد بحمايتها. وهو يزيد مبررات الظلم وعواقب التدخلات الكبرى التي مزقت المنطقة، ويكفي أن نضع نصب أعيننا علاقة الأديان في العراق والطوائف قبل الغزو الأميركي وبعده.

فكيف كان العراق وكيف صار؟ وما هو أثر هذا التدخل الغربي والتوحش الاستعماري على علاقات إنسان الشرق؟ وكيف حافظ هذا الشرق -رغم كل تخلفه وأدوائه- على مساحة من التعايش والتفاهم قبل حروب الغرب، فتقاطعت الشيعية السياسية والسلفية الطائفية على هامش حروبه، وما جرته على المنطقة.

إذن ليست قضية اعتقاد كل ملة ودين بتباينها العقائدي عن الملة الأخرى سبباً للصراع ولا التوحش، ولم يُعلن الغرب -حين خروجه من حروبه الدينية المدنية من النرويج إلى إيرلندا- تسوية دينية بين مسيحييه، فضلا عن عودة هذا الصراع في مذابح اليهود على أيدي المسيحية النازية. القضية هنا في الميثاق المدني والتحريرات الفكرية، وليست في إعلان أهل كل دين أن ذوي الدين الآخر يشملهم إيمانهم، فالله هو الذي يحكم بين عباده فيما فيه يختصمون، في أمور دينهم.

أمّا في حملة اليوم التي تُخفي عوارها وأزمتها بعد أن استفحلت الفوضى بين الشعوب جراء قمعهم وإسقاط ربيع أملهم، فقد بات الاستبداد يحاول إخفاء مسؤوليته باستدعاء المؤسسة الدينية وربط فشله بها.

"لسنا نزكّي أي مؤسسة دينية بالمطلق ومنها حالة الأزهر، لكنّ التوظيف السياسي لها سابقا ومنعها من تبيان حق الشعب المدني للحريات السياسية، هو الذي أضعف مكانتها. ثم يقرر اليوم من وظف موقفها بأنها مسؤولة عن هزائمه الأمنية، لوجود عشرات الآلاف من الأخطاء في كتب التراث، وعليه العمل على محوها"


وهنا لسنا نزكّي أي مؤسسة دينية بالمطلق ومنها حالة الأزهر، لكنّ التوظيف السياسي لها سابقا ومنعها من تبيان حق الشعب المدني للحريات السياسية، هو الذي أضعف مكانتها. ثم يقرر اليوم من وظف موقفها بأنها مسؤولة عن هزائمه الأمنية، لوجود عشرات الآلاف من الأخطاء في كتب التراث، وعليه العمل على محوها!

إننا اليوم حين نشير إلى أزمة الأزهر في استهدافه من نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومؤسسات غربية وتحالفات علمانية متطرفة داخل مصر، نؤكد على هذا المدخل الفكري الحقوقي الذي تُبنى عليه قاعدة التوجه السياسي لمصادرة الأزهر وتأميم فكره، بناء على تشويه وتناقض مع الفكر المدني الدستوري.

فيُطلب من الأزهر ما ليس له علاقة بالأمن المدني ولا يكفل حقوق ولا سلامة الطوائف، من خلال إعلانه أن الدين الإسلامي مشاع لا قطعيات له ولا خصوصية، والمؤمن به والكافر به هم سواءٌ في الانتساب إليه. وهذا تعسّف وتضييق ترفضه أبجديات الفكر الدستوري، فكيف يُستدعى اليوم مفهوم ديني كبديل للحق المدني، ومن قال إن هذه الإعلانات ستُغيّر معادلة العنف، بل إنها -على العكس- ستزيد التطرف غلوا.

وإنما مهمة المؤسسات الدينية هي بيان مشروعية الحقوق المدنية في التنظيم الدستوري لدولة العدالة الغائبة اليوم في مصر وغيرها، وأن التباين الديني لا يمنع المساواة الدستورية، وإن بقيت للشعب والدولة المسلمة رمزية هويتها، وميثاقها المجتمعي لمسلميها وعلاقتهم الروحية والأممية، فإنها لا تُناقض التكامل الحقوقي مع مواطنيهم.

إن الأزهر -بالجملة في تاريخه- مثّل حالة اعتدال واحتواء لطوائف المسلمين، وخرج منه التجديديون والمحافظون، وبقي يبعث فكراً وفقها منيراً، ويتداخل اجتماعيا وثقافيا وسياسيا مع الحياة الوطنية المصرية وامتداداتها العربية، وقد حمل هذا التاريخ أخطاء واشتباكات مع حركة التنوير المعتدلة والمتطرفة، لكنه بقي ممثلاً لمنهجية اعتدال واسعة.

والأزهر أيقونة ضمير روحي للمسلم المصري الذي اجتاحت أرضه طائفية سلفية وطائفية قبطية، عكّرت روح التسامح المصري، وكان للتوظيف السياسي لها -منذ عهد الرئيس حسني مبارك وحتى انقلاب تموز 2013- دور كبير في تشظيها بين الأقباط والمسلمين، وفاقم ذلك تشجيعُ رأس الكنيسة القبطية ومؤسسات المهجر على إسقاط ثورة 25 يناير، والتي كان إسقاطها يوم 30 يونيو/حزيران وبالاً على كل شعب مصر وزاد الاحتقان الداخلي.

"الفكر الفلسفي الدستوري للحياة المدنية المذبوحة في العالم العربي، فإنه لا ينطلق من جمع رؤوس المؤسسات الدينية لإعلان دين موحد لا يُكفّر الآخر. فهذا بغي على حق ديني وإنساني محض، وخلط جاهل متخلف بين الواجب الحقوقي وحق التعبد الديني"


إن التراث في الفقه والتدوين الإسلامي ليس ثوابت للدين، وفيه ما فيه من الكوارث والكنوز، لكن ربط الأزهر بكل ما تقع عليه حركة التطرف العلماني ومطالبته بنبشه وتصحيحه، هو مجرد تبرير للاستبداد وإشغال للرأي العام عن مفاصل مشروع الإنقاذ الوطني الاجتماعي لمصر.

والكل يستذكر حركة المراجعات التي أجراها الأزهر بعد ثورة 25 يناير، وخلاصاته المقاصدية للدولة المدنية المسلمة، وهي إنتاج فكري متقدم يساهم بقوة في الحفاظ على الاستقرار المدني والسلم الأهلي لمصر ولتجربة الشعوب المماثلة.

لقد استفاد النظام وحركة التطرف العلماني والداعم الغربي لها -الذين يسعون اليوم لتأميم الأزهر كليا بعد إسقاط شيخه أحمد الطيّب- من الحملة الشرسة للإخوان المسلمين في مصر، والدعم الإعلامي العربي الحليف لهم، حيث شُوّه الأزهر وأُبيحت ملاعنته ونُشرت صور كاذبة مشينة عنه، بسبب خلاف الأزهر مع الجماعة في خطأ شيخه التاريخي في 3 يوليو/تموز 2013.

ولم تستطع الجماعة أن تعزل هذا الخلاف عن حملة إسقاط الأزهر، فتنتبه إلى ما يمثّله من عمق إستراتيجي روحي للشعب، وبين الخلاف مع مواقفه السياسية، لتسهل ضريبة إسقاطه الذي لن يحفظ الدم المصري الذي اُستبيح من رابعة إلى المنيا، وإنما سيُعزز التطرف والتطرف المضاد.

أما الفكر الفلسفي الدستوري للحياة المدنية المذبوحة في العالم العربي، فإنه لا ينطلق من جمع رؤوس المؤسسات الدينية لإعلان دين موحد لا يُكفّر الآخر. فهذا بغي على حق ديني وإنساني محض، وخلط جاهل متخلف بين الواجب الحقوقي وحق التعبد الديني، الذي يوصي بأخلاق العدل والتسامح مع مواطنيه من كل دين، ولا يجعل شريطة ذلك عدم الكفر بالدين الآخر، وإنما يوحدهم على ميثاق مجتمعي يقول لهم: دين الله الذي آمنتَ به يأمرك بأن تكون حقوق وطنك للجميع.

المصدر : الجزيرة

أضافة تعليق