مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2017/05/01 09:35
التحالف الإسلامي العلماني للنهضة في نموذج ماليزيا

مهنا الحبيل
التاريخ: 29 إبريل، 2017
الكاتب:

في مقالنا السابق "الدولة المدنية المسلمة.. تصحيح المفاهيم"، نوهنا بالحاجة لنموذج تطبيقي تُفهم منه الأفكار الأصلية للمقال في مفاهيم تصحيح الوعي الإسلامي للدولة المدنية، الذي أضر خطؤه بحركة البحث التاريخي لسبل إنقاذ الشرق وطريق نهضته، لتحقيق حياة مدنية مستقرة لشعوبه، بتكافل حقوقي وسياسي وقوة منَعة، تدفع عنه أساطين الظلم الدولي، أو نزعة الشر الداخلية لأي قوة كانت.

فالصراع سُنة كونية، وإنما يتحقق دفع شره بالدولة العادلة القوية، وبالنهضة الفكرية لها التي يتحول إنتاجها إلى ثمرة بُنيةٍ صلبة لكل شعب ووطن، وأوطان المسلمين ليست مستثناة من هذه المعادلة الكونية، وإن بقي الإيمان الروحي وقوداً للنهضة والعدالة والقوة الإنسانية الراشدة.

وقبل أن نستطرد في طرح التجربة الماليزية -التي نتمنّى لها ولشقيقتها التركية التطور والإصلاح، خاصة في ظل تحديات التجربة التركية وخصوصيتها، لأهمية تركياالجيوسياسية للعالم كله وليس للشرق المسلم فقط- فإننا نؤكد أن النموذج الماليزي ليس مثاليا، وفيه الكثير من النقص والصراع السياسي، والحاجةُ إلى التكامل الفكري قائمة في هذا الأرخبيل المهم من جزر الشرق الآسيوي.

وهو اتحاد فدرالي ذو غالبية مسلمة وتعدد ديني وقومي، ومع ذلك نجح في احتواء تنوعه فكان جزءاً من آلية نهضته مواطنوه ذوو الأصل الصيني حين تحوّلوا شركاء تنمية صناعية، فيما لم تكن خبرة المالاويين ولا طبيعتهم الاجتماعية مساعدة في اكتساب هذه الفنون بالقدر الكافي للعمل الوطني العام، ولكن هذا المدخل في التوافق واستقرار الدولة الدستوري، ثم مستوى النهضة، يكفي للإشادة الموضوعية بهذا النجاح.

والأمر الآخر أن هذا الاستقرار الدستوري لم تَحرم دولته المدنية الماليزيين من حضور الروح والفكر والأخلاق الإسلامية، وظل التعاطي معها قائما ومنتظماً كخيار طوعي لأبناء الشعب، دون قهر ديني أو قمع قانوني، وإن تمت مراعاة الجانب الحقوقي لقيم غالبية المجتمع في عدم الإساءة إلى دينها وهوية شعبها الإسلامية.

وفي ذات الوقت ضُمِنت للأقلية الصينية والهندية السيخية ممارسة حقوقهم الدينية، ولكن فضاء الرأي الفكري والسلوك الشخصي له مساحة كبيرة في الحياة اليومية والتعليمية للمجتمع الماليزي.

1- انطلقت تجربة ماليزيا بعد المفاوضات الصعبة التي قادها الزعيم الوطني لمنظمة "أمنوا"UMNO) ) -وهي أبرز تحالفات العمل الوطني- تنكو عبد الرحمن، في المرحلة الأخيرة من المقاومة الماليزية التي واجهت احتلالات غربية شرسة، اختتمتها بريطانيا منذ 1876 وحتى بداية الاتفاق السياسي للاستقلال 1954.

تعامل تنكو عبد الرحمن ورفاقه مع فصل سنغافورة -التي تكتل فيها التوطين البريطاني للصينيين- بعقل سياسي كبير وقيم إنسانية، مع حق الحصول على جنسية الاستقلال الوطني لبقية الموّطنين من الصين والهند، فتم دمجهم في الحياة الوطنية لماليزيا، وساعد ذلك في دفع عجلة الاستقرار وحركة الصناعة والتجارة للاتحاد الجديد.

2-  ضَمِن الدستور الماليزي بقاء رمزية السلطنة الإسلامية، وراعى تعدد السلاطين بتناوبهم على السلطة، فيُنتخب أحدهم دوريا كل خمس سنوات ضمن نظام ملكي دستوري، ولكن السلطات مفصولة كلياً لمصلحة الشعب تشريعياً وقضائيا وتنفيذياً، والحاكم التنفيذي صاحب الصلاحية هو رئيس الحكومة المنتخبة وفقاً للآلية الدستورية.

لكن تبقّت لدى السلطان المرجعيةُ العليا للقوات المسلحة التي أنيطت بها حماية الأمن القومي وحدود الاتحاد الماليزي فقط، ولا تتدخل في أي صراع سياسي، وذلك حتى يبقى إرث الكفاح والأمن الأهلي والهوية القومية الإسلامية لماليزيا في يد الرمزية التاريخية للدولة، التي التلف عليها الشعب وخاض حرب تحريره واستقلاله.

3-  بدأت معالم النهضة مبكراً مع الاستقلال بعد هذا الاستقرار، وشارك المالاويون -بأطياف العمل الوطني من علمانية وإسلامية- بكثافة في العملية السياسية، لكن بقيت مخاوف كبيرة من تحريك الصراع والجدال -بين الأقليات الموطّنُ غالبها وبين الغالبية المالاوية- تثير إشكالات وحزازات كبيرة.

كانت "أمنو" -في عهد د. محاضر محمد ورفاقه بعد تنكو عبد الرحمن- تمثّل واجهة العمل الوطني، عبر رؤية العلمانية الوطنية المؤمنة بالقيم والروح الإسلامية، فيما كان الحزب الإسلامي -الذي تأثر بالحزبيات الدعوية في المشرق العربي- يمثل المنافس لهم مالاوياً.

واجتمعت شخصيات من الفريقين لتكوين تحالف إسلامي وطني لمصلحة ماليزيا، وهو ما تحقق بانضمام د. أنور إبراهيموفريقه (وإبراهيم هو أحد أبرز شخصيات الفكر الإسلامي في تاريخ ماليزيا الحديث) إلى محاضر محمد و"أمنو"، وبقي الحزب الإسلامي مستقلا بطبيعته الدعوية.

انتُخب الحزب الاسلامي لحكم جزيرتين محليا، ثم خسر إحداها وبقي له تمثيل جيد في البرلمان الوطني، لكن ذلك ظل في سياق تدافع دستوري سياسي سلمي، وعززت نشاطاته مسار تأمين مفاهيم القيم والحقوق الإسلامية الأخلاقية للشعب الماليزي ضمن الحياة الدستورية الشاملة.

أما التحالف العلماني الإسلامي فقد أدار مسارات تعزيز العقد الدستوري والنهضة والتنمية والحراك الفكري المصاحب لها، ونجح في تحويل النهضة الصناعية إلى قوة للعهد الماليزي الجديد، أمام الغرب وأمام شركائه الآسيويين.

4-  هذا التحالف للعمل الوطني العلماني الإسلامي هو في الحقيقة سر التفوق الذي صعدت به ماليزيا والقفزة التعليمية المتقدمة، لتتجاوز مخاوف الانقسام القومي الأولى إلى بدء صناعة النهضة الحديثة للدولة المعاصرة.

وكانت شخصية محاضر محمد -كما هي شخصية د. أنور إبراهيم- قاعدة قيادة نوعية نادرة للمسلمين في شرق آسيا. وجهد وإبداع د. محاضر محمد لا يُنكر أبداً، لكن الكثيرين يجهلون الدورَ الكبير الذي لعبه أنور إبراهيم الإسلامي في هذا السياق النهضوي، واعتناءَه بخلط فكر القيم بآليات التقدم المادية لصالح الشعب الماليزي.

5-  هذا التحالف أقنع شركاء الأقليات بقوة البنية المالاوية الوطنية، وشجعهم على الانخراط معها في مشروع النهضة، وإن بقيت المؤسسات الحزبية قائمة للصينيين والهنود السيخ، إضافة إلى المندمجين منهم مع حزب "أمنو"، ولعلها كانت الفترة الذهبية لماليزيا.

6-  لكن الأزمة كانت في إشكالية الصراع داخل المؤسسة الحزبية المالاوية نفسها، ومشاعر الغيرة والتنافس فيها، وهي إشكالية بشرية يزخر العالم بنماذجها المتعددة، إلا أنها في الدولة المدنية الغربية لا تؤثر على بنية الدولة والحزب، بسبب ترسيخ القانون الدستوري الحقوقي شعبيا وتنفيذيا خلال رحلة مئتيْ عام.

وهذا الأمر هو سر قوة الدولة المدنية كتجربة واجتهاد بشري، وهو في أصله ضمن حوافز الفكر الإسلامي في صناعة الدولة القوية، بأصول ثابتة في العدالة الاجتماعية، لا تقدس الأشخاص بل تسألهم -في تسلطهم السياسي على الصلاحيات والثروات- من أين لك هذا؟

لكن مشكلة التراث والتجربة الإسلامية المعاصرة أنها جعلت من مؤسسات القوة السياسية والدستورية للدولة المدنية قضايا صراع ديني، وهي في الحقيقة وسائط جهد بشري للوصول إلى معادلة المؤمن القوي بعدله.

7-  كان الإشكال الرئيسي شعور د. محاضر محمد بأن د. أنور إبراهيم قد ينافسه على زعامة الحزب وتاريخ النهضة الماليزية مستقبلاً، في ظل حيويته الشبابية وتطور فكره الإصلاحي الدستوري، وثنائية إسلاميته المالاوية وانفتاحه على القوى الاجتماعية للصينيين الماليزيين لتسوية جذور الانقسام القومي، إضافة إلى تبني إبراهيم مواجهة مساحة الفساد الذي بدأ يصعد في ماليزيا.

وإن بقيَ هذا الفساد في عهد د. محاضر ذا نسبة قليلة في ظل الظرف الصناعي والقفزات الاقتصادية والتنموية الكبرى، التي كسب بها محاضر ورفاقه رهانهم الوطني في ذروة النهضة نهاية التسعينيات، إضافة إلى قضية نجاح د. محاضر في حماية ماليزيا من كارثة السقوط الاقتصادي الآسيوي، ومواجهة دور الفساد وبعض رؤوس الأموال الغربية فيه.

8-  انتهى الخلاف إلى سجن أنور إبراهيم باتهامات مسيئة جدا، وهي اليوم محل تكذيب من الرأي العام، والنخب السياسية تتندر عليها، كما أن اعتذار د. محاضر محمد الضمني عنها عند انضمامه الأخير للتحالف الذي يقوده حزب العدالة الشعبية (وزعيمه الفكري أنور إبراهيم) يؤكد هذا المفهوم.

9-  نحن هنا أمام تجربة إنسانية تعطينا مؤشراً في كيفية تأثير الصراع السياسي والتنافس على العمل العام، فهنا القضية ليست د. أنور إبراهيم الإسلامي و د. محاضر محمد ذا الوجه العلماني المعتدل وصاحب الفكر النهضوي القريب من الروح الإسلامية، وإنما القضية في إشكاليات هذا التنافس، لأن الرجلين لم يتفرقا عبر رؤاهما الفكرية بل توحّدا، وإنما فرقهما الصراع الشخصي الذي يلعب دوراً خطيراً في بنية العمل السياسي في الشرق للإسلاميين والعلمانيين وغيرهم.

10- أصر بعدها د. أنور إبراهيم على إطلاق رحلة كفاح دستوري وطني أقوى لماليزيا، وأن يُشكّل بديلاً تنافسيا يصنع قاعدة قيم مع الشركاء الوطنيين، ولا يقبل بأي صفقات لشخصه لا تحقق الطريق، حتى ولو كانت ضريبتها كل هذه السنوات من السجن.

ولا يزال د. إبراهيم سجينا بعد أن أعيد اعتقاله، ليس بسبب د. محاضر وإن استخدمت ذات القضية ضده، وإنما لكون قوى متنفذة داخل حزب "أمنو" (الحزب الحاكم) تخشى من أن خروجه سيشكل قيادة كاريزمية ملهمة لا طاقة لهم بمواجهتها، وستجتاح المشهد السياسي وتصل إلى الحكم، وهذا تؤكده نسبة التصويت الأخيرة للمعارضة، ومخاوف "أمنو" من الانتخابات القادمة قبل نهاية عام 2017.

11- اليوم تضم المعارضة حزبيْ إبراهيم ومحاضر في سياق صراع سياسي مع "أمنوا" والحزب الإسلامي الذي تحالف مع "أمنو" ضد الإصلاحيين المالاويين، بناءً على مصالح أمن قومي لماليزيا وإدخال مواد دعوية يسعى الحزب لإقرارها دستوريا، حسب حديث زعيم الحزب الشيخ عبد الهادي أوانغ.

12- كل ذلك لم يُغيّر استقرار ماليزيا، وإن كانت معركة مكافحة الفساد -كما وقفتُ عليها مؤخراً- تشغل الرأي العام، لكن الدولة باقية ومكتسبات النهضة لا تزال متفاعلة، والشعب يعيش تدينه ومواطنته الاجتماعية معاً داخل حدوده القومية.

وإن كانت هناك مخاوف متبادلة بين المالاويين ومواطنيهم الصينيين فإنها إلى اليوم تحت سياق الاحتواء السياسي، ولا يوجد انقسام بين مسلمين وغير مسلمين كمواجهة سياسية مباشرة، وإنما هناك مشروع المعارضة الذي يقوده أنور ومعه كتلة مهمة من الصينيين إضافة لرفاقه المالاويين، ومشروع حزب "أمنو" الحالي بقيادة د. نجيب عبد الرزاق وأيضا معهم كتلة صينية ماليزية أخرى.

وهذه الحصيلة تقوم على الحفاظ على بنية الدولة الدستورية، والعقد الاجتماعي والتدافع الوطني تحتها، مع فصل السلطات، وفضاءات اجتماعية واقتصادية، وفنون وموسيقى وآداب وثقافة وتراث، تصدح فوقها المآذن ويقدم تلفزيون الهجرة الإسلامي مادته ضمن باقات قنوات واسعة أخرى للمالاويين والصينيين والهنود، وتنشط دروس الدعوة الإسلامية، وتقبل الفتيات على الحجاب طوعيا.

تلك هي مادة الدولة المدنية المستقرة للمسلمين، وعبرها يمارس الناس تنافسهم السلمي، ولدى ماليزيا كما قلنا تحديات كبيرة أمام النزاهة السياسية والشفافية والفساد، لكنها مستقرة ومنتظمة، ودوي تراتيل القرآن حاضر مع سماء نهضة الإنسان.

فأي الصورتين خير؟ عقد دستوري وتحالف وطني يفتح الباب للخروج من الحرب والفتن، وبناء دولة مدنية للمسلمين وغيرهم، أم رهن الخلق تحت خطاب الترهيب الديني أو العلماني الدولي، أو الاستبداد السياسي وحروب الغلو باسم الإسلام المفترى عليه؟

أضافة تعليق