بقلم / أحمد الأسيوطي
اذا اردت ان تفهم القرآن الكريم وان تخالطه بعقلك وروحك فأنظر إليه كأنك تحاوره
اذا اردت ان تفهم القرآن الكريم وان تخالطه بعقلك وروحك فأنظر إليه كأنك تحاوره
وحاوره في طور نزوله هو غض يافع لم يثقل بالشروح والتفاسير والمسائل الفقهيات
حاوره كما نزل وكأنه الان نزل !!
- كيف نزل ؟
لقد نزل القرآن في شكل خطاب
الله يخاطب الناس ويكلمهم بهذا القرآن كلام اجتماعي وسياسي واقتصادي وعسكري وزراعي وتجاري وتنظيمي واحيانا يصف احوالهم وربما خاطبهم متهكما من بعض حالهم ويقص عليهم القصص ويحكي لهم العبر والمواعظ
كان القرآن بينهم كأنه رجل منهم ..يخاطبهم ويخاطبونه ..
يتفاعل يوميا ومع كل حركة وحدث يحدث بينهم
وهنا يجب عليك ان تفهم ان كل خطاب يكون على حسب قدر عقل المخاطب وفي نفس الوقت على حسب حاله وزمانه ومجتمعه وإلا لن يفهمه وبالتالي يستحيل عليه العمل بما جاء فيه
وينظر الى الخطاب ككل اذا اردنا ان نعالج قضية فيه بالكامل ولا ننظر إليه مجزء
دعوني اعطي امثله وسأبدأ من حيث انتهيت :
قضية المرأة في الاسلام .. لا يمكن ان انظر إليها من خلال " وللذكر مثل حظ الانثيين " فقط واسكت .
ثم آتي كما يأتي البعض ويريد ان يساوي بين الانثى والذكر في المواريث
طبعا من يقول ذلك لا يفهم شيئا ..
لان أب المتوفي مثلا وهو ذكر يرث اقل من بنت المتوفي رغم انها انثى
فالقضية اذن انه عندما وزع الله سبحانه المواريث لم تكن قضية ذكر وانثى او تفضيل احدهما على الاخر .. وانما دائما وبالعقل والمنطق يتم توزيع الحقوق على نفس قدر الواجبات " الغنم بالغرم "
فالمرأة في الاسلام كائن نظر إليه القرآن من كل جوانبه الفسيولوجية والوظيفية وعندما وضع الاسلام نظريته للحياة جعلها " مكفولة " ماليا دائما ..غنية كانت او فقيرة .. ولم يكلفها بأي عمل سوى العبادات وفي نفس الوقت اسقط عنها العبادات في الايام القهرية التي ينالها فيه ما لا ينال الذكور
اذن المرأة في الاسلام هي بالفعل جوهرة مصونة ..
فإذا ما اساء إليها احد فهذا ليس ابدا من الاسلام لان الله لا يخلق مخلوقا ويهينه .. إلا من اهان نفسه كالشيطان
ناتي الان إلى الامثلة الاخرى التي تبين لنا كيف ان القرآن هو خطاب :
في الحياة السياسة :
يرشد النبي الى المشورة " وشاورهم في الامر " أي خطاب تشاوري
في الشئون العسكرية :
" واعدوا لهم ما استطعتم من قوة " ,
" قاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا " ,
" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم "
" وان جنحوا للسلم فأجنح لها " .. وغيرها من الايات المنظمة للشئون العسكرية
فالخطاب هنا خطاب تجهيز واعداد واثارة الحماسة وفي نفس الوقت التأكيد على عدم التجاوز وعلى البر مع المخالفين في العقيدة
في الحياة الاجتماعية :
يعاملهم كمستشار اجتماعي ونفسي وتربوي
فيزج بالمرأة في الحياة العامة تدريجيا حتى تتخذ مكانتها اللائقة بها كإنسانه مكرمة من الخالق
ويربي النشء الصغير على الاستئذان والتأدب
ويتدرج معهم للتخلص من عادة شرب الخمر
ويرد الاعتبار الانساني للرقيق ويسميهم بالاخوان في الدين " فأخوانكم في الدين " فبعد ان كانت منزلة العبيد قبل الاسلام من منزلة الحيوان ..رفعه الاسلام الى درجة الكرامة الانسانية وألزم صاحبه بأن يطعم العبيد ويكسيهم من نفس ما يأكل ومن نفس ما يلبس ويجعلهم اهلا للعلم واشتهر كثير منهم بالعلم مثل عكرمة مولى بن عباس وسالم مولى حذيفة ونافع مولى بن عمر
وفي نفس الوقت يجعل عتق العبيد احب الاعمال إلى الله " فك رقبة " دون ان يطلب ذلك مباشرة لانهم كانوا يعتمدون على العبيد اعتمادا كليا في شئون حياتهم مثلما هو الوضع الان في دول الخليج من النادر ان تجد بيت خليجي ليس فيها خادمة او اثتتين من شرق اسيا وسائق من الهند .. انهم لا يستطيعون التخلي عن ذلك ليس غرورا ولا تكبرا ولكن الاعباء الحياتية وظروف المعيشة والعادة والتربية تطلبت ذلك اذ من النادر ان تقف ربةمنزل وتطبخ بمفردها ..هكذا تعلمت من امها وعلى هذا تربت ليس غرورا ولا تكبرا فمعظمهم يعاملون خدمهم معاملة انسانية محترمه ..
فخطاب الاسلام الاجتماعي كان خطابا واقعيا لم يعاند المجتمع في عادة فيها اثم ومنفعه والتي اثمها اكبر تدرج في منعها " الخمر " اما ما هو معلوم انه ضرر محض فقد حرمه فورا لان المجتمع والنفس تزدريه مثل الزنا والسرقة
وخطاب القرآن الاجتماعي ليس ملزما في حرفه وانما ملزما في منهجيته
لانه بحرفه كان خطابا في زمن معين ..والزمن تغير اذن لم يبق لي إلا منهجه الفكري الاجتماعي لان القرآن خطاب فكري ونظرية واحده هي الرقي بالانسان دون تحطيمه ..
فمثلا : شهادة المرأة في الاسلام يجعلها من يجعلها نصف شهادة الرجل خاصة في المعاملات التجارية مستشهدا بنص الاية من القرآن " فإن لم يكونا رجلين فرجل وإمرآتان "
الشهادة وسيلة من وسائل الاثبات وحين يشرع اي مشرع قانون للاثبات فإنه يراعي الممكن ويراعي الواقع فالممكن حينها والمتيسر في الشهادة في التجارة هم الرجال لانهم من يتولونها فالحرة لا تتاجر بنفسها بل لا تذهب الى السوق إلا الفقيرات وانما ترسل خادمتها او خادمها ليبيع ويشتري
فإنتعذر المتاح والشائع في الاثبات " رجلين " فرجل وإمرآتان " ليس انتقاصا من المرأة بل لان وجودها في التجارة لم يكن شائعا وهنا يحسب للقرآن انه بشكل غير مباشر يزج بالمرأة في الحياة التجارية وفي الشهادة والاثبات في وقت كانت فيه قبل الاسلام تعد متاعا والبعض كان يدفنها حيا بمجرد ان تولد او يظل وجهه مسودا وهو كظيم ان ولدت له انثى !!
فالقرآن هنا لا ينتقص من المرأة في الشهادة بل هو يوفر لها موضع قدم في المعاملات التجارية في مجتمع لم يكن يعرف للمرأة ذلك من قبل ..
جدير بالذكر ان هذه الاية ابلغ رد على من يدعون ان صوت المرأة عورة فالقرآن هنا يطلب شهادتها قريبة كانت ام أجنبية ..
فإذا ما شاع تدخل المرأة في الحياة التجارية او اذا ظهرت وسائل في الاثبات اقوى من شهادة رجلين او رجل وامرأتان ؟ هل يكون لنا ان نعمل بما هو اقوى ونجعل الشهادة في مرحلة متأخرة ؟ الجواب نعم .. لان الاسلام في هذه الاية ينظم الحقوق المالية ويرشد الى افضل سبيل لحفظ الحقوق واثباتها ولا يقصد كما فهم البعض ان الاية موجهه ضد النساء !! بل حتى انها ليست موجهه لصالح الرجال وانما هي منظمة لقوة الدليل في الاثبات من الاقوى إلى الاقل قوة بحسب الحال ..
نجد ذلك واضحا في القوانين الوضعة فوسائل الاثبات في المسائل المدنية تختلف عن وسائل الاثبات في المسائل التجارية
فالعلاقات التجارية تحتاج الى مرونة وبالتالي كل ما يصلح وسيلة للاثبات فهو مقبول .. في حين ان المسائل المدنية لا يجوز اثباتها إلا بالكتابة
كذلك خطاب القرآن فيما يخص باقي شئون الحياة هو خطاب منظم يهدف الى غاية هذه الغاية لن تتحقق إلا من خلال التطبيق والتطبيق مقيد بجماعة زمنية وبالتالي ارتبط الخطاب بها فهو مثلا من اهدافه صيانة المجتمع من الاثارة الشهوانية ومن التعرض للنساء والتحرش بهن .. هذه مشكة كانت - ولا تزال - في مجتمعاتنا العربية والشرقية لا يمكن للخطاب القرآني ان يتجاهلها فهي واقع والقرآن يعيش الواقع مع الصحابة فهنا واجه هذه المشكلة بادناء الجلابيب والامر بغض البصر وبالخمار وغيرها من الالتزامات المتعلقة بالنظر وبالظاهر من كلا الجنسين ..
لكن هب مثلا ان القرآن نزل في السويد او النرويج حيث لا مشكلة فلا تحرش ولا تستثار غريزة رجل لان امرأة سافرة وغير محجبة اذا ذهب القرآن بشخصه " اذا افترضنا انه شخص " وقال يجب على المرأة ان تغطي شعرها إلزاما ؟ فالسؤال المنطقي هنا هو : لماذا ؟ فكيف يكون رده ؟ ان شعر المرأة هناك ليس مشكلة ؟ انه مثل ان تفرض على انسان غير مريض بأن يتناول دواء ضد البرد !!
القرآن خطاب عقلاني , لا يهمه فلانه تحجبت او فلانه خلعت ما يهمه هو هل الفرد مصان ام لا حتى يستطيع ان يحيا آمنا ويحقق غاية الله من ايجاد الانسان على الارض " عمارة الكون " .. هل المجتمع مصان ام لا ؟!! هذا هو ما يهم القرآن وخطابه ..
ومن هنا تعلم المحجبة اي جريمة ترتكبها ان خلعت الحجاب في مجتمع لا يتوفر فيه صيانه للمرء في نفسه ولا للمجتمع فإن ضمن لنفسها الامن فالمجتمع لا يزال يسيل لعابه لكل ما هو انثى فالحجاب له وظيفة فردية ووظيفة مجتمعية لا يمكن التضحية بأحدهما فالانسان ملزم تجاه مجتمعه ولا تقول واحده ما ذنبي انا اذا كان المجتمع مريض اومتخلف ؟ في الحقيقة كلنا مذنبون ولكن ما علينا المهم هو ان المرء لا يعلم من أين تأتيه الذئاب البشرية فلزم الحجاب والذي هو هنا رمز للاحتشام في الملبس وليس فقط مجرد تغطية الرأس
كلامي هذا قد يكون صادما للكثيرين ولكن ان لم نفهم غايات الخطاب الاسلامي والقرآني تحديدا ضعنا وضيعناه معنا
ان فهمنا للغاية يجعلنا ندرك ان المسلمون يكونون عرضة للخطر الاجتماعي ان انتشر السفور غير المنظم في بلداننا وفي المقابل يكون الاسلام نفسه عرضة للخطر ان ألزمنا الاوربيات بالحجاب فنكون كطبيب يصف دواء لشخص غير مريض .. لن يسمع له احد وسيرمونه بالجنون والتخلف
لا اقول انه في اوربا الحجاب ليس فريضة يعني انه يحرم ارتداؤه على الاوربية بل قد يكون من مندوب " سنة او مستحب " لاظهار الاسلام واعلام الناس ان هنا مسلمه تحترم جسدها حتى وان كان آمنا من الاهانه او الاذى
ولانه كما هو معلوم ان كل بيوت الازياء انما يصممون ازياء النساء بهدف ابراز مفاتنها وانوثتها ..
وغايتي من هذا هو عدم وضع الاسلام برمته في اوربا في مواجهه مع لا مشكلة لاني بذلك بالفعل اصنع مشكلة اكبر ..
واجعل من الخطاب القرآني خطاب اجتماعي تصادمي في حين انه في الاطار الاجتماعي يختار السبيل الايسر والاكثر ملائمة دون ان يتكلف له جديدا
فمثلا حين اراد صيانة مفاتنها لم يتكلف لها ان ترتدي زيا مخصوصا وانما امرها بنفس الخمار الذي ترتديه ان تسدله من الامام بدلا من اسداله خلف ظهرها وبنفس الجلباب بأن تدنيه فلا يعلم ماذا في قدمها من زينة ..
الخطاب الزراعي :
لاشئ ..
لم اجد .. فهل هذا قصور ؟!!
معاذ الله ..
قد يكون قصورا مني في البحث ولكن انا فلان الفلاني لم اجد بعد
وهذا يؤكد عندي ان القرآن خطاب تفاعلي مع المجتمع
فكيف يكلمهم في الزراعة بأمر ونهي وهم ليسوا بمجتمع زراعي اصلا
الزراعة عند العرب لم تكن مهنه ولا حرفه بل هي اشبه بالثروات الطبيعية .. الله يرسل السحاب فينزل المطر فتنبت الارض
لذلك ما جاء في شأن الزراعة كان ايات تدعو الى التأمل فقط واخرى تقول "وآتوا حقه يوم حصاده " وهي ليست في شئون الزراعة وانما هي بالحقوق المترتبة على الحصاد " اي بعد انتهاء عملية الجمع او الحصاد "
ولكن حين تكلم القرآن الكريم مثلا عن قصة سيدنا يوسف ولان المجتمع المصري مجتمع زراعي نجد القرآن ذكر تفاصيل في عملية الزراعة
فقال " قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون "
بل ان ذلك مدخل تأسيسي في علم الاقتصاد الزراعي
ولكن العرب لم يكونوا يعرفون ذلك .. ليس لانهم لا يعرفون هذه المعلومة الزراعية التي بالتأكيد انتشرت وصارت خبرة عامة وتراث زراعي للبشرية عامة وانما لان مشكلتهم مع الزراعة نابعة من مشكلتهم مع الماء
الماء وليس السنابل او البذور
لو ان القرآن كان شخصا يعيش في مجتمع زراعي لوجدنا مثل الايات في سورة يوسف تتكرر كثيرا
الخطاب التجاري :
تحدثنا عنه وكيف حفل القرآن بأهم ما في العملية التجارية برمتها وهي : وسائل الاثبات وذلك لانه جاء في مجتمع التجارة هي مهنته وحرفته الاولى فكان اهتمام القرآن بتنظيم الحقوق في المعاملات التجارية وتحريم بعض المعاملات مثل الربا وتحديد اوقات يحرم فيها البيع مثل وقت النداء لصلاة الجمعة ..
الخطاب التهكمي :
مثل قوله تعالى " ذق انك انت العزيز الحكيم "
فيسخر ممن كان يظن نفسه صاحب عزه في الدنيا ومنعه تحول بينه وبين عذاب الاخرة
ومثل قوله تعالى " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان هن اردن تحصنا " في الخطاب سخرية خفية من الذي يدفعون بالاماء الى ممارسة البغاء " الدعارة اي الجنس مقابل اجر " في الوقت الذي تتعفف فيه الفتيات فتكون الامة اكثر عفة وشرفا من سيدها عديم الشرف .. ان مفهوم الاية قد يظن منه البعض ان الامة اذا لم ترد التعفف جازدفعها الى ممارسة البغاء ولكن هذا غير مراد من الاية انما هو كما ذكرنا يصف حال هؤلاء الاسياد الذي كان موجودا بالفعل ويعيرهم بأن الاماء اكثر شرفا منهم ..
وهناك امثله اخرى على تنوع الخطاب القرآني نكتفي بما ذكرناه على سبيل المثال
اذن :
الخطاب القرآني خطاب تفاعلي .. يريد ان ينظم الحياة وينظم كل مجتمع حسب معطياته ليستمر المجتمع في اعمار الارض بسلام وآمان دون مضايقات او مشاكل ..
ان القرآن الكر يم كشخص يعيش الحياة بيننا مثلما كان يعيش بين الصحابة
ان القرآن كشخص يعيش في كل العصور وخطابه لكل العصور
كيف ذلك وهو محدود بحروف لم تتغير وفي قالب نصي لم يتبدل ؟!!
ان ذلك يتأتى من خلال فهم غايات الخطاب القرآني
وإلا لمات هذا الشخص الذي اسمه " القرآن " بوفاة الجيل الاول او الثاني على الاكثر ..
يعني تخيل ان القرآن شخص عمره 1436 عاما وانه يردد نفس الكلام منذ ان ولد .. لو كان شخصا اخر فما كان سيستمع له احد وربما وضعوه في متحف ليكون " فرجة " للزائرين
اما ان كان كلامه متجدد فسوف يلقى اذنا صاغيا في كل مره
وتجديد القرآن انما هو بتجديد فهمه حسب كل عصر ولا يكون ذلك إلا بمعرفة غاياته وماذا يريد منا هذا الشخص الذي اسمه " قرآن "
---
---
