مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2017/03/04 15:22
الحرب تنهش أجساد صغارنا

غادة العبسي

السبت 04 مارس 2017 03:07

للحرب في اليمن ندوب تركتها في أرواح الأطفال وعقولهم، فضلا عن أجسادهم، ولن يكون الزمن كفيلا بإزالتها.. لدينا جيل من الأطفال اختبر معنى الخوف والوجع والضياع والفقد أيضاً..

كنت عائدة من عملي حين استقليت باص من جولة عصر إلى مذبح، أفسح لي الشاب مكانه وجلست إلى جوار طفلة في العاشرة من عمرها، كانت ترتدي نظارة شمسية معتمة جدا غطت نصف وجهها القمحي، انسكبت خصلات من شعرها الأشقر على النظارة، كانت تفرك يديها الصغيرتين بتوتر، انحنيت نحوها وهمست لها: نظارتك حلوووووة.

ابتسمت وهي تحني رأسها للأمام ثم ردت عليّ قائلة: أنت فين تدرسي؟

شعرت أن الطفلة تقبلتني، أمسكت يدها الصغيرة وبدأت بالحديث معها، وسألت عن اسمها وأين تدرس وعن عمرها؟

قالت: اسمي مرام، أنا في صف سادس، وأدرس في مدرسة عائشة في المطار القديم في تعز.

قلت لها: تبدين ذكية جدا يا مرام، وأضفت، ونظارتك جميلة جدا؛ من فين اشتريتيها؟

ابتسمت وهي تمد يدها إلى وجهها وتسحب النظارة برفق، أشارت بإصبعها الصغيرة إلى عينها اليسري وقالت لي: هذه مش عيني، هذه عين صناعية، أصلا جت القذيفة لبيتنا والشظية دخلت في عيني.. أخذت مرام تشرح لي العمليات الثلاث التي أجريت لعينها اليسرى، وكم استغرقت وقت بين كل عملية وأخرى، وأنهت شرحها وهي تشير إلى عينها اليمنى قائلة: هذه العين أشوف فيها تمام ما توجعني، بس هذه ما اشوف فيها لأنها صناعية، كانت تتحدث عن عينها بشوق ممزوج بألم.

لم أستطع إطالة النظر في عينيها، كانت العين الصناعية تحدق بي وكأنها تتهمني بخذلان مرام، وكانت عينها السليمة تعاتبني بنظرة طفولية جعلتني أشعر بأني من أشعلت هذه الحرب الملعونة..!

حاولت الهروب من الحديث عن عينها المفقودة، وسألتها: أنت ومن في صنعاء؟ أشارت إلى الشاب الذي ترك مكانه جوارها لي، وقالت: أنا وأخي هذا، وبكرة بنرجع تعز..

سالتها عن أبيها لماذا لم يأت معها؟

انكسرت الابتسامة التي كانت مستيقظة على شفتيها، وقالت: أبي مات.. عدلت جلستها، وبدأت تهز رأسها وتفرك يديها المصبوغة أظافرها بطلاء اختفى نصفه -وهي تعيد لي الكلمة أبي مات.. (بس مات موت من حق الله مش موت من حق الحوثيين..!!).

للموت في بلادنا أشكال وطرق يعرفها الأطفال جيدا، ويستطيعون التعبير عنه ببساطة، فالموت الذي يأتي من الله أخف وطأة على قلوبهم من موت تأتي به الحرب، موت ربما لا يخطف الروح بل يخطف الأمان والسعادة وذراع طفلة يجعلها عاجزة عن هدهدت عروستها لتنام، وساق طفل يعشق لعب كرة القدم، عين مرام المنسكب عليها خصلات شعرها الأشقر..

للحرب في اليمن حكايا نقرأها في أجساد الأطفال وابتسامتهم المرتجفة كقلوبهم التي أفزعتها قذائف الحوثة العشوائية وصواريخ التحالف التي بالغت في أهدافها الخطأ..

للحرب في اليمن حكايا سطرت على أجساد الأطفال بحقد وغلظة، لن نستطيع الهروب منها أو إنكارها.

 يجب أن نتوقف هنا؛ فالحرب لن تشبع من أجساد صغارنا الأبرياء..

*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "يمن مونيتور".

أضافة تعليق