مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/05/03 01:04
الاجرام الحقيقي من منطلق الفكر التقي
الاجرام الحقيقي من منطلق الفكر التقي
 
كان لتخصص دراستي القانون الجنائي من باب الحب و الرغبة العميقة لمثل هكذا تخصص و لو أني لما بلغت مستوى من الفهم و التعمق أصبحت أشعر بكثير من بذل الجهد في فهم أبعاد هذا الفرع ،لأني في مستوى تكويني لنيل شهادة الليسانس ظننته مجرد تعريفات وآراء فقهية و أنواع بسيطة للجريمة و كفى ، لكن  بعد أن تخطيت  تلك المرحلة و تابعت تكوينا في مصر تحضيرا للماجستير  كان لدراستي حجم اضافي مكثف فلم أقدر على الاستيعاب الا و أنا اظفر بالانتقال بصعوبة كبيرة جدا خاصة و أن التدريس في الجامعات المصرية يعتمد كثيرا على قراءة العديد من الكتب للظفر بنجاح في مادة واحدة و طريقة التدريس تختلف عنه في منهج التدريس في النظام التعليمي الجزائري ، صراحة أتعبني التخصص و أرهق فكري لأنه في كل موضوع من ميدان الاجرام له باب دقيق يعتمد على تحليل علمي و فني ليصل الباحث الى الاستنتاج  القانوني و من ثم نقد القوانين و تعبئتها بما جاد من توصيات و نتائج ، و لعل ما زاد في تصور منطقي للقانون الجنائي هي مطالعاتي المختلفة سواء لمؤلفين عرب  أم أجانب و على امتياز منهم الروائية كريستي و التي منحت لمحبيها فرصة للتعمق في قصصها البوليسية  المليئة بالأسرار الغامضة المعتمدة ليس فقط على مواقع الحدث في بلاد  الشرق و انما على خيال الكاتبة الجامح و لغتها الدقيقة السيالة و قدرتها  الفريدة على ابتكار الشخصيات الغامضة و المثيرة في آن ، لكن يبقى الفكر العربي يعتمد في كتبه الأكاديمية على آراء فقهية و قانونية و القليل فقط من راوغ في مواضيع الاثبات الجنائي على نسق المؤلفين الاجانب الذين يمتلكون لغة رائدة مليئة بالحسابات الرياضية و المصطلحات العلمية المنتقاة بدقة في تحليل الظاهرة الاجرامية و اعتماد الدليل العلمي في الاثبات و الكشف عن الجريمة و الجاني الحقيقي ، و بالتالي التفاوت بين العقل العربي و الأجنبي له باع كبير من الفرق ، يجعل الباحث يركز على  الترجمة النصية للمصطلحات العلمية ليفهم لب القضية و سر تفوق الكتابة بالانجليزية في مجال الاجرام ، فهي سلسة متقدمة كثيرا عن اللغة العربية في مجال التخصص الجنائي ، و هذا نقص وجب تداركه بالاعتماد على عقول عطرة بالعلم الصحيح مثل نموذج الدكتور عبد الباسط عبد الجمل الذي توصلت معه في رحب من المناقشة أن لا شيء مستحيل على الفكر العربي و ما هو ضروري لتحقيق التقدم بالكتب القانونية في مجال التخصص الجنائي و حتى في المجالات الأخرى انما هو العمل الجاد و السعي الحثيث لمعرفة الحقيقة و من مصدر الحقيقة.فبحجم الصدق مع العلم بقدر ما يتحقق المراد بإذن الله.
ربما لصعوبة الأمر ما ترسخ في ذهني و أنا أعيش موقفا مع طالب جامعي حينما وقفت لتصوير كتاب عن الجريمة بغلاف جذاب جدا بلون أحمر للدم و صورة لصيقة للمجرم امام القاضي ، فحينما وضعت الكتاب جانبا بعد الانتهاء من تصويره  تناوله الطالب بعد اذن مني فسألني بعدها  عما ان كنت أحب التخصص الجنائي بهكذا دراسة لمشاهد مخيفة  و معقدة أحيانا  فكان السؤال مباشرا :
استاذة ألا تخافين من قراءة مثل هكذا مشاهد؟ فقلت : نوعا ما ، و أنت ؟ فقال :انا أكره مثل هذا التخصص و أفضل بكثير عموميات القانون خاصة بعد أن تعرضت لعملية اعتداء جسدي ، فقلت له تلك هي رغبتك و لك أن تحافظ على رغبتك و لا أحد يناقش معك الأمر ، فسألني مرة أخرى : كيف أتخلص من عقدة الخوف هذه ؟
فقلت له أن تقبل على قراءة مثل هذه المواضيع لتعود عقلك على تقبل كل شرائح العلم و بالمرة تكون قد خرجت من نفق الخوف الذي انتابك بسبب تلك الصدمة.
لكن و بعد أن غادرت الموضع جلست على طاولة أكتب و في  نفس الوقت أفكر في حديث الطالب متسائلة عما  لو كان فكر الانسان تقيا فهل سيقبل لنفسه ان يبقى حبيس افكار مخيفة و لو كانت معاشة حقيقة ؟ ، ثم أليست تقوى الله ترفع فكرنا و عزيمتنا و ايماننا الى ما فوق المخاوف و تبث فينا عزيمة التجديد في كل شأن ؟ سواء تعلق الأمر بقضية التخلف العلمي الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية بالمقارنة مع غيرها من المجتمعات الغربية ..
ثم هل فعلا أدركنا حقيقة الاجرام الحقيقي بعقل ورع و تقي دائما ؟ ، و ما كان طرحي لهذا السؤال إلا لأن الجريمة في العصر الحديث أخذت لها اشكالا غريبة و منحى مغايرا تماما لما تعود عليه الباحثون الأكاديميون و الأساتذة المتخصصون في تدريسه حتى أن القانون يقف حائرا في طريقة احتواء الظاهرة .ثم قد يلزمنا الأمر مرة أخرى للتساؤل عن التعريف الحقيقي للإجرام ؟ هل هو الاعتداء لسلب حقوق الغير ام هو سرقة مال و بيت و ذهب و ما طاب من الأشياء الثمينة ؟ أم هو الحاق الأذى بالغير باختلاف أنواع الضرر ،فالمهم هو تحقيق نتيجة مخالفة للقانون و للعرف و للدين ، ربما أفكر في أن الاجرام الحقيقي هو أن يقاطع الأخ أخاه في الدين من غير سبب و أن يقاطع الاب ابنته من غير سبب و أن يطلق الزوج زوجته من غير سبب و أن تسلب الطالبة حقها من النجاح في الامتحان بغير سبب و أن يحارب الناجح على كل الأصعدة و من غير سبب و أن يقتل المريض على طاولة الجراحة من غير احتراز للسبب  ،و أن يهان الموظف البسيط من غير سبب ، لأن السبب الذي درسه العارفون في التخصص الجنائي عن أسباب الاجرام عديدة منها ما هو راجع للبيئة و منها راجع لظروف نفسية و منها المرضية و منها عقدة انتقام ، اذا الجريمة هنا أسبابها واضحة ، فماذا عن الجريمة التي لا يعرف سببها...و ان عرف بطل العجب ، ربما هذا هو الاجرام الحقيقي الذي لا بد  أن نوليه عناية خاصة و من منطلق نصوص ديننا الحنيف و من منطلق الاحتواء القانوني للفعل المجرم ، لأنه لا يعقل أن يلتزم مجتمع بديانة واضحة الأبعاد و منصفة للحقوق  كالإسلام و في سلوكه ردود فعل لا يمكن للقانون شرحها أو تفسيرها للتقليل منها حينما يكون القضاء عليها أمرا مستحيلا .

                               اذا لمكافحة الاجرام الحقيقي من منطلق الفكر التقي هي أن نتقي الله في أنفسنا و مع غيرنا.

أضافة تعليق