مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/01/30 16:26
دليل الحمض النووي(DNA)  في الفقه و القانون الجنائي
دليل الحمض النووي (DNA) في الفقه و القانون الجنائي
 
اتفق علماء الاجرام على النظر الى الجريمة على أنها  الفعل المعاقب عليه بحسب القانون الوضعي و ذلك حتى يسهل على المحققين و رجال القانون تطبيق قانون العقوبات و التعرف على أنواع الجرائم و أكثرها وقوعا في المجتمعات الحديثة ليتم القاء الضوء أكثر على الدوافع و على المرتكبين الاصليين و البحث  في التقليل من ظاهرة العود.
فالإجرام اذن هو ما يصيب الغريزة الاجتماعية لدى الفرد كالمرض الذي يصيب جسد الانسان و بالتالي فالإجرام له دوافعه و البيئة التي ينشأ فيها المجرم أقل ما يقال عنها أنها بيئة مضطربة و هي التي تربى فيها صغيرا فأضحى منها مجرما كبيرا و ليس له أي سبيل في عدم اقتراف الاجرام كغطاء لمكنونات داخلية كثيرة  و لرغبة أكيدة في الانتقام.
و لعلم الاجرام تاريخ طويل يعود الى عصر أبقراط و سقراط و افلاطون عصر ما كانت الفلسفة لامعة و هم من يردون الى أن الجريمة ما هي الا نفس فاسدة في المجرم أساسها عيوب خلقية جسيمة ، و بقى هذا الرأي الفلسفي سائدا الى غاية القرون الوسطى حتى ظهرت نظرية تشير الى أنه يمكن قياس طبائع الشخص من خلال خطوط يديه و رجليه و تقاطب وجهه ، ثم تلتها نظرية أخرى تربط الجريمة بالكواكب و تعلق مصير الانسان على الكوكب الذي كان متسلطا عليه منذ ولادته تبعا لما كان تأثير الكوكب عليه فيما ان كان خبيثا أو طيبا .
و لم تخل فلسفة أرسطو من توضيح العلاقة بين المجرم و المجتمع كون المجرم مريضا و هو عدو للمجتمع و يجب ضربه بقسوة كما يضرب الحيوان المفترس و في ذلك يقول أن الفقر يولد الثروة و الجريمة.
آيا كانت تفسير ظاهرة الاجرام و مهما تنوعت و اختلفت الأقاويل و التعريفات تبقى منها الصحيح و منها ما يقبل النقد بحسب الدراسات المستحدثة و التي كانت في كل مرة تأتي بالجديد ، حيث تعتبر من أهم و أكثر الاكتشافات الحديثة في علم الاجرام و الجريمة  الأكثر تشويقا و اثارة في العصر الحديث مواضيع الحمض النووي (DNA) و تركيبته البنائية ، و التدخل في الجينات البشرية
 على جميع المستويات ما أدى بالقانونيين و الأطباء الشرعيين الى محاولة التصدي لهذه المستجدات التي باتت تهدد أمن و خصوصيات الأفراد.
و هذا ما تفسره مجموعة التعقيدات  و الاشكاليات من الزوايا العلمية و القانونية و الدينية و الأخلاقية ،بدءا في التدخل لتحليل خريطة الانسان الجينية وصولا الى الاشكالية الكبرى و هي الاستنساخ.
فبالرغم من الفوائد و الأهمية التي جلبتها الثورة التكنولوجية و البيولوجية في مجال الهندسة الوراثية ، و كان المستفيد الأول من هذه التقنية الحديثة هم رجال القانون في مجال الاثبات الجنائي و الكشف عن الجريمة و الجاني الحقيقي ،و على الرغم من ذلك فالمشرع المصري  لا يزال يغض البصر على جانب من الظاهرة و الاكتفاء بما تفرضه القواعد العامة.
فاذا كان فيه مجال من الحرية للإثبات في التشريعات القانونية  هذا ليس معناه أن فيه اجماع بالموافقة أن البصمة الوراثية تتقدم على باقي الأدلة الأخرى ، اذا هناك آراء فقهية (*) من تصرح بالعكس من ذلك مثلا نجد الفقيه المصري خليفة علي الكعبي يرى أن البصمة الوراثية لا تتقدم على الشهادة بال بالعكس تتقدم الشهادة على البصمة عند التعارض و ذلك للأسباب التالية :
1-ثبوت الشهادة بالقرآن و السنة و الاجماع بحجتها و العمل عليها منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى " و استشهدوا شهيدين من رجالكم" و قوله تعالى " و أقيموا الشهادة لله" و قوله أيضا " و لا تكتموا الشهادة " ، و تقديم البصمة الوراثية على الشهادة و رفضها نوع من الكتمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أنظر : حجية الدليل البيولوجي امام القاضي الجنائي  للطالبة سميرة بيطام ، بحث قدم لنيل شهادة الماجستير ، الجزائر ، كلية الحقوق بن يوسف بن خدة ، السنة الجامعية 2013-2014 ، ص 161.
 
2-لا ينبغي تعطيل النصوص الشرعية الصحيحة الثابتة من الكتاب و السنة بمجرد دليل علمي حديث قد يشوبه الخطأ و التلاعب لمجرد هفوة او يتلفه شيء من الغبار أو العطس.
3-قد تكون الشهادة مهزوزة في حالات زورا و كذبا ، و قد تكون تقارير البصمة الوراثية مزورة اذا كانت لمصالح شخصية و مطامع انتقامية و الهدف منها  التضليل و ما يدري القاضي بصحتها ،فهي شهادة من غير قسم أو يمين ، بخلاف الشهادة الشرعية فانها تقام بعد القسم على كتاب الله.
4- فيصل النزاع و سيد الموقف في المحاكمات هو القاضي ،فقد يستشف البصمة الوراثية قرينة يطمئن لها قلبه و تدعم الشهادة ، وقد يكون العكس من ذلك  و لكن البصمة الوراثية لا تقام بها حجة عند تعارض أدلة الشرع اذا كانت لوحدها ، أي دليلا مستقلا .
هذا من وجهة نظر فقهية ، و لكن بالمقابل هناك من يشيد باستخدام البصمة الوراثية في الاثبات و هذا ما اتفقت عليه جل التشريعات الغربية و العربية ، ففي فرنسا تخضع التحاليل الخاصة بالبصمة الوراثية للنظام العام للخبرة طبقا للقانون الفرنسي رقم 239-2003 الصادر بتاريخ 18 مارس2003 ،المعدل لقانون الاجراءات الجزائية التي حددت فيه بشروط معينة لتحديد شخصية الفاعلين أو المجرمين ،مبدئيا العينة أو الأثر الضروري لتحديد البصمة الوراثية يتطلب موافقة المعني بالأمر، أما  دون ذلك فلا يتطلب هذه الموافقة اذا تعلق الأمر بشخص المحكوم عليه بجناية أو جنحة معاقب عليها ب 10 سنوات و يمكن لوكيل الجمهورية أو ضابط الشرطة القضائية أن يأمر بذلك.
في بلجيكا تضمن قانون 1999 الخاص بإجراءات تحقيق الشخصية بواسطة تحليل DNA في المجال الجنائي في نص المادة 44 أنه " يسمج للنيابة بمقارنة عينات DNA المأخوذة من مسرح الجريمة مع بصمات المشتبه فيهم " أما المادة 90 فهي تنص على أنه " لا يمكن لقاضي التحقيق أن يأمر بهذا الاجراء الا اذا كانت الجريمة المرتكبة عقوبتها من 5 سنوات فأكثر".
 
أما اسبانيا فانه طبقا للمادة 363 من قانون الاجراءات الجزائية المعدل طبقا للقانون العضوي رقم 15 بتاريخ 25 نوفمبر 2003 يمنح سلطة أخذ العينات لقاضي التحقيق في كل الجرائم لتحديد البصمات الوراثية بشرط أن يحترم مبدأ النسبية و يجب أن يكون طلبه مسبب.
و فيما يخص كندا و الولايات المتحدة الأمريكية فان الاجتهاد القضائي المدني و الجزائي في دليل DNA عولج كدليل اشهاد عملي..
و في الدول العربية اخذت مثالا عن الجزائر و ان كان تقنينها يفتقر للتخصيص لمثل هذا النوع من الأدلة العلمية، و نجد نص المادة 143 من قانون الاجراءات الجزائية تنص على " لجهات التحقيق او الحكم عندما تعرض لها مسألة ذات طابع فني أن تأمر بندب خبير ، اما بناءا على طلب من النيابة العامة و اما من تقاء نفسها او من الخصوم "
لكن هذا غير كاف للتحليل و الشرح في مدى أهمية استخدام تقنية الحامض النووي و انشاء بنك المعلومات كما هو في الدول الكبرى في المطارات و غيرها لاقتفاء أثر المجرمين..
و لكن لا يغفل على أحد أن مبدا المحاكمة العادلة تلجأ للأدلة التي فيها الحقيقة و بالتالي على الدول التي لم تواكب بعد الركب التطوري في استخدام التقنية الحديثة ما يلي :
*تخصيص بروتوكولات عمل منظمة للدليل البيولوجي ،لمكافحة الجريمة خاصة منها المنظمة و العابرة للقارات.
*برمجة دورات تربصية للقضاة لتطوير معارفهم بالأدلة الجنائية  و بالأخص دليل DNA  و عدم الاكتفاء باستخدام الحجية للبصمة الوراثية في قضايا اثبات النسب فقط .
*سن قانون في مجال الاثبات لإدراج الدليل البيولوجي في قائمة الأدلة الجنائية و اعطاء القاضي الجنائي الحرية في اقراره بما يراه  محققا  للعدالة و ضمانا للحقوق و مظهرا
للحقيقة التي هي الغاية الأساسية التي يتطلع  اليها المجتمع من عملية الاقرار بالدليل البيولوجي في القضايا المطروحة أمام القاضي الجنائي.
و في الأخير تبقى حجية الدليل البيولوجي ( DNA) مرهونة بالاحتواء و التوجيه العقلاني و المنطقي و اني أرى في نصوص القرآن الكريم بمنطلق الاعجاز العلمي  خير آلية لحماية هذه الحجية من التضليل خاصة و أن التطور البيولوجي أمكن تزوير محتويات الحمض النووي و عليه تبقى  حجية دليل الحمض النووي او DNA  غير ثابت في معيار مساهمتها في مجال الاثبات الجنائي ،بمعنى أنها ليست مطلقة دائما و ليست نسبية كذلك ، ليبقى مجال الدراسة مفتوحا و بكثير من التعمق و الدقة لمعرفة الضوابط الناجعة للحد من العبث بالحمض النووي أو تزويره حتى لا تظل العدالة  في دهاليز المحاكم.
فكم يبدو الماضي بعيدا عن الحاضر في مدى تقدمه و تطوره بعد أن كان الاهتمام بدراسة الجريمة و المجرم و ّاهم صفات الاجرام انتقل العلم ليدرس الدليل الذي تحمله  الجينات البشرية ، فإلى أي مدى ستصل الثورة البيولوجية من البحث و الاختراع و الاكتشافات ؟..
 
 

أضافة تعليق