مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2017/04/08 09:20
الوجهة الإنسانية للحضارة الإسلامية
ظهر الإسلام في الجزيرة العربية فكان ثورة إصلاحية عُظمى، وخرج العرب المسلمون من شبه الجزيرة ولا حضارة لهم، ثم أنشأوا حضارة جديدة هي أبهى حضارات العالم في العصور الوسطى، لها طابعها الخاص، هو طابع الإسلام واللغة العربية، وهذه الحضارة الإسلامية التي بلغت أوج كمالها في القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين) هي التي جعلت العصور الوسطى عصورًا مضيئة.
والآن؛ تتنوع أجناس ولغات وشعوب العالم الإسلامي وتختلف المستويات الاجتماعية والنظم السياسية، إلا أنه عالم يقدم نفسه في شكل وحدة روحية وحضارية واحدة، فإذا بحثنا في مظاهر عالمية الحضارة الإسلامية في بعض معطياتها المادية وبخاصةً الآثار والفنون الإسلامية على اختلاف أنواعها، نجد أنها تعكس وحدة فنية وحضارية عالمية في التعبير، ولكنها خاصة في التفكير، ونجد ذلك واضحًا في المساجد والنقوش الإسلامية والزخرفة وغيرها.
إن الفن ليس إلا وجهًا من أوجه أية حضارة إنسانية، فنرى الفن الإسلامي يختلف اختلافًا بينًا عن الفنون العالمية القديمة كالفن الهلنستي أو البيزنطي، حيث مزج الفن الإسلامي كل فنون البلاد التي خضعت للفتح الإسلامي وأذاب مكونات عناصرها في سائل الفكر الديني الإسلامي.
لقد استطاعت فنون العمارة والزخرفة الإسلامية على مر العصور التعبير عن فكرة عالمية الحضارة الإسلامية، فالعمائر الإسلامية جذبت انتباه الذين لا ينتمون إلى عالم الإسلام بجمالها وروعة بنائها، لقد كانت هذه العمائر بمثابة تعبير حضاري يستطيع الناظر إليها أن يتعرف من خلالها على الحياة السياسية، والثقافية، والتعليمية لأهل الإسلام، لأنها ليست مجرد مجموعة من القباب والمآذن التي تُزينها زخارف الأرابيسك حفرًا أو رسمًا، ولكنها تعكس ثقافة فنية امتدت ووحدت أقطارًا من أطراف الصين (شرقًا) وحتى إسبانيا (غربًا).
 
لقد حدد القرآن الكريم خصائص عالمية الأفق والرسالة لهذه الحضارة؛ فقد أعلن عن وحدةَ النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه، ومواطنه، في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم)، إن القرآن حين أعلن هذه الوحدةَ الإنسانيةَ العالميةَ على صعيدِ الحق، والخير، والكرامة، جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها رايةُ الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة إلا الحضارة الإسلامية، فإنها تفاخر بالعباقرةِ الذين أقاموا صرحها من جميعِ الأممِ والشعوبِ؛ فأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وسيبويه، والكندي، والغزالي، والفارابي، والبيروني، وابن رشد... وأمثالهم ممَنْ اختلفت أصولُهم وتباينت أوطانُهم، ليسوا إلا عباقرةً قدَّمت فيهم الحضارةُ الإسلامية إلى الإنسانية أروعَ نتاجِ الفكر الإنساني السليم.
ولم تحفل الحضارة الإسلامية بالحدود الجغرافية، الأمر الذي طبعها بطابع السيولة، فقد ضمت مناطق جغرافية متباينة في آسيا وافريقيا وأوروبا لم تحل دون نبع الحضارة ليغمر كافة بقاع العالم الإسلامي. فإذا نظرنا للحضارات السابقة على الإسلام فنجدها وقد عرفت كل الحواجز التي أقامتها بين الفئات المختلفة من رعاياها، فالحضارة الرومانية فرَّقت في الحقوقِ بين سكان روما وسكان سائر إيطاليا، ثم بين الرومان وسائر رعايا البلاد المفتوحة، وبين الذين خضعوا للإمبراطوريةِ ومَنْ كانوا خارجها الذين دعتهم "برابرة"، أما حضارة الإسلام فقد أزالت الحواجز النفسية والمكانية بين أبنائها في مختلف أنحاء العالم فكانت بحق إنسانية عالمية، وبشهادة أعلام دارسي الحضارة في أوربا من أمثال جورج سارتون، ول ديورانت، أرنولد توينبي، وآلدوميلي.  
أمّا الوجهة الإنسانية للحضارة الإسلامية، فكانت ساطعة في ظاهرها المعطاء الخدوم، حيث شمل محيطها الواسع كافة الجوانب المادية والمعنوية بكل ما تعنيه هاتان الكلمتان من معان رحبة. فلم تظهر على وجه البسيطة حضارة قدمت نتاجها العلمي، واختراعاتها، واكتشافاتها لخدمة البشرية وبمصداقية تامة كالحضارة الإسلامية، التي كرّست نفسها وعلماءها لترويج وتيسير الحضارة والتقدم والازدهار، مع الأخذ بنظر الاعتبار حاجة العلم المعنوية والمادية بتنسيق بارع وبغاية الدقة.  
أضافة تعليق